ارشيف من :أخبار عالمية

غاز العرب.. وأمن "إسرائيل"

غاز العرب.. وأمن "إسرائيل"
محمد الحسيني
قضية تصدير الغاز المصري ـ العربي إلى الكيان الصهيوني ليست أمراً عابراً يندرج تحت إطار الملفات الساخنة والمعارك الداخلية التي تعصف بالساحة المصرية، بل تتجاوز ذلك إلى كونها إحدى المقوّمات الأساسية التي بنيت عليها العلاقات المطّردة بين القاهرة وواشنطن من جهة، والقاهرة وتل أبيب من جهة ثانية، منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد في 26 آذار/ مارس 1979 برعاية أميركية كاملة.

ويبدأ الفصل الأخير في هذه القضية حين اعتبرت المحكمة الإدارية العليا في مصر نهاية شباط الماضي بأن تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني "من أعمال السيادة ويخضع لاعتبارات الأمن القومي المصري". وفضّلت المحكمة الهروب إلى الأمام بإصدار قرارين إضافيين. الأول: اعتبار الحكم نهائياً وباتاً وغير قابل للطعن فيه بأي وجه من الوجوه المقررة. والثاني: عدم اختصاص القضاء بالنظر في هذا النوع من القضايا.

غاز العرب.. وأمن "إسرائيل"وما كان لافتاً هو دفاع الحكومة المصرية، التي استأنفت حكماً سابقاً أصدرته محكمة القضاء الإداري قضى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 بوقف تصدير الغاز، فقد اعتبرت أن القضية هي صفقة تجارية "قائمة بين شركتي أسهم لمصريين وإسرائيليين"، وهو ما يجعل القضية أمراً يندرج تحت العنوان التجاري البحت ولا يأخذ شكلاً تشريعياً، وبالتالي فهو لا يستلزم البحث تحت قبة البرلمان، كما لا يخضع لرقابة القضاء.

والمفارقة أن وزارة البنى التحتية الإسرائيلية كانت أبدت اطمئنانها بأن القاهرة ستواصل تصدير الغاز الطبيعي لها برغم القرار القضائي الأول بوقفه، وقالت في بيان لها: "نحن متأكدون أن اتفاق الغاز مع مصر والاتفاقيات التجارية الأخرى ستحترم.. ونحن لا نشك إطلاقاً في احترام الاتفاقيات التجارية المبرمة بين المؤسسة المصرية (غاز شرق المتوسط) وزبائنها في إسرائيل".

اتفاقات لتكبيل مصر
ولكن هل الأمر يقف عند حدود دفاع الشعب المصري عن واحدة من ثرواته الوطنية التي تباع لـ"جار عدو" بأسعار بخسة في ظل أزمة اقتصادية خانقة يتخبط بها المجتمع المصري؟ وهل تمسّك الحكومة بقراراتها ناتج عن "الوفاء" بالتزاماتها كما نصت عليها اتفاقية كامب دايفيد؟ أو أن القضية لا تعدو كونها تلبية للاتفاقات التي وقعتها القاهرة منذ العام 2004 ببيع فائض الغاز الطبيعي لديها إلى دول شرق البحر الأبيض المتوسط ومن بينها "إسرائيل"؟

في الوقائع، تشكّل "اتفاقية الغاز" محوراً مركزياً في العلاقات الاقتصادية بين "إسرائيل" ومصر، وتعهدت القاهرة بموجبها بتنفيذ اتفاق عقد بين شركة "غاز شرق المتوسط" المصرية (EMG) وشركة الكهرباء الإسرائيلية بقيمة 2.5 مليار دولار لمدة 25 سنة. وبدأت مفاعيل هذا الاتفاق عملياً في 30 يونيو/ حزيران 2005 بحجم 1.7 مليار متر مكعب سنوياً، عبر أنابيب بطول مائة كيلومتر من العريش في سيناء إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي.

ولا بد في هذا المجال من الإشارة إلى ما صرّح به رئيس الهيئة السياسية والأمنية بوزارة الحرب الإسرائيلية الجنرال احتياط "عاموس جلعاد"، حيث أكد أن "العلاقة مع مصر هي ركن أساسي لأمن إسرائيل"، وقال في لقاء في معهد دراسات الأمن القومي إن "لدينا علاقات ودية وعميقة جداً مع مصر ومن المهم لإسرائيل أن تعرف كيف تحافظ على هذه العلاقات وتوسّعها وتعمّقها".

غاز العرب مطمع إسرائيلي
وعلى الرغم من ذلك، دأب كل مسؤول إسرائيلي زار موسكو على إثارة موضوع استيراد الغاز الروسي عن طريق تركيا، ومحاولة وضع الأمر في إطار مفاوضات رسمية تنتهي بتوقيع اتفاقات رسمية بين الطرفين، ويأمل الإسرائيليون من وراء ذلك تصعيد التنافس بين روسيا ومصر وقطر على بيع الغاز لكي تحصل على أفضل الأسعار.‏ وتقوم شركة "دانكنر" وشركة "ماشاف" الإسرائيليتان ببناء خط أنبوب للغاز القطري من العقبة حتى عسقلان.‏ كما بدأت "إسرائيل" منذ عام 1995، مفاوضات سرية مع شركة "بوتاش" التركية الحكومية، لإقامة أنابيب لضخ الغاز الروسي عبر تركيا وسوريا ولبنان ليصل إلى الخط المصري ـ الإسرائيلي.

غاز العرب.. وأمن "إسرائيل"وعلى خط موازٍ، تتطلّع "إسرائيل" إلى الاستفادة من غاز منطقة "تبوك" بالسعودية ونقله إلى محطة التجميع في ميناء العقبة. وتخطط للوصول إلى تنفيذ مشروع، بكلفة 4 مليارات دولار، يقضي بإنشاء خط لنقل الغاز السائل من السعودية إلى ميناء العقبة بواسطة البواخر، ومن ثم ضخه في خط الأنابيب الإسرائيلي وتتولى الشركات الإسرائيلية تسويقه.‏

التحكّم بالممرات المائية وبالعالم
أما في الخلفيات، فإن قضية الغاز ما هي إلا حلقة في سلسلة متكاملة من الاتفاقات أسّست لنهج سياسي بدأ في الثمانينيات ولا يزال مستمراً حتى اليوم، أصبحت مصر بموجبها في المرتبة الثانية بعد "إسرائيل" في حجم المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تتلقاها من الولايات المتحدة، بمتوسط ما قيمته مليارا دولار سنوياً، وبمجموع يتجاوز 28 مليار دولار منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد، فضلاً عن تثبيتها كشريك استثماري رئيسي لدى واشنطن منذ بدء القاهرة اعتماد سياسة "الباب المفتوح" والخروج من الإجماع العربي.

هذه الشراكة المصرية الأميركية، وتالياً الإسرائيلية، شكّلت مدخلاً لقنوات مفتوحة قادت إلى توسيع دائرة العلاقات الدبلوماسية والمصالح الأمنية المتبادلة، والتعاون العسكري القوي الذي تمثّل في تحديث الجيش المصري، وتسهيل التنمية الاقتصادية، سعياً لتحويل مصر واحدة من أقوى البلدان إقليمياً واستعادة زعامتها للعالم العربي، إلى جانب جهات استثمارية عربية رسمية أخرى، ولكن دون المساس باتساع الهوة بين الدول العربية والكيان الصهيوني بما يضمن الحفاظ على التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي.

وليس خافياً أهمية الموقع المهم الذي تحتله مصر على المستوى الجيو سياسي، فهي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط وتتصل عبره بالدول المتوزعة على حوضه من جهة، وتمتد على سواحل البحر الأحمر من جهة ثانية، مع ما تعطيه قناة السويس من مميّزات فريدة تجعلها نقطة اتصال بين القارات وطريقاً مختصرة أثّرت على حركة التجارة العالمية، وتسمح للولايات المتحدة بالسيطرة على أحد أهم الممرات المائية في العالم، وبالتالي التحكّم بالمصالح الدولية في شتى المجالات.

الاتفاقيات تشرعن وجود "إسرائيل"

ويبقى الهدف الأميركي المركزي هو الدفع قدماً باتجاه إسقاط المقاطعة العربية الاقتصادية للكيان الصهيوني وإزالة كل العوائق المحتملة أمام التطبيع بين "إسرائيل" والعرب، وقد تحدث بذلك صراحة تقرير أميركي صدر عام 2008 عن "مركز أبحاث الكونجرس" الذي أكّد أن "التطبيع الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية يجب أن يتأسس على تحقيق المصالح الإسرائيلية، وذلك من خلال الجهود التى تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يكون التطبيع بين العرب و"إسرائيل" لا يعني مجرد إقامة علاقات تجارية أو دبلوماسية، وإنما يشمل مراجعة لمفاهيم الصراع ولفهم التاريخ والمنطلقات الدينية، أي يجب أن يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه إسرائيل، فإن الاتفاقيات توفر لإسرائيل اعترافًا قانونياً بسيادتها كدولة، ولكن هذا الاعتراف لا يوفر لها شرعية وجودية لدى الشعوب العربية، وعليه فإن التعاون الاقتصادي يعد أهم الوسائل لتحقيق ذلك".
2010-03-09