ارشيف من :ترجمات ودراسات
التهديدات الإسرائيلية بالحرب سعي محموم لاستعادة صورة مفقـودة
نافذ أبو حسنة/ بيروت/ نقلا عن مجلة العودة/ العدد الثلاثون/ اذار 2010
يصل إيهود أولمرت إلى ذات الاستنتاج الذي كان قد وصل إليه نتنياهو، وقادة آخرون في الليكود، عقب انتهاء العدوان على غزة مطلع العام الفائت. لقد تحدث زعماء الليكود في حينه عن أن «الحرب لم تحقق أهدافها ما بقيت حماس وحكومتها في غزة»، وجاهر كثيرون بالقول: «لقد خرجت إسرائيل من دون أي إنجاز». بينما كان ثلاثي الحرب أولمرت ـ باراك ـ ليفني، يتحدثون عن «الإنجازات الكثيرة التي حققوها».
نذكر جيداً أن الهدف المعلن لتلك الحرب من قبل الاحتلال، وعلى لسان رئيس الوزراء ووزير الحرب ووزيرة الخارجية، كان يتمثل في السعي إلى «تغيير الواقع الأمني في الجنوب، عبر منع إطلاق الصواريخ، ووقف تهريب السلاح».
انتهى العدوان، ولم تتوقف الصواريخ، ولم يتوقف التزود بالأسلحة الذي أطلق عليه وصف «تهريب السلاح». أما الهدف الأساسي غير المعلن لتلك الحرب، وهو «تغيير الواقع السياسي في غزة»، فقد ظل بعيد المنال، ومثلما لم يجرِ الحديث عنه قبل الحرب العدوانية، فقد بقي بعدها مادة بيد المعارضة الليكودية، استخدمته للهجوم على حكومة أولمرت ـ ليفني في الحملة الانتخابية، التي أتت بنتنياهو رئيساً للوزراء.
الاعتراف ـ التأزم مستأنفاً
في مذكرات يعدّها للنشر قريباً، يتحدث رئيس حكومة الاحتلال إيهود أولمرت، عن أنه أراد مواصلة الحرب على قطاع غزة حتى القضاء على حماس نهائياً، وأنه كان يرى ذلك هدفاً يمكن تحقيقه، لكنه تعرض لعملية خداع من وزير الحرب باراك، ولم يجد حماسةً كافيةً لدى الجيش من أجل تنفيذ هذه المهمة، ملاحظاً أنه قد جرى التهويل عليه بحجم الخسائر التي قد تلحق بجيشه، وبالمدة الزمنية المطلوبة للوصول إلى الهدف.
باراك نفى هذه الأقوال، واضطربت العلاقة الشائكة أصلاً بين وزير الحرب ورئيس الأركان غابي أشكنازي، ولكن هذا موضوع آخر. أما ما هو أكثر أهمية فتلك الإشارة الواضحة (في ما جرى نشره من المذكرات) إلى أن أولمرت «خشي من أن يجد نفسه أمام فينوغراد ثانية، إن هو أصرّ على إعطاء الأوامر بمواصلة الحرب». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان رئيس الوزراء في حينه يعتقد بأن القضاء على حماس وتقويض وجودها في غزة، أمر ممكن، وهدف قابل للتحقق، فلماذا الخشية من لجنة تحقيق؟
«هنا مربط الفرس» بحسب القول الدارج. وعاصفة التجاذبات والتراشق بالاتهامات التي أثارتها وسوف تثيرها اعترافات أولمرت مع شركائه السابقين، وبين الشركاء أنفسهم، ستظل زوبعة في فنجان، مقابل ما تمثله (الاعترافات نفسها) على مستوى الأزمة الأشدّ والأكثر عمقاً التي يعانيها كيان الاحتلال، والمتعلقة بصورته وقدراته الردعية. ذلك أن الخشية من الوقوف أمام لجنة تحقيق أخرى تستبطن اعترافاً بأن الفشل كان سيرافق «استمرار الحملة على غزة» وليس فقط بسبب الخداع الذي قد يتعرض له رئيس الوزراء من وزير حربه وأركان جيشه.
والمتصور أن ما قاله رئيس الوزراء السابق، كي يجمّل صورته أو يبرر خيبته، قد أغضب الجميع تقريباً في كيان الاحتلال، بما في ذلك رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. ذلك أن هؤلاء جميعاً يريدون الاستقرار على فكرة مفادها «أن إسرائيل قد نجحت من خلال الحرب على غزة في استعادة صورة الردع المفقودة». وإذا كانوا يعرفون في قرارات أنفسهم بأن الواقع هو غير ذلك تماماً، فإن آخر ما يحتاجونه هو أن يأتي من يذكرهم بذلك، وخصوصاً رئيس وزراء سابق انتهت حياته السياسية بفضائح وخيبات من كل نوع، وليس هو من يتحمل تبعة تغيير الوضع القائم، إن جرى الإقرار علناً بأن دولة الاحتلال لا تقدر على تأمين صورة القوة الرادعة. وهذا هو باختصار أساس الأزمة، التي تفاقمت بحدة في السنوات الأخيرة، ومنشأ التهديد المستمر «بالخروج إلى الحرب».
الصورة المفقودة
لأسباب عديدة تتصل بطبيعة التجمعات الاستيطانية عموماً، القائمة على «استجلاب سكان ومهاجرين إلى أرض ليست لهم وفي محيط معادٍ ورافضٍ لوجودهم الاحتلالي»، وبطبيعة الكيان الاستيطاني الصهيوني على نحو خاص (الشعور المرضي بالقوة والضعف في آن معاً)، فإن دولة الاحتلال معنية بترسيخ صورة القوة المسيطرة الرادعة والقادرة على إلحاق الهزيمة بكل من يتحرش بها، بل وأكثر من ذلك بكل المحيط من حولها، والذي يجب أن يظل مسكوناً بالخوف منها ومن مجرد استفزازها أو إغضابها.
ولأسباب عديدة أيضاً، بعضها دعائي (من قبيل نجاح إسرائيل في هزيمة سبعة جيوش عربية عام 1948 من دون ذكر أن العدد الإجمالي لهذه الجيوش لم يتعدَّ عشرين ألف مقاتل من دون سلاح ولا تدريب، مقابل تسعين ألفاً من الصهاينة مسلحين ومدربين على يد البريطانيين وغيرهم)، وبعضها فعلي (مثل هزيمة 1967)، وبعضها ناجم عن انكسار إرادة التحدي والصمود لدى غالبية النظام الرسمي العربي، لكل هذه الأسباب مجتمعة، وفي طليعتها هزيمة 1967، نجحت دولة الاحتلال في ترسيخ الصورة التي أرادتها لعقود طويلة، لدى المستوطنين لتعزيز شعورهم بالقوة والأمن، وكذلك في وعي نخب عربية وغير عربية كثيرة تولّت هي بالذات الترويج لصورة «إسرائيل» المنتصرة، وغير القابلة للهزيمة.
طرأ تغيير طفيف في هذه الصورة أثناء معركة محدودة عام 1968 في بلدة الكرامة على الحدود الفلسطينية -الأردنية، وبدأت بالتفكك الفعلي في حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973. وتهشمت أجزاء كبيرة منها على يد المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بعد اجتياح لبنان عام 1982، وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. يومها وُجد من يكتب لأول مرة في دولة الاحتلال متناولاً «الجيش الذي طالما عومل مثل بقرة مقدسة» ليقول «إنه قوة شرطة هائلة تطارد الأطفال في الأزقة»، وحذّر المؤرخ العسكري الصهيوني «فان كارفيلد» من «أن إسرائيل تغامر بأن تصبح بلا جيش».
حمل عام 2000 تحولاً حاسماً، حين نجحت المقاومة اللبنانية في تحرير الجزء الأكبر من جنوب لبنان، وفرّ جيش الاحتلال «مع ذيل بين الساقين»، ليواجه انتفاضةً فلسطينية ثانية، وتغيراً كبيراً في النظرة إلى الجيش الذي لا يقهر، وأسطورة الدولة التي تستحيل هزيمتها.
في عام 2006 كان المحرّك الأساسي للعدوان على لبنان هو «الثأر» لهزيمة الألفين، وإعادة تركيب صورة «إسرائيل» في الوعي العربي على النحو الذي كانت عليه بعد هزيمة حزيران (يونيو). وفي النهاية جاء الاعتراف من المحللين الصهاينة أنفسهم بأن «نتائج تموز/ يوليوـ آب/ أغسطس 2006 ألغت نتائج حزيران 1967».
في غمرة انشغالات عربية مفتعلة أو حقيقية لم يجرِ الانتباه (عمداً في الحقيقة) إلى التحول الكبير الذي حدث. لدى دولة الاحتلال كان المشهد مختلفاً: «لا يمكن العيش في هذه المنطقة دون قدرة على الردع». الاستنتاج الذي بُني على هذه الخلاصة شكل المحفّز الدائم للحديث عن الحرب القادمة، وقررت حكومة الاحتلال أن تكون غزة ميداناً للتجربة الجديدة بهدف واحد أساسي هو استعادة الصورة المفتقدة. وعلى افتراض أن غزة خاصرة رخوة ولن تصمد أمام آلة الحرب الإسرائيلية. جرى إمطار غزة بالنار و«الرصاص المسكوب» على مدى 22 يوماً. والنتيجة كانت تلك التي يتحدث عنها أولمرت: «خرجت إسرائيل مظلومة من هذه الحرب». وبعبارة أخرى «خرجت من دون أي إنجاز». وهذا بالضبط ما يقوله قادة استخبارات سابقون، ويشكل أيضاً أساس الحديث عن الحرب مرة أخرى.
الرغبة والممكن
في خطابه أمام مؤتمر هرتزليا قال نتنياهو: «لا مكان للضعفاء في هذه المنطقة». كلام جاء وسط عاصفة من التهديدات بشنّ الحرب على إيران وسوريا ولبنان وغزة. تريد دولة الاحتلال استعادة «صورة القوة الرادعة». وتستميت من أجل تحقيق هذا الهدف. ولكن الأمر لا يتصل بالرغبات فقط. تشن دولة الاحتلال اعتداءاتها ضمن شرطين أساسيين: حضانة أمريكية كاملة تعني دعماً وتأييداً وحتى استعداداً للدخول في الحرب إلى جانبها. وتيقُّن بإمكان كسب الحرب في وقت قصير ودون خسائر موجعة.
هذان الشرطان لا يتوافران حالياً، أمريكا -كما هو واضح- لا تريد راهناً حرباً أخرى. هناك من يعتقد أنها أميل إلى التهدئة حتى اتضاح نتائج المواجهات التي تخوضها حالياً، بما في ذلك ما يتصل بالملف النووي الإيراني.
أما القوى التي تهددها دولة الاحتلال بالحرب، دولاً وقوى مقاومة فتمتلك أيضاً قدرات كبيرة، تجعل قدرة «إسرائيل» على تحقيق أهدافها مستحيلة. لقد أظهرت التصريحات السورية رداً على تهديدات ليبرمان، أن الزمن الذي يستطيع فيه الصهاينة العربدة كيفما أرادوا قد انتهى حقاً. وردّت إيران على التهديدات الإسرائيلية بأنها ستدمر «إسرائيل». وحذرت المقاومة الإسلامية في لبنان على لسان السيد حسن نصر الله بأن أي عدوان على لبنان سينتهي بهزيمة «إسرائيل» وتغيير وجه المنطقة. كذلك حذرت المقاومة في غزة من أن القطاع سيكون مقبرة للمعتدين. الردود تستند هذه المرة إلى تجربة ملموسة في الصراع مع دولة الاحتلال، ما يعطيها قيمة مضافة.
يذهب بعض المحللين إلى أن الاحتلال قد يرى في غزة مرة أخرى ميداناً يمكن الخوض فيه، لتحقيق إنجاز يوصف بالحاسم. الواقع هو غير ذلك. في كل الحالات سيغرق الاحتلال في معركة استنزاف هائلة، إلا إذا كان المقصود القيام باعتداءات جوية وقصف تدميري للقطاع، إذ إن الوصول إلى الحسم يتطلب تغييراً كاملاً في غزة، وهذا مستحيل على الاحتلال.
يصل إيهود أولمرت إلى ذات الاستنتاج الذي كان قد وصل إليه نتنياهو، وقادة آخرون في الليكود، عقب انتهاء العدوان على غزة مطلع العام الفائت. لقد تحدث زعماء الليكود في حينه عن أن «الحرب لم تحقق أهدافها ما بقيت حماس وحكومتها في غزة»، وجاهر كثيرون بالقول: «لقد خرجت إسرائيل من دون أي إنجاز». بينما كان ثلاثي الحرب أولمرت ـ باراك ـ ليفني، يتحدثون عن «الإنجازات الكثيرة التي حققوها».
نذكر جيداً أن الهدف المعلن لتلك الحرب من قبل الاحتلال، وعلى لسان رئيس الوزراء ووزير الحرب ووزيرة الخارجية، كان يتمثل في السعي إلى «تغيير الواقع الأمني في الجنوب، عبر منع إطلاق الصواريخ، ووقف تهريب السلاح».
انتهى العدوان، ولم تتوقف الصواريخ، ولم يتوقف التزود بالأسلحة الذي أطلق عليه وصف «تهريب السلاح». أما الهدف الأساسي غير المعلن لتلك الحرب، وهو «تغيير الواقع السياسي في غزة»، فقد ظل بعيد المنال، ومثلما لم يجرِ الحديث عنه قبل الحرب العدوانية، فقد بقي بعدها مادة بيد المعارضة الليكودية، استخدمته للهجوم على حكومة أولمرت ـ ليفني في الحملة الانتخابية، التي أتت بنتنياهو رئيساً للوزراء.
الاعتراف ـ التأزم مستأنفاً
في مذكرات يعدّها للنشر قريباً، يتحدث رئيس حكومة الاحتلال إيهود أولمرت، عن أنه أراد مواصلة الحرب على قطاع غزة حتى القضاء على حماس نهائياً، وأنه كان يرى ذلك هدفاً يمكن تحقيقه، لكنه تعرض لعملية خداع من وزير الحرب باراك، ولم يجد حماسةً كافيةً لدى الجيش من أجل تنفيذ هذه المهمة، ملاحظاً أنه قد جرى التهويل عليه بحجم الخسائر التي قد تلحق بجيشه، وبالمدة الزمنية المطلوبة للوصول إلى الهدف.
باراك نفى هذه الأقوال، واضطربت العلاقة الشائكة أصلاً بين وزير الحرب ورئيس الأركان غابي أشكنازي، ولكن هذا موضوع آخر. أما ما هو أكثر أهمية فتلك الإشارة الواضحة (في ما جرى نشره من المذكرات) إلى أن أولمرت «خشي من أن يجد نفسه أمام فينوغراد ثانية، إن هو أصرّ على إعطاء الأوامر بمواصلة الحرب». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان رئيس الوزراء في حينه يعتقد بأن القضاء على حماس وتقويض وجودها في غزة، أمر ممكن، وهدف قابل للتحقق، فلماذا الخشية من لجنة تحقيق؟
«هنا مربط الفرس» بحسب القول الدارج. وعاصفة التجاذبات والتراشق بالاتهامات التي أثارتها وسوف تثيرها اعترافات أولمرت مع شركائه السابقين، وبين الشركاء أنفسهم، ستظل زوبعة في فنجان، مقابل ما تمثله (الاعترافات نفسها) على مستوى الأزمة الأشدّ والأكثر عمقاً التي يعانيها كيان الاحتلال، والمتعلقة بصورته وقدراته الردعية. ذلك أن الخشية من الوقوف أمام لجنة تحقيق أخرى تستبطن اعترافاً بأن الفشل كان سيرافق «استمرار الحملة على غزة» وليس فقط بسبب الخداع الذي قد يتعرض له رئيس الوزراء من وزير حربه وأركان جيشه.
والمتصور أن ما قاله رئيس الوزراء السابق، كي يجمّل صورته أو يبرر خيبته، قد أغضب الجميع تقريباً في كيان الاحتلال، بما في ذلك رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. ذلك أن هؤلاء جميعاً يريدون الاستقرار على فكرة مفادها «أن إسرائيل قد نجحت من خلال الحرب على غزة في استعادة صورة الردع المفقودة». وإذا كانوا يعرفون في قرارات أنفسهم بأن الواقع هو غير ذلك تماماً، فإن آخر ما يحتاجونه هو أن يأتي من يذكرهم بذلك، وخصوصاً رئيس وزراء سابق انتهت حياته السياسية بفضائح وخيبات من كل نوع، وليس هو من يتحمل تبعة تغيير الوضع القائم، إن جرى الإقرار علناً بأن دولة الاحتلال لا تقدر على تأمين صورة القوة الرادعة. وهذا هو باختصار أساس الأزمة، التي تفاقمت بحدة في السنوات الأخيرة، ومنشأ التهديد المستمر «بالخروج إلى الحرب».
الصورة المفقودة
لأسباب عديدة تتصل بطبيعة التجمعات الاستيطانية عموماً، القائمة على «استجلاب سكان ومهاجرين إلى أرض ليست لهم وفي محيط معادٍ ورافضٍ لوجودهم الاحتلالي»، وبطبيعة الكيان الاستيطاني الصهيوني على نحو خاص (الشعور المرضي بالقوة والضعف في آن معاً)، فإن دولة الاحتلال معنية بترسيخ صورة القوة المسيطرة الرادعة والقادرة على إلحاق الهزيمة بكل من يتحرش بها، بل وأكثر من ذلك بكل المحيط من حولها، والذي يجب أن يظل مسكوناً بالخوف منها ومن مجرد استفزازها أو إغضابها.
ولأسباب عديدة أيضاً، بعضها دعائي (من قبيل نجاح إسرائيل في هزيمة سبعة جيوش عربية عام 1948 من دون ذكر أن العدد الإجمالي لهذه الجيوش لم يتعدَّ عشرين ألف مقاتل من دون سلاح ولا تدريب، مقابل تسعين ألفاً من الصهاينة مسلحين ومدربين على يد البريطانيين وغيرهم)، وبعضها فعلي (مثل هزيمة 1967)، وبعضها ناجم عن انكسار إرادة التحدي والصمود لدى غالبية النظام الرسمي العربي، لكل هذه الأسباب مجتمعة، وفي طليعتها هزيمة 1967، نجحت دولة الاحتلال في ترسيخ الصورة التي أرادتها لعقود طويلة، لدى المستوطنين لتعزيز شعورهم بالقوة والأمن، وكذلك في وعي نخب عربية وغير عربية كثيرة تولّت هي بالذات الترويج لصورة «إسرائيل» المنتصرة، وغير القابلة للهزيمة.
طرأ تغيير طفيف في هذه الصورة أثناء معركة محدودة عام 1968 في بلدة الكرامة على الحدود الفلسطينية -الأردنية، وبدأت بالتفكك الفعلي في حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973. وتهشمت أجزاء كبيرة منها على يد المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بعد اجتياح لبنان عام 1982، وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. يومها وُجد من يكتب لأول مرة في دولة الاحتلال متناولاً «الجيش الذي طالما عومل مثل بقرة مقدسة» ليقول «إنه قوة شرطة هائلة تطارد الأطفال في الأزقة»، وحذّر المؤرخ العسكري الصهيوني «فان كارفيلد» من «أن إسرائيل تغامر بأن تصبح بلا جيش».
حمل عام 2000 تحولاً حاسماً، حين نجحت المقاومة اللبنانية في تحرير الجزء الأكبر من جنوب لبنان، وفرّ جيش الاحتلال «مع ذيل بين الساقين»، ليواجه انتفاضةً فلسطينية ثانية، وتغيراً كبيراً في النظرة إلى الجيش الذي لا يقهر، وأسطورة الدولة التي تستحيل هزيمتها.
في عام 2006 كان المحرّك الأساسي للعدوان على لبنان هو «الثأر» لهزيمة الألفين، وإعادة تركيب صورة «إسرائيل» في الوعي العربي على النحو الذي كانت عليه بعد هزيمة حزيران (يونيو). وفي النهاية جاء الاعتراف من المحللين الصهاينة أنفسهم بأن «نتائج تموز/ يوليوـ آب/ أغسطس 2006 ألغت نتائج حزيران 1967».
في غمرة انشغالات عربية مفتعلة أو حقيقية لم يجرِ الانتباه (عمداً في الحقيقة) إلى التحول الكبير الذي حدث. لدى دولة الاحتلال كان المشهد مختلفاً: «لا يمكن العيش في هذه المنطقة دون قدرة على الردع». الاستنتاج الذي بُني على هذه الخلاصة شكل المحفّز الدائم للحديث عن الحرب القادمة، وقررت حكومة الاحتلال أن تكون غزة ميداناً للتجربة الجديدة بهدف واحد أساسي هو استعادة الصورة المفتقدة. وعلى افتراض أن غزة خاصرة رخوة ولن تصمد أمام آلة الحرب الإسرائيلية. جرى إمطار غزة بالنار و«الرصاص المسكوب» على مدى 22 يوماً. والنتيجة كانت تلك التي يتحدث عنها أولمرت: «خرجت إسرائيل مظلومة من هذه الحرب». وبعبارة أخرى «خرجت من دون أي إنجاز». وهذا بالضبط ما يقوله قادة استخبارات سابقون، ويشكل أيضاً أساس الحديث عن الحرب مرة أخرى.
الرغبة والممكن
في خطابه أمام مؤتمر هرتزليا قال نتنياهو: «لا مكان للضعفاء في هذه المنطقة». كلام جاء وسط عاصفة من التهديدات بشنّ الحرب على إيران وسوريا ولبنان وغزة. تريد دولة الاحتلال استعادة «صورة القوة الرادعة». وتستميت من أجل تحقيق هذا الهدف. ولكن الأمر لا يتصل بالرغبات فقط. تشن دولة الاحتلال اعتداءاتها ضمن شرطين أساسيين: حضانة أمريكية كاملة تعني دعماً وتأييداً وحتى استعداداً للدخول في الحرب إلى جانبها. وتيقُّن بإمكان كسب الحرب في وقت قصير ودون خسائر موجعة.
هذان الشرطان لا يتوافران حالياً، أمريكا -كما هو واضح- لا تريد راهناً حرباً أخرى. هناك من يعتقد أنها أميل إلى التهدئة حتى اتضاح نتائج المواجهات التي تخوضها حالياً، بما في ذلك ما يتصل بالملف النووي الإيراني.
أما القوى التي تهددها دولة الاحتلال بالحرب، دولاً وقوى مقاومة فتمتلك أيضاً قدرات كبيرة، تجعل قدرة «إسرائيل» على تحقيق أهدافها مستحيلة. لقد أظهرت التصريحات السورية رداً على تهديدات ليبرمان، أن الزمن الذي يستطيع فيه الصهاينة العربدة كيفما أرادوا قد انتهى حقاً. وردّت إيران على التهديدات الإسرائيلية بأنها ستدمر «إسرائيل». وحذرت المقاومة الإسلامية في لبنان على لسان السيد حسن نصر الله بأن أي عدوان على لبنان سينتهي بهزيمة «إسرائيل» وتغيير وجه المنطقة. كذلك حذرت المقاومة في غزة من أن القطاع سيكون مقبرة للمعتدين. الردود تستند هذه المرة إلى تجربة ملموسة في الصراع مع دولة الاحتلال، ما يعطيها قيمة مضافة.
يذهب بعض المحللين إلى أن الاحتلال قد يرى في غزة مرة أخرى ميداناً يمكن الخوض فيه، لتحقيق إنجاز يوصف بالحاسم. الواقع هو غير ذلك. في كل الحالات سيغرق الاحتلال في معركة استنزاف هائلة، إلا إذا كان المقصود القيام باعتداءات جوية وقصف تدميري للقطاع، إذ إن الوصول إلى الحسم يتطلب تغييراً كاملاً في غزة، وهذا مستحيل على الاحتلال.