ارشيف من :ترجمات ودراسات

"الأزمة بين واشنطن وتل أبيب"... إلى أين؟

"الأزمة بين واشنطن وتل أبيب"... إلى أين؟
لؤي توفيق حسن(*)
ترى هل يجوز التعويل على ما يسمونه: "الأزمة بين واشنطن وتل أبيب" لتحقيق اختراق ما في ما اصطلح عليها بـ "العملية السلمية" التي ما زالت تراوح مكانها؟!!!.
للإجابة عن السؤال ينبغي فهم العقلية التي تحكم التفكير الأمريكي، في عالم السياسة بشكل أخص، ولعل خير كاشف كتاب صدر في نيويورك سنة 2001 عنوانه: "الطود" – (Colossus) – وهو في 506 صفحات على 38 فصلاً، شارك في وضعه أكثر من ثلاثين مؤلفا ألقوا الضوء على العلاقة الجدلية بين نشأة الدولة الأمريكية وبنية هذه العقلية، كاشفين التركيبة النفسية "للقوة الأمريكية".
يقول أحد المؤلفين: "إن من يريد أن يفهم أمريكا عليه أن يدرس بعناية فكرة الشركة المساهمة المحدودة"،
أما السبب فلأن "بداية الولايات المتحدة الحقيقية كانت شركات من نوع شركة "فرجينيا" ورأس مالها بنقود ذلك الزمان مئة ألف جنيه استرليني،، وكان أحد المساهمين الكبار فيها السير "فرانسيس بيكون" الوزير الشهير في قصر الملكة "اليزابيت" الأولى.
حتى مئة سنة كانت "الشركة هي الولاية، والولاية هي الشركة"، وبنفس الكيفية، ولكن بطريقة مختلفة كان حال "نيو انغلند" و"ماساشوستس" ، الثلاثي الذي نسج النواة الأولى للولايات المتحدة.
لقد شكل ما سبق (أحد) المفاتيح الهامة لثقافة العقلية الامريكية واخلاقياتها، ومنها "نظرية المنفعة" التي تقوم على أساس انه "إذا كان ما هو نافع مطلوبا، فإن ما هو نافع يصبح مشروعاً"، وهي التي باتت ناظماً "لنظرية المصالح" في السياسة بوصفها نوعا من الاستثمار تتحدد جدواه على مقياس العائدية أو المردود لا أكثر.
نضرب على ذلك مثالين، الاول من التاريخ البعيد، والآخر من التاريخ القريب، فقد أورد الكتاب المذكور تقريراً لشركة "فرجينيا " مكتوباً سنة 1624 مرسلاً إلى جمعية المساهمين في لندن رداً على طلب الأخيرة في "تمدين الهنود الحمر"، جاء بالنص: "ان الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أية محاولة لتمدينهم فهم همج، برابرة... وهذا يجعل تمدينهم صعباً... وإذا كانت محاولة تمدينهم ستأخذ وقتاً طويلاً فإن إبادتهم تختصرها، ووسائلنا الى النصر عليهم كثيرة، بالقوة، بالتجويع، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة والكلاب التي تخيفهم لأنها تنهش أجسادهم العارية".
أما المثال الآخر فعندما سئلت مادلين أولبريت خلال حصار بلادها للعراق عن رأيها في استقالة اثنين من مفوضي الأمم المتحدة لأن ضميرهما لم يتحمل وزر وفاة نصف مليون طفل عراقي ضحية نقص الغذاء والدواء، فردت قائلة: "ربما انه ثمن غال، لكننا نرى ان الهدف الذي نطلبه يساوي ذلك الثمن وأكثر منه"!!، وبنفس الكيفية قارب الكونغرس الأمريكي اتفاقية كمب ديفيد بالقول: "اشترينا السلام في الشرق الأوسط بحزمة مساعدات أمريكية...".
على ضوء ما سبق فإن اسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة (خيار) محكوم بمعادلة الربح والخسارة، وليس كما يحلو للبعض تصويره بأنه (قدر) تفرضه "سيطرة اللوبي الصهيوني"، وهذا ليس تقليلاً من شأنه، ولكن تصويباً في تقدير موقعه، فهو ليس قوياً إلا بقدر ما تتلاءم رغباته مع الاستراتيجية الأمريكية، خلافاً لما تحاول ترويجه بعض الدوائر الأمريكية كمخرج اعتذاري تخفف منه على (أصدقائها) بعضاً من تحرجهم حيال الشارع العربي.
لقد أظهرت التجربة أنه عندما حاولت اسرائيل الخروج عن قواعد اللعبة كما في حرب 56، فإنها تلقت صفعة من أمريكا أجبرتها على الانسحاب من صحراء سينا بالرغم من أن الرئيس ايزنهاور كان آنذاك على أبواب إعادة انتخابه للمرة الثانية!
هذه المقدمة تشكل أساساً للبحث في ما إذا كانت اسرائيل لم تزل خياراً راجحاً عند امريكا، وعلى ضوء هذا يمكن تصور ماهية "الأزمة" بين الطرفين، ومداها.
لا شك بأن السؤال أصبح الآن أعقد من الإجابة عنه بنعم، أو لا بصفة مطلقة، إذ هناك في الولايات المتحدة لغاية الساعة سجال بين الأفكار، تتراوح بين قوننة الدعم الأمريكي لاسرائيل وتركه على حاله، ويُظهر هذا التفاوت ارباكات السياسة الأمريكية في المنطقة بعد بروز حقائق جديدة على المستويين الإقليمي والعالمي.
أما القوننة فهي تهدف إلى كبح (جموح) اسرائيل كيما تلتزم بالأولويات الامريكية في إدارة الصراع على مستوى المنطقة، وهي تنطلق من اعتبارات يشكل بعضها أسباباً جوهرية لدى خبراء البنتاغون.
بروز عجز اسرائيلي في لبنان 2006، وفي غزة 2008 بالرغم من التفوق العسكري في العتاد، الامر الذي بات يدعو لمراجعة حدود القدرات الإسرائيلية في الحركة والتأثير.
الانسحاب الأمريكي الوشيك من العراق ـ وفيما بعد من افغانستان ـ الامر الذي يستوجب تفاهمات مع دول الجوار وفي مقدمتها إيران، وسوريا.
إن ما سبق لا يتناسب ورغبات اسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية إلى إيران ولا سيما ان تداعياتها مفتوحة على سيناريوهات لا تصب بالمطلق في مصلحة واشنطن.
ضرورة (امتصاص) مشاعر السخط في الشارعين العربي والإسلامي حيال تهويد القدس والاستيلاء على الأماكن المقدسة، وبالتالي تقليص حجم الإحراجات التي تلاقيها الأنظمة العربية (الصديقة) لأمريكا حيال شعوبها.
حاجة الدبلوماسية الأمريكية إلى (ماكياج) يغطي قبح وجهها أمام شعوب المنطقة جراء اصطباغها بدماء العراقيين والأفغان، بحيث تبدو (وسيطاً) مقبولاً في الشكل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلاً عن منح (أصدقائها) العرب المراهنين على "التسوية السلمية"، برعايتها، هامشاً سياسياً للمناورة في وجه انتشار المناخات المؤيدة شعبياً للمقاومة في أكثر من مكان.
أما الداعون إلى استمرار الدعم لاسرائيل فإنهم ينطلقون من الاعتبارات التالية:
استطاعت اسرائيل على مدى أربعة عقود أن تتحول من دولة معزولة إلى دولة منخرطة مع جوارها تقريباً، والمؤشر على ذلك تنامي صادراتها لعدة دول عربية إلى ما يزيد عن مليار دولار وفق المعلن عنه، فيما تؤكد أقل التقديرات بأن غير المعلن منها بلغ الضعف، وهذا كله من دون الحاجة (لمعاهدات السلام) على غرار ما فعلته مصر والأردن!
ان التحاق مصر الدولة العربية الأكبر في الفلك الأمريكي بعد أن كانت "صخرة" في وجهها يعود – من الوجهه الأمريكية – إلى نتائج "انتصار" اسرائيل في حرب حزيران 67.
تحول جذري في العديد من الدول العربية إلى اعتبار إيران (الخطر) الذي يهدد (أمنها)، والتوجه نحو "اسرائيل" بوصفها "ضرورة استراتيجية" في مواجهة هذا الخطر!!، والدليل التنسيق العسكري والأمني معها، حتى أن هذا دعا النظام المصري ليكون شريكاً لاسرائيل في حصار قطاع غزة، غير آبه بمشاعر الشارع وضغوطه.
لعل كل ما سبق يعزز عند فريق أمريكي فكرة ان القضية الفلسطينية لم تعد محورية، وان اندماج "إسرائيل" في محيطها الذي كلف أمريكا جهداً ومالاً بات مسألة وقت بنظره لا أكثر!!!
بالمقارنة بين تلك الأفكار موضوع السجال امريكياً سنجد شيئاً مذهلاً، وهو ان الكفة التي تدعو إلى كبح "إسرائيل" تستمد الأسباب من تأثير المقاومات من افغانستان وحتى غزة، بينما الكفة التي تزكي الخيار الإسرائيلي، بوصفه " رصيداً للأمن القومي الأمريكي" ـ بحسب رسالة مجلس النواب الأمريكي إلى كلينتون – فهي تستمد حججها – ( مترسملة)! ـ على النظام العربي الرسمي!!، هذا النظام الذي يرى "اسرائيل" "حاجة" فيما المواقف التركية إحراجاً يأكل من رصيده ومن هيبته ومن شرعيته!!!
ربما لذلك لم يعوّل بعض العارفين على نتائج "الأزمة" بين واشنطن وتل أبيب، ما دعا "الاندبندنت" البريطانية للقول: "شيء واحد يمكن التنبؤ به ونحن في أمان، هو ان السيد نتنياهو سيفلت مما حصل"!!
(*) كاتب من لبنان
2010-04-09