ارشيف من :خاص

حين "يتفنن" الأميركيون في احتلال العراق!

حين "يتفنن" الأميركيون في احتلال العراق!

تكشف وثائق من أرشيف الأمن القومي الأميركي أن ادارة الرئيس السابق جورج بوش بدأت، عقب غزو العراق مباشرة، اعداد الاتفاقية الامنية العراقية – الأميركية، في حقيقة تؤكد ان واشطن كانت لديها منذ البداية أهدافواضحة في هذا البلد، حيث تتحدث الوثائق عن انشاء عشرات القواعد الثابتة وعدم وضع قيود على حركة القوات مستقبلا، ومنح الجنود الحصانة ضد الملاحقات القانونية.

علي شهاب
باشر الاحتلال الأميركي عملية اعادة انتشار قواته في العراق، منذ استكمال انسحابه الاول من المدن في 30 حزيران/ يونيو، وفقاً لاتفاقية "وضع القوات" المعروفة اختصارا بـ"سوفا"، في اطار الالتزام بسياسة خفض عديد القوات التي وضعتها ادارة الرئيس باراك أوباما. لكن التدقيق في بنود الاتفاقية لا يعكس أبدا تراجعا في الدور العسكري والأمني الأميركي في العراق، بل يمكن القول ان الحراك الذي تشهده الساحة السياسية والتعقيد الحاصل ناجم بشكل كبير عن رغبة أميركية في ارساء معادلة جديدة تسمح لها بتجديد الاتفاقية ببنود أكثر خطورة تفسح المجال امام مزيد من السيطرة الاميركية على مقدّرات العراق، في مشهد يطابق الوصف الذي أطلقته صحيفة "اندبندت" البريطانية بقولها ان الاتفاقية تمثل "تفننا" في احتلال العراق.
فماذا تعني بالتحديد بنود الاتفاقية الحالية؟ وما هي أبرز دلالاتها؟
تزخر الاتفاقية ببنود تحمل أكثر من معنى، بما يتيح تأمين مصلحة الاحتلال، ويضفي لمسة من الضبابية على بنود اخرى، بما يشير الى نيات مبيتة بالبقاء لفترة طويلة في بلاد الرافدين.
وفي حين يُنظر الى الاتفاقية على أنها تؤمن انسحابا كاملا من العراق لجميع القوات الأميركية، فان التدقيق في مواقف قادة الاحتلال يشير الى ان ادارة باراك أوباما تعتزم ابقاء قوة قوامها ما بين خمسة وثلاثين الفا الى خمسين ألف جندي بحلول شهر آب/ اغسطس من العام 2010، علما ان لا اشارة في الاتفاقية الى عديد القوات مع حلول موعد تاريخ انجازها.

  تزخر الاتفاقية ببنود تحمل أكثر من معنى، بما يتيح تأمين مصلحة الاحتلال وبما يشير الى نيات مبيتة بالبقاء لفترة طويلة في العراق
كذلك، تبدو المواعيد الزمنية للانسحابات الأميركية المتدرجة غير خاضعة لسقف واضح، ففي البند الأول من المادة الرابعة والعشرين، تذكر الاتفاقية أنه "يتعين على جميع القوات الاميركية الانسحاب من جميع الاراضي العراقية في موعد أقصاه 31 كانون الأول/ ديسمبر 2011"، ومع ذلك بامكان أي من الجانبين انهاء الاتفاقية في أي وقت وذلك بالاكتفاء بتقديم اشعار خطي للطرف الآخر عن عزمه القيام بذلك. في هذه الحالة سوف تنتهي الاتفاقية بعد سنة واحدة من تاريخ الاشعار. أما اذا لم يقم أي من الطرفين بممارسة هذا الخيار، فسوف تنتهي الاتفاقية في 4 كانون الأول/ديسمبر 2011، وهذا يعني أنه ستكون هناك حاجة لمنح تفويض لوجود طويل الأجل للقوات والمعدات الأمريكية في العراق عن طريق التوقيع على اتفاقية جديدة قبل ذلك التاريخ.
وعند الحديث عن الجداول الزمنية الواردة في الاتفاقية، تبرز مشكلة ملازمة لأي اعلان رسمي وواضح عن موعد للانسحاب، اذ أن الاحتلال يعلم جيدا ان المقاومة ستسعى الى تكثيف عملياتها قبل أي موعد معلن بهدف التأكيد على أن السبب الرئيسي لأي انسحاب أميركي انما يعود اليها. وهنا يمكن رؤية مصداق هذه الاشكالية في العاصمة بغداد، وان كان لا يستوي وصف جميع الأعمال الأمنية بالمقاومة، حيث عاد الوضع الأمني الى الخروج عن سيطرة السلطات ومن خلفها الاحتلال.
اذاً، لا يزال يتعين على الجيش الأميركي تحقيق الكثير في محافظات العراق، قبل أن يُعلن أنه استطاع تسليم القوات العراقية بلدا "آمنا" يتباهى بـ"الديموقراطية" على الطريقة الأميركية. ولعلّ الاشتباكات الذي دارت بين البشمركة والجيش العراقي في أيلول 2008 في منطقة "خانقين" أبرز دليل على هشاشة المشهد في العراق، وخضوعه أولا وأخيرا للعبة السياسية بما تحمل من مكونات متصارعة متحالفة مع الاحتلال وأخرى مناوئة له.

انسحاب جوهري أو رمزي؟
لا يناقش الكثيرون في أن الوجود الأميركي الروتيني المتمثل في نقاط التفتيش والدوريات في المدن والقرى والبلدات العراقية قد انخفض بشكل ملحوظ مع دخول الاتفاقية حيّز التنفيذ، لكن الاتفاقية تسمح للسلطات الأمنية العراقية بـ"الموافقة على تسيير دوريات مشتركة مع القوات الأميركية في كل حالة على حدة".
أحد البنود الاشكالية أيضا، أن "لجنة تنسيق العمليات العسكرية المشتركة"، في معرض تفسيرها لتقييد حركة الأميركيين خارج المدن والقرى والبلدات بمسافة لا تتعدى الميلين، تعطي هامشا واسعا للاحتلال في حق ارسال "مدربين مرافقين" الى المدن بهدف "دعم القوات العراقية على مستويات الكتيبة، اللواء، ومقر قيادات الفرق". الأمر الذي يعني ان الاحتلال يحيل التنفيذ الميداني على الأرض لكنه يحتفظ بورقة الادارة والتخطيط بموافقة رسمية عراقية.
من ضمن البنود التي تحمل أكثر من مدلول، ذلك الذي "يفرض" على القوات الاميركية مواصلة خدمات نقل الأصول اللوجيستية والاستخباراتية والطبية والمراقبة ليلا. ففي حين يتم التسويق لهذا البند على أنه "انتصار" عراقي، يبدو جليا أن الهدف منه التخفيف من مستوى الخسائر ضمن صفوف الاحتلال نتيجة هجمات المقاومة، علما ان القوات الاميركية، بحسب مصادر عراقية مطلعة، اتخذت بالفعل خطوات لخفض نشاطها لمصلحة الانسحاب الى القواعد الثابتة، بما في ذلك التحول الى مهمات التموين الليلي، بحيث يتم تقييد استخدام المركبات الثقيلة خلال النهار، والتنازل عن حق المرور في الطرق للسيارات المدنية العراقية.

 يحيل الاحتلال التنفيذ الميداني على الأرض لكنه يحتفظ بورقة الادارة والتخطيط بموافقة رسمية عراقية
ووفقاً للبند الخامس من المادة الرابعة من اتفاقية "سوفا"، تتمع هذه القوات الأمريكية الـ "منفصلة" (أي التي تعمل منفردة)، حين تعمل داخل المدن العراقية، بـ"الحق في الدفاع المشروع عن النفس"، من دون أن يُحدد مستوى هذا "الدفاع عن النفس" وأشكاله وطبيعته.
المادة السادسة من البند الثاني عشر تفيد بأنه "لسلطات أي من الطرفين أن تطلب من سلطات الطرف الآخر ان يتخلى عن حقه الأولي في الولاية القضائية".
أما المادة الأولى من البند الخامس عشر فهي تمثل انتهاكا صارخا للسيادة العراقية، حيث تسمح للقوات الاميركية "أن تستورد الى العراق وتصدر منه وتعيد تصدير أية معدات او تجهيزات او مواد او تكنولوجيا، من دون أن تخضع للتفتيش او أية قيود او رسوم جمركية".
وتعطي المادة الخامسة من البند الثاني والعشرين هامشا واسعا للاحتلال لناحية تنفيذ المداهمات والتفتيش، من دون الحصول على أمر قضائي عراقي مسبق، تحت ذريعة "عمليات قتالية".
على صعيد مواز، تتمتع الولايات المتحدة أيضاً بدور رئيسي في ضبط الحدود و"مكافحة التمرد" في المناطق الريفية، بحسب القراءة خلف سطور الاتفاقية الأمنية. وهنا تجدر الاشارة الى أن الهدف من هذا الاجراء لا يحاكي المصلحة العراقية بالتأكيد، بقدر ما يتعلق بالحراك الأميركي على جبهات اقليمية.
وفي هذه النقطة تحديدا، يبرز عامل ثانٍ عند الحديث عن "صعوبة مكافحة التمرد في المناطق الريفية" مقارنة مع "المناطق الحضرية"، نتيجة العامل السكاني. ففي المناطق الحضرية، حين يتحول سكان المدن الى عناصر معادية للـ"تمرد"، يستغل الاحتلال هذا العامل لمصلحته. أما في المناطق الريفية، فتكون عملية "مكافحة التمرد أبطأ" بسبب ضآلة الكثافة السكانية والارتباط العشائري والاجتماعي لسكان هذه المناطق. كما تلعب الجغرافيا عنصرا اضافيا في جعل مهمة الاحتلال أكثر صعوبة في المناطق الواسعة ذات التضاريس الوعرة؛ كما هو الحال على طول الحدود العراقية مع سوريا وايران في محافظات ديالى والأنبار وميسان. وبالتالي يُرجح ان تبقى القوات الأميركية شريكة كاملة للجيش العراقي حتى ما بعد آب 2010، اذ أن الأفق الزمني للانسحاب يرتبط أيضا بملف ايران والسياسة الأميركية ازاء كل من تركيا وسوريا.
في الخلاصة، لقد عرف الاحتلال استغلال الاتفاقية لأهدافه في الجانبين السياسي والاعلامي، فسوّق لها بهدف التخفيف من نقمة الشارع العراقي والمكونات المعارضة لوجوده. واقع تختصره عبارات البند التاسع والعشرين في الاتفاقية المتعلق بالانسحاب، اذ يفيد بأنه "كلما دعت الحاجة لذلك يقوم الطرفان بوضع آليات مناسبة لتنفيذ مواد هذا الاتفاق، بما فيها المواد التي لم تتضمن آليات محددة للتنفيذ".
أضف الى ذلك، هناك مؤشرات جدية على أن الوجود الأميركي يعيد انتشاره بأشكال أقل بروزا، وأن لا دقة في الأصل بالكلام عن انسحاب كامل من بلاد تعاني من فقدان شريحة واسعة من شعبها بالقوات الأمنية المحلية، فضلا عن تصارع القوى السياسية والطائفية على حصص السلطة. ويبقى الاحتلال المستفيد الأول من هذا الواقع الذي يتيح له في كثير من الأحيان لعب دور "اللاصق" الذي يربط معا مختلف عناصر المنظومة الأمنية العراقية؛ من قيادات محافظات وشركة وجيش وميليشيات وأجهزة مخابرات، ويستفيد من هذا الدور لتعزيز نفوذه الخفي في بلاد الرافدين.

2010-04-03