ارشيف من :أخبار لبنانية
غارات على ايران قد تتحول إلى حرب شاملة
بدا من تعيين روبرت جيتس وزيرا للدفاع في الولايات المتحدة في نهاية مرحلة بوش، واستمراره في منصبه في فترة أوباما أن المؤسسة العسكرية الأميركية ازدادت قربا من عملية صنع القرار في قضايا الحرب والسلم، وبالتالي في السياسة الخارجية، وذلك تحت وطأة النتائج الوخيمة للحربين في العراق وأفغانستان.
فعلى مستوى "القرص الصلب" للمؤسسة والذي لا يتغير مباشرة بالانتخابات، لوحظت عمليا بوادر مرحلة اوباما في نهاية مرحلة بوش. ووجد التفكير الجديد تعبيراته في لجنة بيكر\هاميلتون ( قدم التقرير للرئيس بوش يوم 6 كانون الأول ديسمبر 2006). وأهمها الدعوة للحوار مع الدول المحيطة بالعراق، ومنها سوريا وإيران، وذلك للإسهام في استقرار العراق، ولتجاوز المأزق الأميركي في هذا البلد الذي قوَّضت بنيانه السياسات العدوانية المغامرة، والدفع نحو تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، أي إعادة الحياة لما يسمى بـ"عملية السلام".
ما يهمنا من هذه البوادر هو تعيين روبرت جيتس في منصب وزير الدفاع بدلا عن رامسفيلد، وتجرّؤ المؤسسة العسكرية على الأخير، وضد مغامرات المحافظين الجدد. جاء جيتس ممثلا عن المؤسسة العسكرية. وازداد قوةً ونفوذا في فترة أوباما. وهو يجمع بوضوح بين مركّبيْ رفض تسلح إيران نوويا، ومحاولة تجنب الحرب الشاملة على إيران. هذا هو الموقف المؤسسي الحالي في الغرب بغض النظر عن ظواهر هستيرية، شبه طوني بلير، لم يعد يقبل بها سوى بعض الرسميين العرب.
ويعود رفض تسلح إيران بالسلاح النووي لأسباب متعلقة بتاريخ العلاقة الأميركية الإيرانية بعد الثورة الإسلامية. ومنها أسباب عقلانية وغير عقلانية حتى من وجهة نظرٍ أميركية. وهي نفس الأسباب التي تدعو نظاما مهدَّدا باستمرار من قبل أميركا، التي لم تعترف به حتى اليوم، للتفكير بامتلاكه لغرض الردع.
لدينا هنا علاقات عداء متبادل، تشمل رغبة معلنة وعملا على إسقاط النظام منذ الثورة من جهة، ورفضا إيرانيا لقبول الهيمنة الأميركية وتبعاتها في المنطقة. ولكن السبب المباشر الذي يُطرَح، هو الموقف الإسرائيلي من إيران حتى في مرحلة الإصلاحيين، في مقابل الموقف الإيراني من إسرائيل. وهو أيضا الكامن خلف عدم تغيير طبيعة العلاقات الأميركية الإيرانية، حتى بعد أن تغيّر الكثير في البلدين. وهو "الدينامو" الذي لا يعرف الكلل، ويتحرك دوليا لفرض العقوبات، ولإبقاء الموضوع ملحا على جدول الأعمال، ولمنع تراجعه على سلم أولويات الدول الغربية. إسرائيل هي الدولة الأكثر حركة ونشاطا في هذا الموضوع. وهي أيضا الأكثر حزما ووضوحا في طلب استخدام كافة الوسائل لمنع إيران من الوصول إلى القدرة على إنتاج سلاح نووي. وهي الطرف الذي يضغط لكي لا يسقط الخيار العسكري ولو نظريا من لعبة الجذب والرخي مع طهران. و"اللوبي" الإسرائيلي في الكونجرس وفي الإدارة هو من يقود الحملة على إيران. وتعيين دينس روس مستشارا ومبعوثا خاصا لهذه الشؤون في البيت الأبيض هو تتويج لعمل هذا "اللوبي". ولا يجد القادة الغربيون عموما ما يبرر معارضتهم للقدرة النووية الإيرانية سوى أمن إسرائيل، و"القلق من خطر يهدد وجودها".
وفي خضم المناقشات مع أوروبا حول العقوبات أحيت إسرائيل الذكرى ال61 لتحرير أوشفتس، أكثر مما أحيت الذكرى الستين. وعجت أوروبا بممثليها الرسميين كخطباء في كل عاصمة، في استدعاء لعلاقة بين المحرقة النازية وموقف إيران من وجود إسرائيل. لا حدود طبعا لما قد يقدم عليه الاستثمار السياسي.
ولا مجال لحصر الجبهات التي تعمل فيها إسرائيل والولايات المتحدة للضغط على إيران ومنع تسلحها، ولغرض فرض العقوبات: الساحة الأوروبية، وروسيا، والصين، والهند، والمنطقة العربية، وحتى أفريقيا. لا يوجد مجال من الصناعة والبنوك وحتى وسائل الإعلام الا ويُحَوَّل إلى حلبة صدام لإضعاف إيران ومحاصرتها. حتى الجبهة اللبنانية السورية أصبحت من وجهة النظر الإسرائيلية خاضعة لحسابات الجبهة الرئيسية ضد طهران. فالتهديد الوجودي برأي الإسرائيليين يأتي حاليا من هناك، والخطر الاستراتيجي هو سلاح الصواريخ وما يشغل بال الإسرائيليين بمنتهى الجدية هو: أ. مداه ب. دقته ج. وزن رؤوسه المتفجرة وقوة انفجارها وطاقتها التدميرية ح. نوع الرؤوس التي يمكنه حملها.
في الماضي شكلت الأنظمة القومية العربية في الستينيات تهديدا حقيقيا. فقد تناقضت وجوديا مع إسرائيل. ووجهت ضدها الطاقات على الجبهات كافة. أما حاليا فالخطر المرئي هو النظام المعادي الذي يحمل إيديولوجية مقفلة ضد إسرائيل. ولا تظهر فيه فتحة واحدة للتسوية معها، ويمتلك سلاح الصواريخ.
ويبقى العرب طبعا، هم النقيض الوجودي على المدى البعيد، ولكنهم حاليا غير منظمين، ولا يُعبَّر عنهم في أمة ذات سيادة، ولا حتى في دول منفردة تعبر عنها.
لقد وصل الأمر بنتنياهو إطلاق تسمية "العماليق الجدد" على إيران (هآرتس 18 فبراير 2010). و"العماليق" هم الشعب الذي أوعز "يَهْوَ" في التوراة "لقضاة شعب إسرائيل" بإبادته بشكل شامل في أول "جينوسايد" في التاريخ يصدر كأمر الهي، وينص حرفيا على إبادة النساء والأطفال وحتى البهائم. طبعا هذا غير ممكن في عصرنا. ولكن الممكن كما يبدو هو أن يقوم رئيس وزراء علماني في دولة "ديمقراطية" باقتباس تسمية من هذا الإرث ضد أعدائه السياسيين، دون أن تثور ثائرة العالم المتحضر الذي يحلو له ان يكره نجاد، بأدبائه وفنانيه ورواد مؤتمراته للحوار على أنواعها، ودون أن تكتب نيويورك تايمز حتى افتتاحية حول هذا الاستخدام الخطير والدموي للمخيلة الدينية الدموية.
أما رفض الحرب الشاملة مع إيران من قبل الولايات المتحدة فيعود لأسباب متعلقة بنتائج هذه الحرب الممكنة على منطقة الخليج، بما فيها العراق والمناطق الأخرى، والعجز كما يبدو عن حسابها بدقة. كما يعود لمدى قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تحمل نتائجها، ولعدم وجود حلفاء مشاركين في مثل هذه الحرب، وذلك رغم كثرة العاملين على الحض عليها والتدبير لها. كما يعود التردد لورطة السياسة الأميركية العسكرية في العراق وأفغانستان، بفضل مقاومة هذه الشعوب، ولقدرة الجيش الأميركي على مطّ نفسه على جبهات أخرى.
هنا لا بد من القول إنه كان بإمكان الدول العربية الاعتداد بمنع مثل هذه الحرب، فبدون موافقتها لا يمكن أن تجري. ولكن موافقتها وحدها لا تكفي لشن الحرب. وهي اختارت "ألا تكفي" بدل "أن تمنع". وهذا هو المكان للتذكير أيضا أنه لو وقفت الدول العربية بشكل منظم ضد الحرب الأميركية على العراق لمنعتها.
وطبعا هنالك أسباب سياسية مباشرة متعلقة بانتخاب اوباما كي يضع حدا لحروب بدأها سابقُه. فهو لم ينتخب لكي يبدأ حروبا جديدة. ولا يُظهِرُ الرئيس الاميركي علامات نجاح في إنجاز المهمة الأولى، فما بالك بالمبادرة لحروب جديدة لا تُعرَفُ عقباها كي تُحمَد أو تذم.
وهنالك بذور لفكر سياسي أميركي لم تجد لها أرضا خصبة لتنمو في ظل سيطرة الرؤية الإسرائيلية على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ولا يستبعد هذه الفكر توصل إيران لقدرات نووية. ولا يرى في ذلك نهاية الدنيا. فإيران تفوق باكستان تنظيما ومأسسة كدولة. وبموجب هذا الرأي لا بد من التوصل الى تفاهمات شاملة معها. فقد طورت وتطور براغماتية وطنية بناءً على مصالح دولة متزايدة، وهي ترمي الى ترجمة قوتها الاقتصادية والسياسية والديموغرافية والاستراتجية الصاعدة إلى مكانة دولية وإقليمية. وهي قوة لا فضل فيها لأحد إذ بنيت في ظل الحصار. ومن خرق الحصار لم يخرقه بلا مقابل، بل بالدفع عدا ونقدا (روسيا) أو بأسعار نفط مخفضة ( الصين)، أو لفوائد تجارية ومالية وعقارية لا حد لها (دبي). وسوف نعود الى هذا الموضوع في سياق آخر لاحقا.
ولذلك فما المانع، من وجهة النظر هذه، من احتواء إيران في إطار الاعتراف بمكانتها، وذلك مقابل قبول إيران لشروط تتجاوب من خلالها ليس فقط مع أميركا، بل مع جزء كبير من الرأي العام الإيراني، الذي يطالبها بإيلاء اهتمامها لمواطنيها ولمصالح الدولة الوطنية أولا. (إيران أولا، إذا صح التعبير).
لقد قطعت إيران شوطا في هذا الاتجاه. ويتجلى ذلك بشكل خاص في علاقتها مع الدول العربية المحيطة ومحاولتها المستمرة تحويل الانتماء الطائفي الى ولاء سياسي لها، أي الولاء لـ"إيران أولا". ولكن ما زالت الإيديولوجية الإسلامية المذهبية التي يقوم عليها النظام تحد من انطلاق النزعة الدولتية البراغماتية بحرية، فهي تؤكد ليس فقط على ما يفرق إيران عما حولها، بل أيضا على ما يجمعها بما حولها، وهو الإسلام طبعا، والعداء لإسرائيل.
في ظلِّ موقفٍ يتراوح بين رفض القدرة النووية الإيرانية من جهة، وتجنب الحرب الشاملة على هذه الدولة من جهة أخرى، يبقى هامش مناورة لإيران، وهامش ضغط ومواجهة للولايات المتحدة وإسرائيل. ويتراوح مجال عمل الولايات المتحدة وإسرائيل من الحث على فرض عقوبات اقتصادية، مالية وتجارية ومتعلقة بالنقل والمواصلات، وحتى الغارات المحسوبة ضد مواقع محددة كما فعلت إسرائيل ضد العراق، "ووقائيا" ضد سوريا ( موقع دير الزور). وبينهما العمل الاستخباري، بما فيه دعم مناوشات مسلحة في مناطق حدودية إيرانية.
وقد أضافت الولايات المتحدة إلى أجندتها مؤخرا دعم المعارضة الإيرانية الجديدة. ففي الماضي تركز الدعم على المعارضة التقليدية من أنصار النظام القديم. ولا يمكن للولايات المتحدة تجاهل الأفق الذي فتحته المعارضة الجديدة الملتفة حول رفض نهج نجاد ونتائج انتخابات العام الماضي. وهي معارضة أعمق واشمل وأوْزن من المعارضة التقليدية. ومن هنا فسوف تحظى بدعم غير تقليدي أيضا، مباشر وغير مباشر.
ويتراوح الهامش الإيراني بين تجنب العقوبات لأطول فترة ممكنة، وطرح المبادرات في فترات تقدّم التخصيب تحديدا، والحفاظ على العلاقات مع دول تهمها مصالحها الاقتصادية اكثر مما يهمها رضا الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا. فحتى دولة مثل الهند دخلت التحالف الاميركي الاسرائيلي (بفضل العرب وباكستان الى حد بعيد) ويهمها اعتبارات هذا التحالف الاستراتيجية أكتر مما تهم الصين تجد أسبابا استراتيجية لعدم التفريط بالعلاقة مع إيران مثل: الالتقاء في الموقف من باكستان في أفغانسان وغيرها... فضلا عن أن الهند تكرر ما يقترب من 40% من البنزين المستورد إلى إيران. وقطع توريد النفط المكرر لإيران هو أبعد خطوة تفكر فيها الولايات المتحدة على مستوى "العقوبات الفعالة". وهي تهدد أن تستخدمها في النهاية. وعندها سوف تضطر للضغط ليس فقط على الصين بل على الهند أيضا... ولكن قدرتها على الضغط على دولة مثل الهند تتآكل تدريجيا مع تراجعها أمام طالبان، التي سوف تنتصر في النهاية برأينا. كما تراجعت قدرة الضغط على الصين مع الأزمة المالية العالمية.
حين نحسب حدود المواجهة في الحقل المفتوح الممكن بين تجنب الحرب الشاملة من جهة، ورفض القدرات النووية الإيرانية من جهة أخرى، يُستَحسَن حذف تلك الأدوات التي يمكن ان تتحول الى حرب شاملة مع أنها لا تحمل هذه الصفة. فشن الغارات ممكن نظريا كحد المواجهة الأقصى، مع العلم أن أحد الطرفين قد يحوله إلى مواجهة شاملة، لأنه يعني الحرب بالنسبة له. ومن يريد أن يتجنب الحرب الشاملة، يمكن تهديده بالحرب الشاملة أيضا. وهو نموذج تهدد به سوريا وحزب الله حاليا لتجنب عدوان إسرائيلي. فالغارات على مواقع معينة في إيران قد تتحول الى حرب شاملة. هذا يتوقف على نوع الرد الإيراني. وهنالك أيضا سؤال هل تعتبر إيران منع الإمدادات الواردة اليها مثل النفط المكرر سببا لمناوشات ناجمة عن قطع طريقها في مضيق هرمز. وهل تقبل الولايات المتحدة بالتحدي دون ان ترد عليه... ألا تتدهور في مثل هذه الحالة بعض أنواع العقوبات إلى حرب؟
بقى أن تلجأ الولايات المتحدة تدريجيا الى تصعيد العقوبات بما يمكنها ضمان تجاوب الدول ذات الشأن، والبناء على تطور المعارضة الإيرانية على المدى البعيد. وهي قضية إيران الاساسية مستقبلا. وسوف يكون عليها التعامل بجدية أكبر مع جدلية المواطنة والإيديولوجية الرسمية للدولة. وهي مرحلة مر فيها الاتحاد السوفييتي ودول شرق اوروبا، كما مرت بها الصين. وليس هنا المكان لتفصيل هذه المعارك، ولكن معسكر الحقوق المدنية المحق في مطالبه لا يلبث ان يرى السياسة الخارجية والإيديولوجية كمسؤول عن مآسيه، دون وجود علاقة بين الأمرين، سوى استخدام النظام للإيديولوجية والتضامن مع المظلومين كتبرير لانتهاك حقوق المواطن وتقييد الحريات والفساد المالي للطبقات الحاكمة. قلنا كتبرير. ولم يكن من ذنب للمظلومين أو التضامن معهم في اي مكان في العالم بسوء ادارة الكولخوزات ولا بسياسة القمع الداخلية، ولا بفشل الخطط الخمسية. وإضافة لميل الناس لاتهام الإيديولوجية التي كانت قد فرغت من مضمونها تماما في زمن السقوط، ولسهولة التحريض بمثل هذه الشعارات ضد الإيديولوجية، فإن المعسكر الآخر يتهم الإيديولوجية في حملاته الإعلامية، وفي تسويقه لذاته. وكذلك يفعل بعض المعينين ذاتيا كناطقين باسم المظلومين، في مديحهم للسياسات الداخلية في الدول الشمولية. إيران تواجه حاليا جدلية من هذا النوع، لا بد من إدراكها لكي تصمد امام الضغوط.