ارشيف من :خاص
تركيا: اعتقال الضباط لا يناسب المصلحة الاميركية
إعداد: علي شهاب
لطالما كانت المؤسسة العسكرية في تركيا الحارس للنظام العلماني ورؤية مؤسسه كمال أتاتورك. وخلال العقود الماضية، لم تجرؤ أي جهة على المس بالجيش التركي او توجيه انتقادات له.
مؤخرا، أعلنت السلطات التركية اعتقال 49 ضابطا رفيعي المستوى وعدد من القادة السابقين في سلاح البحرية والجو بتهمة التخطيط لتنفيذ انقلاب ضد الحكومة.
هذا الحدث اللافت كان محل تقرير بحثي وضعه الخبير في الشؤون التركية "سونر چاغاپتاي" لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية. ولئن كان التقرير يحمل بشكل واضح على الإسلاميين في تركيا، فإنه يشير أيضا الى تحول داخلي لا يتوافق مع المصلحة الاميركية في هذا البلد الهام في الشرق الأوسط.
وهنا أبرز ما جاء في التقرير:
في 22 شباط/ فبراير الماضي، اعتقلت الشرطة 49 ضابطًا، من بينهم جنرالات وأميرالات في الخدمة وعددًا من القادة السابقين في سلاح البحرية وسلاح الجو التركي، بناءً على الادعاءات التي تتهمهم بتخطيط انقلاب ضد الحكومة. وتم توجيه اتهامات إلى الضباط على وجه الخصوص بكتابة مذكرة تتألف من 5000 ورقة تم نشرها بعد ذلك في صحيفة "تاراف"؛ وهي صحيفة يتبنى رئيس تحريرها سياسة تركز بصفة استثنائية على توجيه الضربات العنيفة إلى القوات العسكرية في البلاد. ومن بين الأشياء التي تكشف عنها المذكرة الادعاء بأن القوات العسكرية التركية تخطط لتفجير مساجد تاريخية باسطنبول باستخدام القنابل، وتخطط أيضًا لإطلاق النيران على الطائرات التابعة لها لتبرير الانقلاب. وعندما سألت سفير تركيا الأسبق في الأمم المتحدة عن رأيه في هذه الأخبار، جاء تعليقه بأن هذا السيناريو ما هو إلا سيناريو سخيف، وصرح قائلاً: "إذا كانت القوات العسكرية التركية تنوي القيام بانقلاب، فإنها لن تكتب مذكرة تتألف من 5000 صفحة حول هذا الانقلاب".
بعد مرور ثلاثة أيام، أُطلِق سراح القادة السابقين في القوات البحرية والجوية ـ وهذا دليل آخر على أن الحكومة كانت تنوي تخويف القوات العسكرية بتركيا بدلاً من الاستمرار في إدانة هؤلاء الضباط الرفيعي المستوى ـ . وجاء إطلاق سراحهم عقب الحادثة التي وقعت في يوم 19 شباط/ فبراير حيث تسرب تسجيل صوتي لرئيس الأركان في الجيش التركي إلى جريدة "فاكيت" ـ وهي جريدة إسلامية تحث على الجهاد ـ . جدير بالذكر أن القانون في تركيا لا يجيز التنصت على الهواتف الخاصة بالأفراد دون أمر صادر من المحكمة، ولا يجوز كذلك من الناحية القانونية نشر هذه التسجيلات التي تم التنصت عليها. وعلى الرغم من ذلك، لم يُحاكم أي شخص بشأن هذه التسجيلات التي تدين رئيس الأركان ـ وهذه إشارة تدل على اختلال ميزان القوة تمامًا في تركيا.
لقد ظهرت مستجدات هائلة في السياسات التركية. فأصبح الآن توجيه الضربات ضد القوات العسكرية ـ بما في ذلك الضرب تحت الحزام ـ هدفًا مشروعاً. ولا يفوتنا أن القوة التي تقف وراء هذا التغير الدرامي مصدرها حركة فتح الله كولن- وهي حركة سياسة من المحافظين المتشددين تدعم حزب العدالة والتنمية الحاكم. تأسست هذه الحركة في فترة السبعينيات من القرن الماضي على يد "فتح الله كولن" وهو داعية يلفت إليه الأنظار ويعيش حاليًا في الولايات المتحدة، ولكنه يحظى بشهرة كبيرة في تركيا. يشار أيضاً إلى أنها حركة محافظة تسعى إلى إعادة تشكيل تركيا العلمانية على الصورة التي ترغب فيها من خلال المحافظة على سيادة القيم الدينية التي يؤمن بها كولن على سياسات البلاد والحكومة والتعليم والإعلام والتجارة والحياة العامة والخاصة.
وقد تبدو حرية توجيه الانتقادات إلى القوات العسكرية التي ظهرت مؤخرًا بالنسبة للبعض دليلاً على تحول تركيا إلى دولة أكثر ديمقراطية وليبرالية. ولكن الحقيقة هي أن تركيا استبدلت منظمة "لا يمكن المساس بها" بأخرى أكثر منها خطورة. فقد أصبح انتقاد حركة كولن ـ التي تسيطر على الشرطة الوطنية وفرعها القوي المسؤول عن الاستخبارات السرية المحلية، والذي يمارس تأثيرًا كبيرًا على القضاء ـ عملاً محظورًا تمامًا مثلما كان الهجوم على القوات العسكرية محظورًا من قبل. واليوم يتعرض هؤلاء الذين ينتقدون حركة كولن للانتقاد.
بالطبع، تمثل الادعاءات بالتآمر للانقلاب على الحكومة أمرًا خطيرًا يبرر ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة على الفور. وعلى الرغم من ذلك، تأتي هذه الادعاءات كجزء من قضية أرغينيكون؛ وهي قضية اتسمت بالتحقيق المعقد الذي لم يسفر عن شيء في السنوات الثلاث الماضية سوى إدانات قياسية تتألف من 5800 صفحة، والقيام بمئات عمليات التفتيش المفاجئ لمنازل مشهورين في الصباح الباكر، واعتقال العديد من الرموز التركية المشهورة ومن بينهم رؤساء للجامعات ومثقفون مشهورون مثل "كمال جوروز" و"محمد هابيرال". وتجدر الإشارة إلى أن الصفة الوحيدة التي تربط بين هؤلاء المعتقلين هي معارضتهم لحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم ومعارضتهم أيضًا لحركة كولن. ويعتقد البعض أن "زكريا أوز"، رئيس النيابة العامة الذي يتولى قضية شبكة أرغينيكون، ورامازان أكيوريك؛ رئيس فرع الاستخبارات المحلية التابع للشرطة التركية، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات التي تتمتع بالسلطة داخل الحكومة متعاطفون مع كولن.
لقد أصبحت القوات العسكرية، التي تعارض حزب العدالة والتنمية وتعارض أنصار حركة كولن لأنها ترى نفسها الحامي الحقيقي للسياسة العلمانية في تركيا وفق رؤية أتاتورك وتعمل بدورها كحائط دفاع يتصدى لأي سيطرة دينية على سياسات البلاد والحكومة، الهدف الرئيسي لهذه الجولة من الاعتقالات التي تحكمها أهداف سياسية. كما جرى نشر وثائق تم الحصول عليها بصورة مخالفة للقانون من بينها وثائق سرية وأحيانًا سجلات طبية محرجة للجنرالات الحاصلين على رتبة أربع نجوم في وسائل الإعلام المؤيدة لحركة كولن. وعلى الرغم من أن رئيس الأركان صرح بأن هذه الوثائق مزورة، استُخدِمت هذه الوثائق كدليل لاعتقال الجنرالات والأميرالات الذين خدموا في الجيش بمساعدة شهود مجهولين في هذه القضية.
جذور العداوة التي تكنها حركة كولن ضد الجيش متعمقة. وباتباع نهج الحركة الإنجيلية التي ظهرت في الولايات المتحدة، فقد ازدهرت حركة فتح الله كولن بصورة درامية أيضًا في الثمانينيات من القرن الماضي. وفي العقد الأخير من القرن الماضي، اكتسبت هذه الحركة قوة سياسية من خلال الاستناد إلى سلطات حكومية عديدة قامت بدورها بتعيين عدد من أعضاء هذه الحركة في مناصب كبيرة في الحكومة البيروقراطية، وتضمنت هذه المناصب العمل في الشرطة والاستخبارات.
وتجدر بنا الإشارة إلى أنه في نهاية فترة التسعينيات من القرن الماضي، أصبح كولن في صدام مع القوات العسكرية التركية ـ وخسر ذلك الصدام. ووسط هذا الصراع جاء الخلاف الذي وقع بين حكومة حزب الرفاه الإسلامي ـ التي لاقت دعما من حركة فتح الله كولن ـ وبين القوات العسكرية.
وفي عام 1997، قامت القوات العسكرية التركية بتنظيم حملة شعبية ضد حزب الرفاه الإسلامي. وبممارسة الضغوط المناهضة لحكم هذا الحزب، تضاءلت مكانته بين الأحزاب. ونتيجة لذلك، تم فصل الأعضاء المنتمين لأحزاب إسلامية ـ بما في ذلك الأعضاء الذين ينتمون إلى حركة فتح الله كولن ـ من وظائفهم في الحكومة البيروقراطية والجيش.
عندما قامت المحاكم التركية في عام 1999 باتهام كولن بالفساد وممارسة أنشطة سياسية مناهضة للعلمانية، سارع بالفرار إلى مجمع ريفي في بنسلفانيا. وعلى الرغم من تبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه فيما بعد، فإنه لم يعد إلى تركيا مطلقًا. وعلى الرغم من غياب كولن، عادت حركة فتح الله كولن الى الواجهة. وعندما عاد حزب العدالة والتنمية ـ الذي يجسد بصورة كبيرة حزب الرفاه الإسلامي المحظور ـ إلى السلطة في عام 2002، قامت حركة فتح الله كولن بدعم الحزب الحاكم بما لديها من وسائل إعلام وناخبين وجماعات ضغط تجاري. وفي المقابل، قام حزب العدالة والتنمية بتعيين أعضاء من حركة فتح الله كولن في مناصب بارزة في القضاء والحكومة البيروقراطية، بما في ذلك فرع الاستخبارات بالشرطة.