ارشيف من :أخبار لبنانية
منطق الحرب المقبلة في المنطقة
بقلم مصطفى اللباد (*) / نقلا عن صحيفة النهار
تخيم أجواء "الحرب المقبلة" على التحليلات السياسية والتصريحات في المنطقة، بحيث تبدو كأنها واقعة لا محالة في أحاديث السياسيين والمحللين والصحافيين. ويعود ذلك التقدير إلى التراشق الإعلامي الكثيف والتلويح بالردع واستعراض القدرات والعضلات من كل الأطراف وبشكل غير مسبوق في المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة، ويترافق ذلك مع فشل عملية التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي التي رعاها الرئيس الأميركي باراك أوباما؛ بالإضافة إلى فشل المفاوضات التي جرت بين إيران والدول الست الكبرى في جنيف ثم في فيينا حول ملفها النووي.
وبسبب ترابط الملفات مع القضايا الإقليمية من ناحية، والرفض الإسرائيلي لأبسط مستلزمات التسوية السلمية وتسخين تل أبيب الهستيري للأجواء الدولية بغية ضرب منشآت إيران النووية من ناحية ثانية، تبدو تكهنات "الحرب المقبلة" مبررة ومفهومة. وإذ تقوم الحروب في المنطقة وفي أي بقعة أخرى في العالم لتحقيق هدف سياسي معين وإجبار الطرف الخاسر على الرضوخ له ـ كما تقول أساسيات العلوم الإستراتيجية ـ فإن قرار الحرب من عدمه يقوم بالضرورة على حسابات دقيقة ومتشابكة وعلى فرز للبيئة الإقليمية والدولية وقدرة الأطراف على إدارة الصراع بما يحقق مصالحها في النهاية؛ وليس لأسباب عاطفية محضة أو لمجرد العداوة بين أطراف الصراع.
يقود تقليب النظر في التوازنات الإقليمية إلى ملاحظة أن الصراع الأساسي في المنطقة على الهيمنة الإقليمية يدور الآن بين طهران وتل أبيب، المتوجسة من أن الاعتراف الدولي بإيران قوة إقليمية سيشكل حسما من رصيدها وطموحها إلى الهيمنة الإقليمية. وبالإضافة إلى طرفي الصراع الأساسي على الهيمنة الإقليمية؛ يمكن ملاحظة دوائر ثلاثاً أقرب جغرافياً إلى ساحات الصراع وهي: الدول العربية المنضوية في "معسكر الاعتدال" وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى دوائر ثلاث أخرى أبعد جغرافياً وهي: روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، والتي تملك جميعها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع طرفي الصراع الأساسيين. كل الأطراف قلقة من اندلاع الأعمال العسكرية المباشرة أو من "الحرب المقبلة" ـحسب التحليلات الرائجة ـ وذلك لأنها في منطق الحروب ستعني تغييراً مؤكداً في التوازنات الإقليمية بغض النظر عن نتيجتها العسكرية؛ وهو ما سيؤثر تاليا على مصالح ومواقع الدوائر القريبة أولاً ومن ثم الدوائر الأبعد ثانياً.
تنخرط الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع الجوهري في الإقليم، أي الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي، بمنطق الحسابات والمصالح؛ وليس بمنطق الانضواء في محور ضد آخر. ويتأسس على هذه الحقيقة مراقبة شكل جديد من أشكال الاهتمام الإقليمي والدولي بـ "الحرب المقبلة" جذره الباطن مغروس في تفاوت المصالح مع طرفي الصراع الأساسي أولاً وفي تفاوت المصالح مع أطراف الدوائر الأقرب والأبعد ثانياً. أما الجذر الظاهر فيتمثل في الدعوات الإعلامية إلى تهدئة الوضع و"الاستجابة للقرارات الدولية" و"حفظ الأمن والاستقرار الإقليميين"، وهي دعوات تستهلك الوقت ولا تحسم الصراع لمصلحة أحد الطرفين. ويترتب على ذلك أن قرار شن الحرب مرتهن إلى حد كبير بميل ميزان القوى الدولي لمصلحة الخيار العسكري، إذ عندها تصبح "الحرب المقبلة" حتمية بالفعل. ولكن هل مصالح الأطراف الإقليمية والدولية تتوافق مع خيار الحل العسكري لملف إيران النووي الذي تريده تل أبيب وتحرض عليه؟ الإجابة هي حتى الآن محكومة بالنفي. إذا نظرنا إلى الحلقة الأقرب نجد أنه حتى دول "الاعتدال العربي" غير معنية بهيمنة شاملة لتل أبيب في المنطقة؛ حتى مع تخوفاتها من بروز دور إيران الإقليمي وتأثيراته السلبية على مصالحها، فضلاً عن أن ساحات المنطقة العربية ستكون مسرحاً للمبارزة المفترضة بين طرفي الصراع.
وفي حالة تركيا ستترك انتكاسة إيران العسكرية ـ بافتراض حدوثها ـ تأثيرات عميقة على تركيبة المنطقة وعلى مشكلة الأكراد وعلى البيئة الأمنية المحيطة بتركيا، بل إن هذه النتيجة ستستدعي حضوراً روسياً في شمال إيران وهو ما شكل عبر التاريخ خطراً داهماً على الأناضول. أما الولايات المتحدة الأميركية وإن كانت مصالحها المباشرة تتصادم في أحيان كثيرة مع سلوك النظام الإيراني في قضايا متنوعة، فإن اتفاقها مع إيران ـ وهو أمر لا يمكن استبعاده نهائياً من قائمة الاحتمالات ـ سيثبت مصالحها في المنطقة أكثر فأكثر، وهناك تجربة ممتدة من عام 1953 وحتى 1979 تثبت ذلك.
يزيد إمساك إيران بأوراق إقليمية متنوعة من جاذبيتها في العيون الأميركية لفرض استقرار إقليمي مؤاتٍ للمصالح الأميركية، وترجع معارضة واشنطن لاتفاق مع إيران إلى الثمن الكبير الذي تطالب طهران به لقاء تأمين المصالح الأميركية، أي الاعتراف بها قوة إقليمية مهيمنة. وفوق كل ذلك يمكن في حال اندلاع أعمال عسكرية أن تتعرض المصالح الأميركية في المنطقة للضرر سواء بالنسبة الى قواتها المتمركزة في العراق وأفغانستان، أو حقول النفط على ضفتي الخليج، باغلاق مضيق هرمز وهو ما يعني تأثيرات خطيرة على الاقتصاد العالمي، وما سيجعل سعر برميل النفط يقفز برشاقة إلى مستوى خرافي قدره 250 دولارا للبرميل. الدوائر الأقرب لطرفي الصراع (الدول العربية وتركيا وأميركا بحكم وجودها في العراق وأفغانستان) تتفق في رغبتها المشتركة بمنع إيران من امتلاك القدرات النووية، ولكنها في الوقت نفسه لا تتفق مع تل أبيب بالضرورة في رغبتها بشن حرب عسكرية عليها. أما الدوائر الأبعد فتتفق أيضاً مع الدائرة الأقرب في عدم الرغبة برؤية إيران نووية، ولكنها غير متأكدة إذا كان الحل العسكري سيشكل خدمة لمصالحها.
أطراف الدوائر الثلاث الأبعد لها مصالح كبيرة مع إيران ومع إسرائيل في الوقت ذاته، والمثال الأوضح على ذلك روسيا التي ترسي سياستها الشرق الأوسطية على العلاقات مع إيران وإسرائيل في الوقت نفسه. تملك موسكو مصالح نفطية وعسكرية مع طهران مثلما تملك تأثيراً على كتلة قوامها حوالى 20% من سكان إسرائيل المهاجرين إليها من الاتحاد السوفياتي السابق. واستمرار الصراع على الهيمنة في الشرق الأوسط بين شريكيها الرئيسين يضمن لروسيا ورقة مقايضة مهمة مع واشنطن في الفضاء الأوراسي. ونتيجة لذلك يبدو حسم الصراع عسكرياً لغير مصلحة إيران أمراً غير مؤات للمصالح الروسية، مثلما أن تحرر إيران من الضغط والتهديد وتمكنها من الهيمنة الإقليمية هو غير مؤات أيضاً للمصالح الروسية، لأن إيران ستمتلك هامشا أكبر للمناورة الدولية وقتذاك؛ فتطير ورقة المقايضة من يد روسيا.
تستورد الصين 14% من نفطها من إيران وتستثمر مئات المليارات من الدولارات في قطاع النفط الإيراني، ولذلك فإن ضرب إيران سيهدد تدفق النفط إليها ويهدد استثماراتها المباشرة، أما إذا انتصرت إيران إقليمياً وتُوجت زعيمة للإقليم فسينفتح المجال أمامها لتتحول إلى التكنولوجيا الأميركية الأكثر تطوراً في مجال النفط وتترك التكنولوجيا النفطية الصينية الأقل تقدماً، وتفقد الصين بالتالي أحد مقومات حضورها الدولي والإقليمي.
الوضع ذاته ينطبق على الاتحاد الأوروبي الذي يملك علاقات مع طرفي الصراع الأساسي، ولا مصلحة له في امتلاك إيران القدرات النووية العسكرية مثلما لا مصلحة له في ضربة عسكرية غير مضمونة العواقب ضدها. وفي النهاية تملك هذه الدائرة الأبعد علاقات متشابكة أيضاً مع أطراف الدائرة الإقليمية للصراع، وهو ما يزيد حسابات المصالح تعقيداً على تعقيدها.
تقترب إيران من هدفها النووي رويداً رويداً ومع كل دورة من دورات أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها حتى في ظل وجود كوابح تقنية أمامها. وعلى المقلب الآخر تحشد تل أبيب بمرور الوقت الجهود الدولية ضد طموح إيران الإقليمي والنووي في صورة قرارات من مجلس الأمن حتى في ظل اعتراض محدود من الأطراف الدولية المختلفة. لذلك يؤدي عامل الوقت حتى الآن دوراً في مصلحة كل من طهران وتل أبيب. وعلى إيقاع دقات الساعة الإيرانية والساعة الإسرائيلية يمر وقت المنطقة في ملاحقة المنافسة المحتدمة بين الغريمين. تتسابق كل من طهران وتل أبيب للوصول إلى هدفها قبل الأخرى: إيران حتى تعلن أول انفجار نووي، وإسرائيل حتى تدفع أميركا إلى القيام بضربة عسكرية ضد إيران. وحتى ذلك الحين تلوح إيران بأوراقها الردعية دون أن تستعملها لأنها ستفقد معناها الردعي في حال بدأت هي الحرب، التي ستتسبب في تدمير انجازاتها النووية المتحققة حتى الآن.
وإلى تلك الساعة تحشد تل أبيب وتكثف الضغوط الدولية على طهران دون أن توجه هي ضربة عسكرية، لأن الأخيرة إن فشلت سيحصد البرنامج النووي الإيراني اعترافاً دولياً غير مسبوق بحيث يتكرس واقعاً لا يمكن إرجاعه إلى الوراء. مشكلة "الحرب المقبلة" ـ إن وقعت ـ أن حساباتها أعقد كثيراً من كل الحروب التي سبقت في المنطقة، في هذه البيئة الإقليمية الضاغطة والدولية الضبابية يبدو خاسراً من يفقد أعصابه في لعبة الوقت فيكبس الأزرار أولاً.
(*) مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية ـ القاهرة
تخيم أجواء "الحرب المقبلة" على التحليلات السياسية والتصريحات في المنطقة، بحيث تبدو كأنها واقعة لا محالة في أحاديث السياسيين والمحللين والصحافيين. ويعود ذلك التقدير إلى التراشق الإعلامي الكثيف والتلويح بالردع واستعراض القدرات والعضلات من كل الأطراف وبشكل غير مسبوق في المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة، ويترافق ذلك مع فشل عملية التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي التي رعاها الرئيس الأميركي باراك أوباما؛ بالإضافة إلى فشل المفاوضات التي جرت بين إيران والدول الست الكبرى في جنيف ثم في فيينا حول ملفها النووي.
وبسبب ترابط الملفات مع القضايا الإقليمية من ناحية، والرفض الإسرائيلي لأبسط مستلزمات التسوية السلمية وتسخين تل أبيب الهستيري للأجواء الدولية بغية ضرب منشآت إيران النووية من ناحية ثانية، تبدو تكهنات "الحرب المقبلة" مبررة ومفهومة. وإذ تقوم الحروب في المنطقة وفي أي بقعة أخرى في العالم لتحقيق هدف سياسي معين وإجبار الطرف الخاسر على الرضوخ له ـ كما تقول أساسيات العلوم الإستراتيجية ـ فإن قرار الحرب من عدمه يقوم بالضرورة على حسابات دقيقة ومتشابكة وعلى فرز للبيئة الإقليمية والدولية وقدرة الأطراف على إدارة الصراع بما يحقق مصالحها في النهاية؛ وليس لأسباب عاطفية محضة أو لمجرد العداوة بين أطراف الصراع.
يقود تقليب النظر في التوازنات الإقليمية إلى ملاحظة أن الصراع الأساسي في المنطقة على الهيمنة الإقليمية يدور الآن بين طهران وتل أبيب، المتوجسة من أن الاعتراف الدولي بإيران قوة إقليمية سيشكل حسما من رصيدها وطموحها إلى الهيمنة الإقليمية. وبالإضافة إلى طرفي الصراع الأساسي على الهيمنة الإقليمية؛ يمكن ملاحظة دوائر ثلاثاً أقرب جغرافياً إلى ساحات الصراع وهي: الدول العربية المنضوية في "معسكر الاعتدال" وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى دوائر ثلاث أخرى أبعد جغرافياً وهي: روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، والتي تملك جميعها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع طرفي الصراع الأساسيين. كل الأطراف قلقة من اندلاع الأعمال العسكرية المباشرة أو من "الحرب المقبلة" ـحسب التحليلات الرائجة ـ وذلك لأنها في منطق الحروب ستعني تغييراً مؤكداً في التوازنات الإقليمية بغض النظر عن نتيجتها العسكرية؛ وهو ما سيؤثر تاليا على مصالح ومواقع الدوائر القريبة أولاً ومن ثم الدوائر الأبعد ثانياً.
تنخرط الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع الجوهري في الإقليم، أي الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي، بمنطق الحسابات والمصالح؛ وليس بمنطق الانضواء في محور ضد آخر. ويتأسس على هذه الحقيقة مراقبة شكل جديد من أشكال الاهتمام الإقليمي والدولي بـ "الحرب المقبلة" جذره الباطن مغروس في تفاوت المصالح مع طرفي الصراع الأساسي أولاً وفي تفاوت المصالح مع أطراف الدوائر الأقرب والأبعد ثانياً. أما الجذر الظاهر فيتمثل في الدعوات الإعلامية إلى تهدئة الوضع و"الاستجابة للقرارات الدولية" و"حفظ الأمن والاستقرار الإقليميين"، وهي دعوات تستهلك الوقت ولا تحسم الصراع لمصلحة أحد الطرفين. ويترتب على ذلك أن قرار شن الحرب مرتهن إلى حد كبير بميل ميزان القوى الدولي لمصلحة الخيار العسكري، إذ عندها تصبح "الحرب المقبلة" حتمية بالفعل. ولكن هل مصالح الأطراف الإقليمية والدولية تتوافق مع خيار الحل العسكري لملف إيران النووي الذي تريده تل أبيب وتحرض عليه؟ الإجابة هي حتى الآن محكومة بالنفي. إذا نظرنا إلى الحلقة الأقرب نجد أنه حتى دول "الاعتدال العربي" غير معنية بهيمنة شاملة لتل أبيب في المنطقة؛ حتى مع تخوفاتها من بروز دور إيران الإقليمي وتأثيراته السلبية على مصالحها، فضلاً عن أن ساحات المنطقة العربية ستكون مسرحاً للمبارزة المفترضة بين طرفي الصراع.
وفي حالة تركيا ستترك انتكاسة إيران العسكرية ـ بافتراض حدوثها ـ تأثيرات عميقة على تركيبة المنطقة وعلى مشكلة الأكراد وعلى البيئة الأمنية المحيطة بتركيا، بل إن هذه النتيجة ستستدعي حضوراً روسياً في شمال إيران وهو ما شكل عبر التاريخ خطراً داهماً على الأناضول. أما الولايات المتحدة الأميركية وإن كانت مصالحها المباشرة تتصادم في أحيان كثيرة مع سلوك النظام الإيراني في قضايا متنوعة، فإن اتفاقها مع إيران ـ وهو أمر لا يمكن استبعاده نهائياً من قائمة الاحتمالات ـ سيثبت مصالحها في المنطقة أكثر فأكثر، وهناك تجربة ممتدة من عام 1953 وحتى 1979 تثبت ذلك.
يزيد إمساك إيران بأوراق إقليمية متنوعة من جاذبيتها في العيون الأميركية لفرض استقرار إقليمي مؤاتٍ للمصالح الأميركية، وترجع معارضة واشنطن لاتفاق مع إيران إلى الثمن الكبير الذي تطالب طهران به لقاء تأمين المصالح الأميركية، أي الاعتراف بها قوة إقليمية مهيمنة. وفوق كل ذلك يمكن في حال اندلاع أعمال عسكرية أن تتعرض المصالح الأميركية في المنطقة للضرر سواء بالنسبة الى قواتها المتمركزة في العراق وأفغانستان، أو حقول النفط على ضفتي الخليج، باغلاق مضيق هرمز وهو ما يعني تأثيرات خطيرة على الاقتصاد العالمي، وما سيجعل سعر برميل النفط يقفز برشاقة إلى مستوى خرافي قدره 250 دولارا للبرميل. الدوائر الأقرب لطرفي الصراع (الدول العربية وتركيا وأميركا بحكم وجودها في العراق وأفغانستان) تتفق في رغبتها المشتركة بمنع إيران من امتلاك القدرات النووية، ولكنها في الوقت نفسه لا تتفق مع تل أبيب بالضرورة في رغبتها بشن حرب عسكرية عليها. أما الدوائر الأبعد فتتفق أيضاً مع الدائرة الأقرب في عدم الرغبة برؤية إيران نووية، ولكنها غير متأكدة إذا كان الحل العسكري سيشكل خدمة لمصالحها.
أطراف الدوائر الثلاث الأبعد لها مصالح كبيرة مع إيران ومع إسرائيل في الوقت ذاته، والمثال الأوضح على ذلك روسيا التي ترسي سياستها الشرق الأوسطية على العلاقات مع إيران وإسرائيل في الوقت نفسه. تملك موسكو مصالح نفطية وعسكرية مع طهران مثلما تملك تأثيراً على كتلة قوامها حوالى 20% من سكان إسرائيل المهاجرين إليها من الاتحاد السوفياتي السابق. واستمرار الصراع على الهيمنة في الشرق الأوسط بين شريكيها الرئيسين يضمن لروسيا ورقة مقايضة مهمة مع واشنطن في الفضاء الأوراسي. ونتيجة لذلك يبدو حسم الصراع عسكرياً لغير مصلحة إيران أمراً غير مؤات للمصالح الروسية، مثلما أن تحرر إيران من الضغط والتهديد وتمكنها من الهيمنة الإقليمية هو غير مؤات أيضاً للمصالح الروسية، لأن إيران ستمتلك هامشا أكبر للمناورة الدولية وقتذاك؛ فتطير ورقة المقايضة من يد روسيا.
تستورد الصين 14% من نفطها من إيران وتستثمر مئات المليارات من الدولارات في قطاع النفط الإيراني، ولذلك فإن ضرب إيران سيهدد تدفق النفط إليها ويهدد استثماراتها المباشرة، أما إذا انتصرت إيران إقليمياً وتُوجت زعيمة للإقليم فسينفتح المجال أمامها لتتحول إلى التكنولوجيا الأميركية الأكثر تطوراً في مجال النفط وتترك التكنولوجيا النفطية الصينية الأقل تقدماً، وتفقد الصين بالتالي أحد مقومات حضورها الدولي والإقليمي.
الوضع ذاته ينطبق على الاتحاد الأوروبي الذي يملك علاقات مع طرفي الصراع الأساسي، ولا مصلحة له في امتلاك إيران القدرات النووية العسكرية مثلما لا مصلحة له في ضربة عسكرية غير مضمونة العواقب ضدها. وفي النهاية تملك هذه الدائرة الأبعد علاقات متشابكة أيضاً مع أطراف الدائرة الإقليمية للصراع، وهو ما يزيد حسابات المصالح تعقيداً على تعقيدها.
تقترب إيران من هدفها النووي رويداً رويداً ومع كل دورة من دورات أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها حتى في ظل وجود كوابح تقنية أمامها. وعلى المقلب الآخر تحشد تل أبيب بمرور الوقت الجهود الدولية ضد طموح إيران الإقليمي والنووي في صورة قرارات من مجلس الأمن حتى في ظل اعتراض محدود من الأطراف الدولية المختلفة. لذلك يؤدي عامل الوقت حتى الآن دوراً في مصلحة كل من طهران وتل أبيب. وعلى إيقاع دقات الساعة الإيرانية والساعة الإسرائيلية يمر وقت المنطقة في ملاحقة المنافسة المحتدمة بين الغريمين. تتسابق كل من طهران وتل أبيب للوصول إلى هدفها قبل الأخرى: إيران حتى تعلن أول انفجار نووي، وإسرائيل حتى تدفع أميركا إلى القيام بضربة عسكرية ضد إيران. وحتى ذلك الحين تلوح إيران بأوراقها الردعية دون أن تستعملها لأنها ستفقد معناها الردعي في حال بدأت هي الحرب، التي ستتسبب في تدمير انجازاتها النووية المتحققة حتى الآن.
وإلى تلك الساعة تحشد تل أبيب وتكثف الضغوط الدولية على طهران دون أن توجه هي ضربة عسكرية، لأن الأخيرة إن فشلت سيحصد البرنامج النووي الإيراني اعترافاً دولياً غير مسبوق بحيث يتكرس واقعاً لا يمكن إرجاعه إلى الوراء. مشكلة "الحرب المقبلة" ـ إن وقعت ـ أن حساباتها أعقد كثيراً من كل الحروب التي سبقت في المنطقة، في هذه البيئة الإقليمية الضاغطة والدولية الضبابية يبدو خاسراً من يفقد أعصابه في لعبة الوقت فيكبس الأزرار أولاً.
(*) مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية ـ القاهرة