ارشيف من :أخبار لبنانية
دراسة: الإستخبارات الصهيونية وتحديات إطلاق النار منحني المسار
مقدمة:
تحدد كل دولة لنفسها التهديدات المركزية لوجودها ولمصالحها الاساسية. بناء على هذه التحديدات تصوغ سياسة الرد ذي الصلة – العسكري والدبلوماسي والاقتصادي وغير ذلك. اعتمد الرد الأمني "الاسرائيلي" مدة سنين على ثلاثة مبادىء أساسية: الردع والانذار والحسم. كانت فحوى هذه ببساطة ان على "اسرائيل" ان تردع الدول العربية عن بدء حرب، وفي حال فشل الردع عن احراز هدفه يجب على الاستخبارات "الاسرائيلية" أن تقدم انذاراً بالحرب لتمكين الجيش "الاسرائيلي" من الاستعداد في وقت مبكر. ومنذ تنشب الحرب يجب أن تكون "إسرائيل" قادرة على نقل القتال إلى أرض العدو وأن تحسم المعركة في زمن قصير، وبخاصة ازاء عدم وجود عمق استراتيجي وقدرتها المحدودة على الثبات.
هذه المبادىء الثلاثة – الردع والإنذار والحسم – كانت ترمي لحينها الى الرد على تهديد الحرب التقليدية. مع ذلك قلّ في العقود الأخيرة وزن هذا التهديد. فخروج مصر من نطاق مواجهة "اسرائيل"، وانصراف سورية عن السباق لاحراز "توازن استراتيجي" مع انهيار الاتحاد السوفياتي، والقضاء على عراق صدام حسين كقوة عسكرية اسهم كله في هذا المسار. في الوقت نفسه زاد وزن نوعين آخرين من التهديد – إرهاب المنتحرين والسلاح المنحني المسار. صيغ هذان التهديدان كوسيلة للامتناع عن مواجهة الجيش "الاسرائيلي" وجهاً لوجه، ليكونا بمنزلية "سلاح الضعيف"، وكطريقة لاستنزاف الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية. تحتاج الطبيعة المختلفة للعمليات الانتحارية واطلاق النار المنحني المسار الى فحص من جديد والى زيادة ابعاد جديدة على المفاهيم الأساسية التي قام عليها الرد العسكري "الاسرائيلي". مثلاً في اثناء الانتفاضة الثانية اثير بكامل قوته سؤال كيف نردع مخربا منتحرا يخرج لعملية من أجل الموت؟ بالنسبة لجوانب الانذار كان التحدي لا يقل عن ذلك تعقيداً. ففي الماضي قام الانذار الاستخباري بالحرب على تحليل رتابة نشاط الجيش العدو وتقديم اشارات تشهد باستعداده للحرب.
ولما كانت الاستخبارات في الاكثر قد تناولت أطر قتال كبيرة فان تحدي الانذار موجود في تفسير نيات العدو وأقل من ذلك في تحديد الاشارات للحرب. بخلاف الانذار بحرب قريبة، تتم العمليات الانتحارية على يد أطر صغيرة ذات مستوى خفاء أعلى ومدد أقصر. وعلى نحو شبيه أصبحت قضية الحسم مشكلة فيما يتعلق بمواجهة تهديد العمليات الانتحارية وبخاصة على خلفية حقيقة ان مفاهيم الزمن (المواجهة المستمرة)، والمجال (الجبهة الامامية والجبهة الخلفية المدنية) والعدو (منظمات داخل الدول) قد تغيرت. مع ذلك، يبدو في قضية مواجهة ارهاب المنتحرين ان اسرائيل وجدت في السنين الاخيرة صيغة ناجحة نسبيا تؤلف بين المعلومات الاستخبارية الدقيقة، ونشاط احباط في ميدان العدو وعائق مادي. في الآن نفسه، يبدو أن الطريق ما يزال طويلا لمواجهة تهديد اطلاق النار المنحني المسار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية. تريد هذه المقالة ان تسهم في صوغ الرد على هذا التهديد بتوسيع نقاش مبدأ الانذار في التصور الامني الوطني ازاء هذا التحدي والفحص عن الأبعاد الاخرى سوى الانذار والتي تحتاجها الاستخبارات في مواجهة تحديد الاطلاق المنحني المسار.
استعمال العدو لسلاح منحني المسار – مبادىء مركزية
لفهم عمل الإستخبارات في مواجهة تهديد الاطلاق المنحني المسار ينبغي أن نفهم أولاً كيف يستعمل هذا السلاح وبحسب أي مبادىء. على نحو عام، وكما يمكن أن نتعلم من حرب لبنان الثانية ومن عملية "الرصاص المصبوب" في مواجهة حماس في غزة، يمكن أن نقول أنه يقوم في قلب تصور استعمال السلاح المنحني المسار فكرة احداث تهديد ناري مهم للجبهة الاسرائيلية الداخلية وصد/ تعويق مناورة الجيش "الاسرائيلي" في موازاة ذلك.
يحرز هذا الشيء بعدد من المبادىء:
1. تحديد الجبهة المدنية الداخلية كهدف مركزي: الهدف من وجود السلاح المنحني المسار هو المس بالجبهة الاسرائيلية الداخلية المدنية. لهذا التحديد العام معان عملية كثيرة مثل تفضيل الكمية على النوعية، أي التزود بصواريخ كثيرة قدر الاستطاعة برغم كونها سلاحا احصائيا اصابته غير دقيقة، على حساب بناء نظم دقيقة لكنها أثقل مثل صواريخ أرض – أرض. تتصل معان أخرى تنبع من تحديد الجبهة المدنية الداخلية على أنها الهدف المركزي باختيار أهداف الاطلاق – أهداف مدنية ومناطق بلدية، واختيار الرؤوس المتفجرة التي تزود الصواريخ بها.
2. نشر واسع: إن "حزب الله" في لبنان وحماس في القطاع ايضا أرادا زيادة بقاء قواعد الاطلاق بنشرها في مساحة جغرافية واسعة. فمثلا زمن عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة اطلقت صواريخ من شمال القطاع، ومن مدينة غزة ومن جنوبي القطاع ايضا. وفي لبنان الذي مساحته اكبر بعشرات الاضعاف، نشر حزب الله في اثناء حرب لبنان الثانية صواريخ وبخاصة جنوبي نهر الليطاني لكنه فعل ذلك شماليه ايضا. وفوق ذلك، كما يمكن ان نتعلم من مهاجمة سلاح الجو لقواعد اطلاق الزلزال، نشرت صواريخ بعيدة المدى في منطقة بيروت ايضا. يضطر النشر الواسع الجيش الاسرائيلي الى نشر وسائل تجميع معلومات استخبارية وتحديد المواقع التي يملكها، ويقلل بذلك احتمال الكشف عن مواقع قواعد الاطلاق ويزيد قدرتها على البقاء بذلك.
3. اقلال الانكشاف المادي: ثم مبدأ عمل مهيمن آخر هو الاقلال من الانكشاف المادي لقواعد الاطلاق. يرمي هذا المبدأ الى جعل الكشف عنها صعبا، ويحرز بتغطية قواعد الاطلاق وأعمال الاطلاق على نحوين مركزيين: أحدهما اجراء اكثر النشاط المتعلق بالاطلاق داخل البيئة المدنية او بقربها. في هذا الجانب مثلا، يبرز على نحو خاص استعمال حماس للمساجد كمستودعات للصواريخ ولوسائل قتالية اخرى. والطريقة الثانية لاخفاء النظام المنحني المسار تغطية أنابيب الاطلاق داخل حراج طبيعي، وملاجىء صغيرة في المناطق المفتوحة أو في ظاهر المنطقة الآهلة، وفي حالة قواعد الاطلاق المتحركة، أي كتلك التي تركب على سيارات – تخزينها داخل بيوت نشطاء. احدى النتائج المركزية لهذا المبدأ هي زمن "عيش هدف" قصير أي أن نافذة الوقت التي يمكن فيها مهاجمة قاعدة الاطلاق قصيرة تنحصر أحياناً في لحظات معدودة. تبدأ نافذة الوقت هذه عندما تكشف قاعدة الإطلاق (ازالة تنكيرها أو إخراجها من المخبأ)، وتستمر زمن الاطلاق – عدة ثوان يشتعل الصاروخ في اثنائها وهو شيء يمكن من تحديد موقعه بوسائل تحديد الكترونية، وينتهي مع اخفائه قاعدة الاطلاق من جديد او نقلها السريع الى مكان مخبأ.
4. عدد كبير من قواعد الإطلاق (الاقلال من الوزن النوعي للقاعدة الواحدة): نتيجة الفهم العام لقدرات سلاح الجو استنتجوا في حزب الله وفي حماس ايضا انه من اجل انتاج نار منحنية المسار زمنا طويلا ينبغي التزود بعدد كبير من أنابيب الاطلاق. ان العدد الكبير لقواعد الاطلاق يجعل وزن قاعدة الاطلاق المفردة مهملا بالنسبة لنشاط سائر نظام النار. على هذه الطريقة لا يؤثر القضاء على عدد من أنابيب الاطلاق قليل في ايقاع انتاج النار. مثلاً في حرب لبنان الثانية أباد سلاح الجو الاسرائيلي 93 قاعدة اطلاق صواريخ – 50 منها بطلعات مدبرة في أول ايام الحرب. وأبادت طائرات ظلت في الجو و "صادت" قواعد اطلاق 33 قاعدة اطلاق بسيطة. ومع ذلك كله، حافظ حزب الله في اثناء ايام القتال كلها على ايقاع اطلاق بمعدل نحو من 130 صاروخ كل يوم بل انه اطلق في آخر يوم 253 صاروخا.
5. نظام دفاعي أرضي معزز: لا يقف نظام النار المنحني المسار بذاته بل يصحبه نظام دفاع أرضي. يكمل هذا النظام تصور الاستعمال المنحني المسار ويمكن أن نقول في واقع الأمر أن وجوده حاسم بقدر كبير بالنسبة لقدرة العدو على أحداث تهديد ناري ذي شأن لزمن طويل على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية. لان هدف النظام الارضي هو صد أو تعويق قوات الجيش الاسرائيلي و "استفادة وقت" في واقع الامر من اجل نظام النار المنحني المسار. إن "حزب الله" وحماس ايضا انشآ الى جنب نظام النار نظاما دفاعيا ثابتا اعتمد على مواقع مضادة للدبابات وعلى ملاجىء وحقول ألغام معدة سلفا، هدفها كله احداث خسائر وتعويق المناورة.
الإستخبارات وتحديات الإطلاق المنحني المسار
تحدي الردع
خصص تصور الأمن القومي للاستخبارات دوراً مركزياً هو الانذار بالحرب. ان حقيقة ان جزءاً كبيراً من قوة اسرائيل العسكرية في الحياة العادية غير مجند وغير مستعد للقتال، وحقيقة أن "اسرائيل" لا تملك في واقع الامر عمقا استراتيجيا تجعلان الاستخبارات وقدرتها على الانذار "شريطا دفاعيا اول". وقد أصبح الانذار بالحرب المهمة التقليدية للاستخبارات، عندما يكون الحديث عن أطر قتال كبيرة مؤسسية مثل جيوش نظامية لا يكون الانذار بالحرب اجراء مفاجئا. فهو في الاكثر يبنى على مراحل وقد يبدأ بتقويم دوري، ثم بانذار أولي باجراءات حشد قوات وباستعداد وبتجهيزات واشارات شاهدة أخرى، وينتهي إلى تقديم تقدير تلخيصي تقرر الإستخبارات فيه أن دولة أو جماعة من الدول تنوي أن تهاجم في مكان وموعد وطريقة محددة. بعبارة أخرى، تقديرات حرب دولة مسيرة متصلة تنشىء على طول الطريق اشارات شاهدة.
يمكن تقسيم الإنذار إلى نوعين رئيسين:
- الأول: الإنذار بنية استراتيجية لاستعمال سلاح لاحراز اهداف سياسية أو غيرها.
- الثاني: الانذار بتقديرات محددة للحرب.
فيما يتصل باستعداد جيش للحرب لا يقوم نظام النار من تلقاء ذاته، وعلى ذلك فان التحدي الاستخباري في هذا السياق يكمن في الاساس في القدرة على تحديد تغيرات النشاط المعتاد في نظم النار المنحنية المسار وادماجها في نطاق الصورة العامة لتقديرات العدو للحرب. بين لاعبات من الدول تملك نظما نارية منحنية المسار كبيرة مؤسسة تكون المهمة بسيطة نسبيا وتنفذ في نطاق المتابعة الجارية للنشاط العسكري، وكجزء من محاولات ملاحظة اشارات شاهدة. وعند لاعبات ليست من الدول مثل حماس وحزب الله تكون قضية الاشارات الشاهدة مشكلة. في المستوى الاستراتيجي، تتخذ في الاكثر القرارات في دائرة مغلقة ضيقة جدا من النشطاء.
وفي مستوى العمليات ليس الحديث عن جيوش بل عن أطر قتال اصغر جزء ملحوظ من قواعدها العملياتية منتشر في الميدان اصلا، وعلى ذلك فان انكشافها لاجهزة الاستخبار ضئيل. في هذه الحالات خاصة، متابعة نظام النار المنحني المسار قد يسهم اسهاماً كبيراً في فهم نيات العدو في المستوى الاستراتيجي ولا سيما في مستوى العمليات، لان كمية الاشارات الشاهدة التي ينشئوها هذا النظام كبيرة نسبيا. القاعدة اللوجستية والقوة البشرية الملطلوبة لاستعمال نظام النار المنحني المسار، الى جنب الاستعدادات التقنية في نطاق رفع الاهلية للمواجهة، كلها يضمن أن تنجم الاشارات الشاهدة على الحرب وتحدد. متابعة هذه النظم من هذه الجهة، في المنظمات داخل الدولة ليست مهمة في ذاتها فقط من اجل فهم التهديد بل قد تسهم ايضا في فهم الصورة العامة التي تتصل بنيات العدو.
الى جنب البعد التقليدي للانذار بالحرب يعرض التهديد المنحني المسار بعداً جديداً للعمل الإستخباري وهو الإنذار في خلال الحرب. هنا ينحصر الانذار بالاشارة الى نيات العدو ان يبدأ استعمال انواع سلاح لم يستعملها الى ذلك الحين، مثل نية اطلاق قذائف صاروخية مزودة بمواد كيماوية او نية اطلاق النار على مناطق في دولة اسرائيل لم تكن واقعة حتى ذلك الحين تحت النار. يعتمد هذا النوع من الانذار على افتراض ان العدو سيستعمل قدراته النارية استعمالاً تدريجياً، وعلى ذلك يجب على الاستثمارات ان تزود بانذار وفي الوقت من اجل تمكين قيادة الجبهة الداخلية والمواطنين انفسهم من الاستعداد للتهديد المتوقع. معاني مبنى القوة الاستخبارية في هذا السياق كثيرة ويقوم في مركزها الحاجة الى تعميق التغلغل الاستخباري في مستوى اتخاذ القرارات في المنظمات والدول ذات الصلة، والاهتمام بأن تتدفق هذه المعلومات تدفقا متصلا في اثناء الحرب ايضا. كل ذلك بطبيعة الأمر مع فرض أن قرارات حاسمة قد تصل باطلاق النار المنحني المسار ستتخذ في هذه المستويات لا على يد المستويات الميدانية على نحو غير مراقب.
تحدي الحسم
في كل ما يتعلق إذن بالانذار بالحرب ليس التناول الاستخباري للسلاح المنحني المسار مستقلا وهو يشكل جزءا من جملة مجالات اوسع يفترض ان تثمر المتابعة الاستخبارية لها اخر الامر انذارا. في مقابلة ذلك وفيما يتعلق بمبدأ الحسم يلعب العلاج الاستخباري للتحدي المنحني المسار دوراً أهم واكثر مركزية. إن قضية الحسم هي قضية مركبة تتجاوز المجال الضيق لمواجهة عدو يستعمل سلاحا منحني المسار وهي لذلك تستحق نقاشا مستقلا يتجاوز مجال هذه المقالة. مع ذلك يمكن أن نقول على نحو عام أن الحسم في التصور الامني "الاسرائيلي" هو بقدر كبير مفهوم مرادف لاحلال "هزائم شديدة بالعربي" كما عرف ذلك اسرائيل تال.
طرائق احراز تلك "الهزيمة الشديدة"، بحسب رأي تال، تشتمل على القضاء على قوة العدو العسكرية كقوة قتال نظامية، وبقدر أقل على إحتلال أرضه والسيطرة على مناطق نشر قواته ومناورته، والمس بحلفاء العدو، والقضاء على بنيته التحتية الاقتصادية وتهديد عاصمته. صيغت هذه المبادىء في الخمسينيات وترمي إلى مواجهة عدوات من الدول تملك كنوزاً من المناطق وتدافع عنها بجيوش نظامية. إن تطبيق هذه المبادىء للانتصار على منظمات داخل الدول كحزب الله وحماس يتطلب بيانا وتنسيقا قد لا يكون هنا مكان تفصيلها. في الآن نفسه، من الواضح أنه في كل مواجهة في المستقبل مع منظمات داخل الدول ترى اطلاق النار المنحني المسار استراتيجية قتال رئيسة في مواجهة اسرائيل ستكون قضية مواجهة اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية قضية حاسمة.
ومن لواحق ذلك أن هزم العدو سيقاس بقدر كبير بثلاثة مقاييس مركزية:
- الأول: وقف/مضاءلة إطلاق النار على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية.
- الثاني: المس بذخائر استراتيجية للعدو والثالث قدرة الجبهة الاسرائيلية الداخلية على الصمود.
- وفيما يتصل بهذه الاخيرة، تتعلق قدرة الجمهور الاسرائيلي على الصمود بعوامل كثيرة يبدو ان الاستخبارات تلعب فيها جزءا مهما وان يكن ثانويا قياسا بعناصر أخرى.
عمل الاستخبارات في هذا السياق يتلخص في الاساس بالاشارة الى جملة التهديدات الممكنة قبل الحرب (من اجل بناء قوة قيادة الجبهة الداخلية ومضاءلة بعد عدم اليقين عند الجمهور)، وزمن القتال – الاشارة الى تههديدات في طور التشكل، مثل نية استعمال سلاح غيرتقليدي، وبطبيعة الامر المشاركة في تقديرات وضع تتعلق بالحياة المعتادة في الجبهة الداخلية.
وفي المقياسين الأولين – وقف/ مضاءلة اطلاق النار والمس بذخائر استراتيجية للعدو، يوجد للاستخبارات دور اكثر مركزيا وهذا ما سنتناوله بعد في المقالة.
وقف/ مضاءلة إطلاق النار على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية
تتعلق القدرة على مضاءلة اطلاق النار كثيراً على الجبهة الاسرائيلية الداخلية بفهم تصور استعمال هذه النظم عند حماس وحزب الله وسورية. يقوم هذا التصور كما قيل آنفا على عدد من المبادىء؛ المركزي منها: انتشار واسع، وانكشاف مادي ضئيل، وعدد كبير من قواعد الاطلاق. ان وجود حلول لمشكلات العمليات التي يقيمها كل واحد من هذه المبادىء سيفضي آخر الامر الى مواجهة ناجحة للتحدي المنحني المسار. يكمن جزء كبير من الحلول كاملا او جزئيا في الحقل الاستخباري.
المشكلة: انتشار واسع وانكشاف مادي ضئيل؛ الرد: المفاضلة بين مناطق العناية وحصر التجميع
إن اثنين من المبادىء المهمة التي تستعمل حماس وحزب الله وسورية كما يبدو ايضا بحسبها نظم النار المنحنية المسار عندها هما نشر قواعد الاطلاق في مساحة جغرافية واسعة ومضاءلة انكشافها المادي.
كل ذلك من اجل تصعيد تحديد موقعها وزيادة قدرتها على البقاء. في هذا السياق يوجد دور مهم للاستخبارات في مركزه تحديد جداول افضلية العلاج، ومع اشتراك الجهة العملياتية – تحديد نوع العلاج العملياتي الذي تعطاه كل منطقة. النشر الواسع، ولا سيما عندما يكون الحديث عن مساحات واسعة كما في سورية ولبنان، لا يمكن اصلا من تخصيص نفس الموارد العملياتية والإستخبارية لكل موقع (بلدة أو منطقة مفتوحة) قد توجد فيه قاعدة اطلاق صواريخ. في الوقت نفسه، يقتضي الإنكشاف الضئيل لقاعدة اطلاق صواريخ ردا سريعا من الفور مع تحديد موقعها.
برغم كل ذلك، وبطبيعة الامر، لا تنشر أنابيب الاطلاق على نحو متساو في ساحة المعركة كلها، والنار التي تنتج من كل منطقة جغرافية غير متساوية في كميتها أو في نوع الأهداف المخصصة لها. مثلا بحسب تحليل آفي روبن، أطلق حزب الله في حرب لبنان الثانية صواريخ من عدة مناطق رئيسة.
مثلا اطلق من ضواحي سور نار على بلدات في غربي اسرائيل – السهل الساحلي الشمالي ولا سيما حيفا، اما من جنوبي البقاء اللبناني فاطلقت نار على هضبة الجولان. وفي عملية "الرصاص المصبوب" اطلقت قذائف صاروخية على اسدود ولا سيما من شمالي القطاع. ينبغي استغلال هذا الوضع لتحديد سلم افضليات جغرافي للعلاج ولاعداد رد استخباري وعملياتي خاص بكل منطقة.
يجب على الاستخبارات في المرحلة الاولى الاشارة الى المناطق الجغرافية التي يتوقع ان تنتج اكثر النيران الموجهة الى الجبهة الاسرائيلية الداخلية او انتاج نيران (وان تكن ضئيلة) موجهة الى التجمعات السكنية الرئيسة مثل غوش دان والى اهداف استراتيجية من البنى التحتية. يمكن أن تتم هذه المفاضلة مع النظر في معطيات مثل الارض، والسكان وانتشار العدو ونوع الصواريخ المنشورة في المنطقة وقدرة الاستخبارات على احداث اهداف في المنطقة نفسها. ينبغي في المرحلة الثانية أن يعد لكل منطقة رد استخباري وعملياتي يناسبها.
وبهذه الطريقة نحصر آخر الامر على خطة عمليات واسعة مركبة من خطط فرعية على شكل فسيفساء استخبارية عملياتية، تقدم افضل رد على تهديدات محددة في كل منطقة جغرافية. وذلك بدل خطة واحدة كبيرة ثقيلة تريد فرض رد واحد على ميدان القتال كله. كان الأخذ بهذه الطريقة في مواجهات سابقة يفضي مثلاً إلى تخصيص موارد تجميع وقوات جوية أو برية أكبر لمنطقة سور أو شمالي القطاع مع نشوب المعركة من الفور، بغير حاجة إلى انتظار تجميع معطيات عن اطلاق النار (بعد عدة أيام أو أسابيع من اطلاق النار).
مع عدم وجود معلومات استخبارية وقدرة على انتاج اهداف في هذه المناطق كان يمكن مخطط العمليات ان يصوغ ردا ارضيا ملائما لخلايا الارض هذه قبل بدء القتال، وان يمكن من توجيه جهود تجميع المعلومات الاستخبارية والجهود الجوية الى مناطق اخرى القدرة فيها على انشاء الاهداف اكبر.
في هذا الجانب، قد يساعد العمل الاستخباري وتحليل انتشار قواعد اطلاق الصواريخ على المناوبة بين الجهود الجوية وتجميع المعلومات الاستخبارية وبين الاجراءات الارضية – منع تركيز جهد تجميعي في الاماكن التي تنخفض فيها القدرة على انشاء اهداف، وتخصيص قوات برية لهذه المناطق سلفا في مرحلة التخطيط. يصبح هذا المعطى حاسما على نحو اكبر اذا اخذنا في حسابنا زيادة قوة حزب الله وسوريا وامكان ان تنشأ نار كثيفة في الحروب المقبلة مع هذه الجهات لصواريخ بعيدة المدى من مناطق داخل سورية ولبنان.
من جهة استخبارية وعملياتية لا يحل ان تقف المفاضلة بين مناطق العلاج مع بدء الحرب. بل يجب ان تكون دينامية وان تعتمد على تحليل معطيات النار، ووضع قواتنا، وقد تعتمد ايضا على وضع السكان المدنيين في مناطق / مدن محددة في البلاد. مثلا يمكن ان توجب اصابات شديدة متكررة لمنطقة بلدية ما، على الجيش الاسرائيلي كجزء من المساعدة في صمود الجبهة الداخلية، ان يصوغ ردا عملياتيا سريعا لعلاج المنطقة التي تطلق منها النار، حتى لو لم تكن هذه المنطقة مشمولة في نظم التفضيل الاولى للعلاج.
المشكلة: عدد كبير من قواعد الاطلاق؛ الرد: تخطيط عملياتي ذو تأثير اصابة واسعة
المبدأ الثالث الذي تستعمل بحسبه حماس وحزب الله وسورية ايضا كما يبدو، نظم النار المنحنية المسار عندها هو نشر عدد كبير من قواعد الاطلاق. وذلك كما قلنا آنفا لمضاءلة الوزن النوعي لكل قاعدة، ولمنع وضع يؤثر فيه اصابة عدد من قواعد الاطلاق المتفرقة في ايقاع انتاج النار الموجهة الى اسرائيل. في مواجهة "تحدي الكمية" يوجد للاستخبارات دور مزدوج: في مرحلة التخطيط وفي مرحلة التنفيذ.
على خلفية ادراك ان الكمية الكبيرة لانابيب الاطلاق لا تمكن من القضاء على كل واحد منها ماديا، يجب على الاستخبارات ان تشير في مرحلة صياغة خطة العمليات الى نقط ضعف تخرج اصابتها من نطاق العمل اطر اطلاق كبيرة قدر المستطاع. مثلا مع افتراض ان استعمال عدد كبير من قواعد الاطلاق على نحو منظم ولزمن طويل يقتضي نوعا ما من القيادة والسيطرة المركزيتين: القيادات المحلية والبنى التحتية الاقتصادية وما أشبه، يجب على الاستخبارات في مرحلة التخطيط أن تحدد وان تشير الى هذه العناصر (في جوانب التحليل وفي جوانب الاهداف). في حرب لبنان الثانية، كما يبين آفي روبن، قلل حزب الله وزاد ايقاع النار على الجبهة الداخلية الاسرائيلية بحسب ارادته. يقتضي هذا الامر مبنى منظما ما من القيادة والسيطرة.
والى ذلك، وكما يبين اسحق بن اسرائيل، حزب الله من جهة هو منظمة ذات عناصر عصابة (ولا سيما في جوانب النشاط السري والقدرة على البقاء)، والحديث من جهة ثانية في زعمه عن "منظمة عسكرية تقليدية مع مواقع قيادة وسيطرة، ونظم اتصال متقدمة ومخازن وسائل قتالية ... وبنية تحتية ثابتة، ووحدات اقليمية لمحاربين مدربين جيدا".
خلص الى استنتاج مشابه ايضا بيدل وفريدمن اللذان حللا قتال حزب الله في صيف 2006، وبينا ان المنظمة سلكت في اثناء مواجهة الجيش الاسرائيلي كمنظمة عسكرية اكثر تنظيما من منظمة عصابات مقطعة الاوصال.
من المحقق ان هذا المبدأ قابل للتطبيق ايضا على سورية التي من المحتمل فيها ان استعمال نظم النيران سيتم بحسب مبنى تراتبي وقيادي منظم ينبع من حقيقة ان هذه النظم جزء من الجيش النظامي. ازاء مسارات المأسسة التي تجري على قوة حماس العسكرية يحتمل في المستقبل ايضا ان تصبح نظم النيران في هذه المنظمة ذات قيادة وسيطرة منظمتين على مستوى ما.
وعلى حسب ذلك عمل الاستخبارات ازاء كل واحدة من هذه الجهات لا يمكن ان يتلخص في الاشارة الى نوع التهديد ونشره ونيات العدو، بل يجب على افراد الاستخبارات ان يشيروا في مرحلة التخطيط الى تلك العناصر التنظيمية التي يساعد المس بها على اخراج اجزاء واسعة قدر المستطاع من نظم النيران المنحنية المسار من جملة النشاط.
يتصل بعد آخر يتعلق بمواجهة الكمية الكبيرة من انابيب الاطلاق بقدرة الاستخبارات على انشاء اهداف للهجوم. في الجيوش العصرية التي فيها قوة النيران هي عنصر مهيمن يحتل مجال انشاء الاستخبارات للاهداف مكانا مركزيا. في واقع الامر بغير معلومات استخبارية عن اهداف نوعية لا يمكن استعمال ناجع لوسائل النيران.
في هذا الجانب تنقل الاستخبارات معلومات مفصلة عن مواضع الاهداف في الوقت المناسب ولا يقل عن ذلك اهمية أنها تساعد في تحديد جدول افضليات للقضاء عليها، بحسب درجة الخطر في كل هدف وقرب متناول وسيلة الهجوم. تصبح هذه المهمة الاستخبارية حاسمة في مواجهة نظم نيران منحنية المسار تعتمد على عدد كبير من قواعد الاطلاق. تقتضي كمية الاهداف الكبيرة من الاستخبارات لا اعدادا مسبقا أفضل وبناء اهداف للهجوم قبل المعركة فقط، بل وفي الاساس تطوير قدرة على اعطاء معلومات عن اهداف في الوقت المناسب.
الثبات الناجح لهذه المهمة مشروط أصلا بتطوير رد يعتمد على التأليف بين المعلومات الاستخبارية (نوع وسائل القتال التي يملكها العدو وطريقة استعمالها في المستوى التكتيكي والتقني – التكتيكي) وبين قدرات تكنولوجية متقدمة (تحديد المواقع والهجوم). ان حصر العناية في جانب واحد من جوانب المعادلة – المعلومات الاستخبارية او القدرة التقنية – سيعطي حلا عملياتيا جزئيا فقط.
المس بكنوز استراتيجية بالعدو – العلاقة بين الحسم والردع
فوق المس بقدرة العدو العسكري – في حالتنا القضاء على عدد كبير من قواعد الاطلاق وعناصر تنظيمية اخرى تؤثر في الاطلاق، سيحرز الحسم، او هزيمة كاسحة ايضا بواسطة المس بكنوزه الاستراتيجية. فيما يتعلق بدولة معادية مصطلح "كنز استراتيجي" واضح على قدر كاف ويشتمل بالجملة ما يشتمل عليه على مناطق حيوية (من الجانب الامني)، الى جنب مؤسسات الحكم نفسها، والبنى التحتية الوطنية الحيوية، ومنشآت اقتصادية مركزية وما اشبه.
يسأل سؤال ما هو الكنز الاستراتيجي لمنظمات داخل دول مثل حماس وحزب الله؟ الحديث في ظاهر الامر عن منظمتين لا تشغل عندهما الارض دورا مركزيا. ليست هاتان المنظمتان دولتين، ولذلك ليست لهما بنى تحتية وطنية او مؤسسات حكم. مع ذلك عندما نفحص عن حماس وحزب الله نجد ايضا انه توجد لهما كنوز يمكن أن تعرف على أنها استراتيجية. من جهة المناطق، يوجد مركز ثقل المنظمتين في تلك المناطق التي يوجد فيها سكان شجعونهما ومنهم وبمساعدتهم تعملان. في حالة حماس من المحتمل أنه يمكن تعريف احياء ومخيمات لاجئين ما في القطاع على أنها ملجؤها المناطقي.
وفي حالة حزب الله ، يستعمل جنوب لبنان، ومركز البقاع وشماليه (المنطقة بين بعلبك والهرمل) والاحياء الجنوبية من بيروت، على نحو تقليدي مواقع مناطقه الطبيعية. ان المس بهذه المناطق واحتلالها احتلالا تاما او جزئيا قد يسبب في نظر المنظمة تأثير ضرر استراتيجي.
ينبغي أن نضيف الى البعد المناطقي البعد التنظيمي – المؤسسي. إن حماس و"حزب الله" أيضاً منظمتان نشأتا من السكان، ولهما بهم علاقات متبادلة وثيقة بواسطة نظام مؤسسات تقدم خدمات دولة ("دعوة").
في هذا السياق اعظم حزب الله الفعل عندما انشأ في واقع الامر ما يشبه حكومة ("المجلس التنفيذي") المسؤول عن تقديم خدمات مختلفة كالتربية والصحة، وخدمات البناء والمساعدة الاجتماعية، والثقافة والدين للطائفة الشيعية. يعتمد هذا النظام على بنية تحتية بشرية مناسبة – وظائف بيروقراطية وبنية تحتية مادية – مكاتب ومخازن ومبان مختلفة وما أشبه ذلك. هذه البنى التحتية مثال لكنز استراتيجي للمنظمة.
وعلى القدر نفسه، قد يكون الكنز الاستراتيجي نشيطا ما يعرف مثلا على أنه الزعيم في المستقبل او طائفة من الكنوز الاقتصادية التي تمد كبار مسؤولي المنظمة. ان المس بكنوز من هذا النوع في الحقيقة لن يؤثر مباشرة في اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية في اثناء القتال، لكن من المحتمل أن يسهم باحداث شعور بـ "الهزيمة الكاسحة" عند هذه المنظمات وفي سلوكها.
ينبغي أن نذكر في هذا السياق انه من جهة تصور الامن الاسرائيلي يفترض أن يبني احراز حسم او "هزيمة كاسحة" في أمد بعيد الردع الاسرائيلي. وعلى ذلك فان محاربة منظمة تستعمل سلاحا منحني المسار لا يحل ان تتلخص في مواجهة اطلاق النار فحسب، بل يحسن ان تنظر قدما وان ترى المواجهة جزءا من مسيرة متصلة تدرك حماس وحزب الله او أي جهة اخرى في نهايتها ان اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية ضرره اكبر من فائدته.
للاستخبارات في هذه الجوانب دور حاسم في مركزه الاشارة الى تلك الكنوز التي يسهم المس بها في مسيرة انشاء "كتلة حرجة" من هذه الكنوز، وتجميع معلومات عنها واعدادها لتكون اهدافا للهجوم.
الخلاصة
ان تهديد السلاح المنحني المسار يعرض التصور الامني الاسرائيلي لتحديات كثيرة، ويجب ارغام المسؤولين عنه ان يفكروا تفكيرا مجددا في المبادىء التي يقوم عليها وهي الردع والانذار والحسم. مثل المستوى المبدئي للتصور الأمني يحتاج الى ملاءمات في مجال الاستخبارات ايضا بل ربما اكثر من ذلك لنواجه بنجاح التحديات التي يقيمها تهديد النيران المنحنية المسار للجبهة الاسرائيلية الداخلية.
خلافا للدور الذي خصصه تصور الامن القومي للاستخبارات وهو الانذار بالحرب، لم تضيق الاستخبارات نفسها عملها في هذا المجال فقط. كان اناس الاستخبارات دائما مشاركين لا في تجميع المعلومات والتقدير فحسب بل في تقديم معلومات استخبارية لمختلف الاحتياجات العسكرية: بناء القوة، والتخطيط، والعمليات الخاصة، وتقديرات الانجاز وما شابه.
في الوقت نفسه يبدو أن تعقيد التحدي الذي يقيمه اطلاق النار المنحني المسار في حرب مستقبلة يدفع الاستخبارات ويلزم افرادها في الكشف عن مشاركة اكبر في مسارات تخطيط العمليات قبل المعركة، وفي تقديم معلومات استخبارية اكثف وافضل نوعية عن الاهداف وفي اجراء المعركة على نحو عام. يبدو في الوقت نفسه ان النجاح في مواجهة التهديد المنحني المسار لا يتعلق فقط ستخبارات وافرادها بل ايضا في فهم الجهات الاخرى في الجيش انه ينبغي التأليف بين الاستخبارات واستنتاجاتها البحثية والتجميعية على نحو عميق واسع للتخطيط والتنفيذ. ان فهما على هذا النحو قد يضمن ان تكون النتيجة في المواجهة المقبلة مع تحدي الاطلاق المنحني المسار افضل كثيرا مما كانت في المرات السابقة.
إعداد: أمير كوليك، باحث في معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني
(*) نقلا عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تحدد كل دولة لنفسها التهديدات المركزية لوجودها ولمصالحها الاساسية. بناء على هذه التحديدات تصوغ سياسة الرد ذي الصلة – العسكري والدبلوماسي والاقتصادي وغير ذلك. اعتمد الرد الأمني "الاسرائيلي" مدة سنين على ثلاثة مبادىء أساسية: الردع والانذار والحسم. كانت فحوى هذه ببساطة ان على "اسرائيل" ان تردع الدول العربية عن بدء حرب، وفي حال فشل الردع عن احراز هدفه يجب على الاستخبارات "الاسرائيلية" أن تقدم انذاراً بالحرب لتمكين الجيش "الاسرائيلي" من الاستعداد في وقت مبكر. ومنذ تنشب الحرب يجب أن تكون "إسرائيل" قادرة على نقل القتال إلى أرض العدو وأن تحسم المعركة في زمن قصير، وبخاصة ازاء عدم وجود عمق استراتيجي وقدرتها المحدودة على الثبات.
هذه المبادىء الثلاثة – الردع والإنذار والحسم – كانت ترمي لحينها الى الرد على تهديد الحرب التقليدية. مع ذلك قلّ في العقود الأخيرة وزن هذا التهديد. فخروج مصر من نطاق مواجهة "اسرائيل"، وانصراف سورية عن السباق لاحراز "توازن استراتيجي" مع انهيار الاتحاد السوفياتي، والقضاء على عراق صدام حسين كقوة عسكرية اسهم كله في هذا المسار. في الوقت نفسه زاد وزن نوعين آخرين من التهديد – إرهاب المنتحرين والسلاح المنحني المسار. صيغ هذان التهديدان كوسيلة للامتناع عن مواجهة الجيش "الاسرائيلي" وجهاً لوجه، ليكونا بمنزلية "سلاح الضعيف"، وكطريقة لاستنزاف الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية. تحتاج الطبيعة المختلفة للعمليات الانتحارية واطلاق النار المنحني المسار الى فحص من جديد والى زيادة ابعاد جديدة على المفاهيم الأساسية التي قام عليها الرد العسكري "الاسرائيلي". مثلاً في اثناء الانتفاضة الثانية اثير بكامل قوته سؤال كيف نردع مخربا منتحرا يخرج لعملية من أجل الموت؟ بالنسبة لجوانب الانذار كان التحدي لا يقل عن ذلك تعقيداً. ففي الماضي قام الانذار الاستخباري بالحرب على تحليل رتابة نشاط الجيش العدو وتقديم اشارات تشهد باستعداده للحرب.
ولما كانت الاستخبارات في الاكثر قد تناولت أطر قتال كبيرة فان تحدي الانذار موجود في تفسير نيات العدو وأقل من ذلك في تحديد الاشارات للحرب. بخلاف الانذار بحرب قريبة، تتم العمليات الانتحارية على يد أطر صغيرة ذات مستوى خفاء أعلى ومدد أقصر. وعلى نحو شبيه أصبحت قضية الحسم مشكلة فيما يتعلق بمواجهة تهديد العمليات الانتحارية وبخاصة على خلفية حقيقة ان مفاهيم الزمن (المواجهة المستمرة)، والمجال (الجبهة الامامية والجبهة الخلفية المدنية) والعدو (منظمات داخل الدول) قد تغيرت. مع ذلك، يبدو في قضية مواجهة ارهاب المنتحرين ان اسرائيل وجدت في السنين الاخيرة صيغة ناجحة نسبيا تؤلف بين المعلومات الاستخبارية الدقيقة، ونشاط احباط في ميدان العدو وعائق مادي. في الآن نفسه، يبدو أن الطريق ما يزال طويلا لمواجهة تهديد اطلاق النار المنحني المسار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية. تريد هذه المقالة ان تسهم في صوغ الرد على هذا التهديد بتوسيع نقاش مبدأ الانذار في التصور الامني الوطني ازاء هذا التحدي والفحص عن الأبعاد الاخرى سوى الانذار والتي تحتاجها الاستخبارات في مواجهة تحديد الاطلاق المنحني المسار.
استعمال العدو لسلاح منحني المسار – مبادىء مركزية
لفهم عمل الإستخبارات في مواجهة تهديد الاطلاق المنحني المسار ينبغي أن نفهم أولاً كيف يستعمل هذا السلاح وبحسب أي مبادىء. على نحو عام، وكما يمكن أن نتعلم من حرب لبنان الثانية ومن عملية "الرصاص المصبوب" في مواجهة حماس في غزة، يمكن أن نقول أنه يقوم في قلب تصور استعمال السلاح المنحني المسار فكرة احداث تهديد ناري مهم للجبهة الاسرائيلية الداخلية وصد/ تعويق مناورة الجيش "الاسرائيلي" في موازاة ذلك.
يحرز هذا الشيء بعدد من المبادىء:
1. تحديد الجبهة المدنية الداخلية كهدف مركزي: الهدف من وجود السلاح المنحني المسار هو المس بالجبهة الاسرائيلية الداخلية المدنية. لهذا التحديد العام معان عملية كثيرة مثل تفضيل الكمية على النوعية، أي التزود بصواريخ كثيرة قدر الاستطاعة برغم كونها سلاحا احصائيا اصابته غير دقيقة، على حساب بناء نظم دقيقة لكنها أثقل مثل صواريخ أرض – أرض. تتصل معان أخرى تنبع من تحديد الجبهة المدنية الداخلية على أنها الهدف المركزي باختيار أهداف الاطلاق – أهداف مدنية ومناطق بلدية، واختيار الرؤوس المتفجرة التي تزود الصواريخ بها.
2. نشر واسع: إن "حزب الله" في لبنان وحماس في القطاع ايضا أرادا زيادة بقاء قواعد الاطلاق بنشرها في مساحة جغرافية واسعة. فمثلا زمن عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة اطلقت صواريخ من شمال القطاع، ومن مدينة غزة ومن جنوبي القطاع ايضا. وفي لبنان الذي مساحته اكبر بعشرات الاضعاف، نشر حزب الله في اثناء حرب لبنان الثانية صواريخ وبخاصة جنوبي نهر الليطاني لكنه فعل ذلك شماليه ايضا. وفوق ذلك، كما يمكن ان نتعلم من مهاجمة سلاح الجو لقواعد اطلاق الزلزال، نشرت صواريخ بعيدة المدى في منطقة بيروت ايضا. يضطر النشر الواسع الجيش الاسرائيلي الى نشر وسائل تجميع معلومات استخبارية وتحديد المواقع التي يملكها، ويقلل بذلك احتمال الكشف عن مواقع قواعد الاطلاق ويزيد قدرتها على البقاء بذلك.
3. اقلال الانكشاف المادي: ثم مبدأ عمل مهيمن آخر هو الاقلال من الانكشاف المادي لقواعد الاطلاق. يرمي هذا المبدأ الى جعل الكشف عنها صعبا، ويحرز بتغطية قواعد الاطلاق وأعمال الاطلاق على نحوين مركزيين: أحدهما اجراء اكثر النشاط المتعلق بالاطلاق داخل البيئة المدنية او بقربها. في هذا الجانب مثلا، يبرز على نحو خاص استعمال حماس للمساجد كمستودعات للصواريخ ولوسائل قتالية اخرى. والطريقة الثانية لاخفاء النظام المنحني المسار تغطية أنابيب الاطلاق داخل حراج طبيعي، وملاجىء صغيرة في المناطق المفتوحة أو في ظاهر المنطقة الآهلة، وفي حالة قواعد الاطلاق المتحركة، أي كتلك التي تركب على سيارات – تخزينها داخل بيوت نشطاء. احدى النتائج المركزية لهذا المبدأ هي زمن "عيش هدف" قصير أي أن نافذة الوقت التي يمكن فيها مهاجمة قاعدة الاطلاق قصيرة تنحصر أحياناً في لحظات معدودة. تبدأ نافذة الوقت هذه عندما تكشف قاعدة الإطلاق (ازالة تنكيرها أو إخراجها من المخبأ)، وتستمر زمن الاطلاق – عدة ثوان يشتعل الصاروخ في اثنائها وهو شيء يمكن من تحديد موقعه بوسائل تحديد الكترونية، وينتهي مع اخفائه قاعدة الاطلاق من جديد او نقلها السريع الى مكان مخبأ.
4. عدد كبير من قواعد الإطلاق (الاقلال من الوزن النوعي للقاعدة الواحدة): نتيجة الفهم العام لقدرات سلاح الجو استنتجوا في حزب الله وفي حماس ايضا انه من اجل انتاج نار منحنية المسار زمنا طويلا ينبغي التزود بعدد كبير من أنابيب الاطلاق. ان العدد الكبير لقواعد الاطلاق يجعل وزن قاعدة الاطلاق المفردة مهملا بالنسبة لنشاط سائر نظام النار. على هذه الطريقة لا يؤثر القضاء على عدد من أنابيب الاطلاق قليل في ايقاع انتاج النار. مثلاً في حرب لبنان الثانية أباد سلاح الجو الاسرائيلي 93 قاعدة اطلاق صواريخ – 50 منها بطلعات مدبرة في أول ايام الحرب. وأبادت طائرات ظلت في الجو و "صادت" قواعد اطلاق 33 قاعدة اطلاق بسيطة. ومع ذلك كله، حافظ حزب الله في اثناء ايام القتال كلها على ايقاع اطلاق بمعدل نحو من 130 صاروخ كل يوم بل انه اطلق في آخر يوم 253 صاروخا.
5. نظام دفاعي أرضي معزز: لا يقف نظام النار المنحني المسار بذاته بل يصحبه نظام دفاع أرضي. يكمل هذا النظام تصور الاستعمال المنحني المسار ويمكن أن نقول في واقع الأمر أن وجوده حاسم بقدر كبير بالنسبة لقدرة العدو على أحداث تهديد ناري ذي شأن لزمن طويل على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية. لان هدف النظام الارضي هو صد أو تعويق قوات الجيش الاسرائيلي و "استفادة وقت" في واقع الامر من اجل نظام النار المنحني المسار. إن "حزب الله" وحماس ايضا انشآ الى جنب نظام النار نظاما دفاعيا ثابتا اعتمد على مواقع مضادة للدبابات وعلى ملاجىء وحقول ألغام معدة سلفا، هدفها كله احداث خسائر وتعويق المناورة.
الإستخبارات وتحديات الإطلاق المنحني المسار
تحدي الردع
خصص تصور الأمن القومي للاستخبارات دوراً مركزياً هو الانذار بالحرب. ان حقيقة ان جزءاً كبيراً من قوة اسرائيل العسكرية في الحياة العادية غير مجند وغير مستعد للقتال، وحقيقة أن "اسرائيل" لا تملك في واقع الامر عمقا استراتيجيا تجعلان الاستخبارات وقدرتها على الانذار "شريطا دفاعيا اول". وقد أصبح الانذار بالحرب المهمة التقليدية للاستخبارات، عندما يكون الحديث عن أطر قتال كبيرة مؤسسية مثل جيوش نظامية لا يكون الانذار بالحرب اجراء مفاجئا. فهو في الاكثر يبنى على مراحل وقد يبدأ بتقويم دوري، ثم بانذار أولي باجراءات حشد قوات وباستعداد وبتجهيزات واشارات شاهدة أخرى، وينتهي إلى تقديم تقدير تلخيصي تقرر الإستخبارات فيه أن دولة أو جماعة من الدول تنوي أن تهاجم في مكان وموعد وطريقة محددة. بعبارة أخرى، تقديرات حرب دولة مسيرة متصلة تنشىء على طول الطريق اشارات شاهدة.
يمكن تقسيم الإنذار إلى نوعين رئيسين:
- الأول: الإنذار بنية استراتيجية لاستعمال سلاح لاحراز اهداف سياسية أو غيرها.
- الثاني: الانذار بتقديرات محددة للحرب.
فيما يتصل باستعداد جيش للحرب لا يقوم نظام النار من تلقاء ذاته، وعلى ذلك فان التحدي الاستخباري في هذا السياق يكمن في الاساس في القدرة على تحديد تغيرات النشاط المعتاد في نظم النار المنحنية المسار وادماجها في نطاق الصورة العامة لتقديرات العدو للحرب. بين لاعبات من الدول تملك نظما نارية منحنية المسار كبيرة مؤسسة تكون المهمة بسيطة نسبيا وتنفذ في نطاق المتابعة الجارية للنشاط العسكري، وكجزء من محاولات ملاحظة اشارات شاهدة. وعند لاعبات ليست من الدول مثل حماس وحزب الله تكون قضية الاشارات الشاهدة مشكلة. في المستوى الاستراتيجي، تتخذ في الاكثر القرارات في دائرة مغلقة ضيقة جدا من النشطاء.
وفي مستوى العمليات ليس الحديث عن جيوش بل عن أطر قتال اصغر جزء ملحوظ من قواعدها العملياتية منتشر في الميدان اصلا، وعلى ذلك فان انكشافها لاجهزة الاستخبار ضئيل. في هذه الحالات خاصة، متابعة نظام النار المنحني المسار قد يسهم اسهاماً كبيراً في فهم نيات العدو في المستوى الاستراتيجي ولا سيما في مستوى العمليات، لان كمية الاشارات الشاهدة التي ينشئوها هذا النظام كبيرة نسبيا. القاعدة اللوجستية والقوة البشرية الملطلوبة لاستعمال نظام النار المنحني المسار، الى جنب الاستعدادات التقنية في نطاق رفع الاهلية للمواجهة، كلها يضمن أن تنجم الاشارات الشاهدة على الحرب وتحدد. متابعة هذه النظم من هذه الجهة، في المنظمات داخل الدولة ليست مهمة في ذاتها فقط من اجل فهم التهديد بل قد تسهم ايضا في فهم الصورة العامة التي تتصل بنيات العدو.
الى جنب البعد التقليدي للانذار بالحرب يعرض التهديد المنحني المسار بعداً جديداً للعمل الإستخباري وهو الإنذار في خلال الحرب. هنا ينحصر الانذار بالاشارة الى نيات العدو ان يبدأ استعمال انواع سلاح لم يستعملها الى ذلك الحين، مثل نية اطلاق قذائف صاروخية مزودة بمواد كيماوية او نية اطلاق النار على مناطق في دولة اسرائيل لم تكن واقعة حتى ذلك الحين تحت النار. يعتمد هذا النوع من الانذار على افتراض ان العدو سيستعمل قدراته النارية استعمالاً تدريجياً، وعلى ذلك يجب على الاستثمارات ان تزود بانذار وفي الوقت من اجل تمكين قيادة الجبهة الداخلية والمواطنين انفسهم من الاستعداد للتهديد المتوقع. معاني مبنى القوة الاستخبارية في هذا السياق كثيرة ويقوم في مركزها الحاجة الى تعميق التغلغل الاستخباري في مستوى اتخاذ القرارات في المنظمات والدول ذات الصلة، والاهتمام بأن تتدفق هذه المعلومات تدفقا متصلا في اثناء الحرب ايضا. كل ذلك بطبيعة الأمر مع فرض أن قرارات حاسمة قد تصل باطلاق النار المنحني المسار ستتخذ في هذه المستويات لا على يد المستويات الميدانية على نحو غير مراقب.
تحدي الحسم
في كل ما يتعلق إذن بالانذار بالحرب ليس التناول الاستخباري للسلاح المنحني المسار مستقلا وهو يشكل جزءا من جملة مجالات اوسع يفترض ان تثمر المتابعة الاستخبارية لها اخر الامر انذارا. في مقابلة ذلك وفيما يتعلق بمبدأ الحسم يلعب العلاج الاستخباري للتحدي المنحني المسار دوراً أهم واكثر مركزية. إن قضية الحسم هي قضية مركبة تتجاوز المجال الضيق لمواجهة عدو يستعمل سلاحا منحني المسار وهي لذلك تستحق نقاشا مستقلا يتجاوز مجال هذه المقالة. مع ذلك يمكن أن نقول على نحو عام أن الحسم في التصور الامني "الاسرائيلي" هو بقدر كبير مفهوم مرادف لاحلال "هزائم شديدة بالعربي" كما عرف ذلك اسرائيل تال.
طرائق احراز تلك "الهزيمة الشديدة"، بحسب رأي تال، تشتمل على القضاء على قوة العدو العسكرية كقوة قتال نظامية، وبقدر أقل على إحتلال أرضه والسيطرة على مناطق نشر قواته ومناورته، والمس بحلفاء العدو، والقضاء على بنيته التحتية الاقتصادية وتهديد عاصمته. صيغت هذه المبادىء في الخمسينيات وترمي إلى مواجهة عدوات من الدول تملك كنوزاً من المناطق وتدافع عنها بجيوش نظامية. إن تطبيق هذه المبادىء للانتصار على منظمات داخل الدول كحزب الله وحماس يتطلب بيانا وتنسيقا قد لا يكون هنا مكان تفصيلها. في الآن نفسه، من الواضح أنه في كل مواجهة في المستقبل مع منظمات داخل الدول ترى اطلاق النار المنحني المسار استراتيجية قتال رئيسة في مواجهة اسرائيل ستكون قضية مواجهة اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية قضية حاسمة.
ومن لواحق ذلك أن هزم العدو سيقاس بقدر كبير بثلاثة مقاييس مركزية:
- الأول: وقف/مضاءلة إطلاق النار على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية.
- الثاني: المس بذخائر استراتيجية للعدو والثالث قدرة الجبهة الاسرائيلية الداخلية على الصمود.
- وفيما يتصل بهذه الاخيرة، تتعلق قدرة الجمهور الاسرائيلي على الصمود بعوامل كثيرة يبدو ان الاستخبارات تلعب فيها جزءا مهما وان يكن ثانويا قياسا بعناصر أخرى.
عمل الاستخبارات في هذا السياق يتلخص في الاساس بالاشارة الى جملة التهديدات الممكنة قبل الحرب (من اجل بناء قوة قيادة الجبهة الداخلية ومضاءلة بعد عدم اليقين عند الجمهور)، وزمن القتال – الاشارة الى تههديدات في طور التشكل، مثل نية استعمال سلاح غيرتقليدي، وبطبيعة الامر المشاركة في تقديرات وضع تتعلق بالحياة المعتادة في الجبهة الداخلية.
وفي المقياسين الأولين – وقف/ مضاءلة اطلاق النار والمس بذخائر استراتيجية للعدو، يوجد للاستخبارات دور اكثر مركزيا وهذا ما سنتناوله بعد في المقالة.
وقف/ مضاءلة إطلاق النار على الجبهة "الاسرائيلية" الداخلية
تتعلق القدرة على مضاءلة اطلاق النار كثيراً على الجبهة الاسرائيلية الداخلية بفهم تصور استعمال هذه النظم عند حماس وحزب الله وسورية. يقوم هذا التصور كما قيل آنفا على عدد من المبادىء؛ المركزي منها: انتشار واسع، وانكشاف مادي ضئيل، وعدد كبير من قواعد الاطلاق. ان وجود حلول لمشكلات العمليات التي يقيمها كل واحد من هذه المبادىء سيفضي آخر الامر الى مواجهة ناجحة للتحدي المنحني المسار. يكمن جزء كبير من الحلول كاملا او جزئيا في الحقل الاستخباري.
المشكلة: انتشار واسع وانكشاف مادي ضئيل؛ الرد: المفاضلة بين مناطق العناية وحصر التجميع
إن اثنين من المبادىء المهمة التي تستعمل حماس وحزب الله وسورية كما يبدو ايضا بحسبها نظم النار المنحنية المسار عندها هما نشر قواعد الاطلاق في مساحة جغرافية واسعة ومضاءلة انكشافها المادي.
كل ذلك من اجل تصعيد تحديد موقعها وزيادة قدرتها على البقاء. في هذا السياق يوجد دور مهم للاستخبارات في مركزه تحديد جداول افضلية العلاج، ومع اشتراك الجهة العملياتية – تحديد نوع العلاج العملياتي الذي تعطاه كل منطقة. النشر الواسع، ولا سيما عندما يكون الحديث عن مساحات واسعة كما في سورية ولبنان، لا يمكن اصلا من تخصيص نفس الموارد العملياتية والإستخبارية لكل موقع (بلدة أو منطقة مفتوحة) قد توجد فيه قاعدة اطلاق صواريخ. في الوقت نفسه، يقتضي الإنكشاف الضئيل لقاعدة اطلاق صواريخ ردا سريعا من الفور مع تحديد موقعها.
برغم كل ذلك، وبطبيعة الامر، لا تنشر أنابيب الاطلاق على نحو متساو في ساحة المعركة كلها، والنار التي تنتج من كل منطقة جغرافية غير متساوية في كميتها أو في نوع الأهداف المخصصة لها. مثلا بحسب تحليل آفي روبن، أطلق حزب الله في حرب لبنان الثانية صواريخ من عدة مناطق رئيسة.
مثلا اطلق من ضواحي سور نار على بلدات في غربي اسرائيل – السهل الساحلي الشمالي ولا سيما حيفا، اما من جنوبي البقاء اللبناني فاطلقت نار على هضبة الجولان. وفي عملية "الرصاص المصبوب" اطلقت قذائف صاروخية على اسدود ولا سيما من شمالي القطاع. ينبغي استغلال هذا الوضع لتحديد سلم افضليات جغرافي للعلاج ولاعداد رد استخباري وعملياتي خاص بكل منطقة.
يجب على الاستخبارات في المرحلة الاولى الاشارة الى المناطق الجغرافية التي يتوقع ان تنتج اكثر النيران الموجهة الى الجبهة الاسرائيلية الداخلية او انتاج نيران (وان تكن ضئيلة) موجهة الى التجمعات السكنية الرئيسة مثل غوش دان والى اهداف استراتيجية من البنى التحتية. يمكن أن تتم هذه المفاضلة مع النظر في معطيات مثل الارض، والسكان وانتشار العدو ونوع الصواريخ المنشورة في المنطقة وقدرة الاستخبارات على احداث اهداف في المنطقة نفسها. ينبغي في المرحلة الثانية أن يعد لكل منطقة رد استخباري وعملياتي يناسبها.
وبهذه الطريقة نحصر آخر الامر على خطة عمليات واسعة مركبة من خطط فرعية على شكل فسيفساء استخبارية عملياتية، تقدم افضل رد على تهديدات محددة في كل منطقة جغرافية. وذلك بدل خطة واحدة كبيرة ثقيلة تريد فرض رد واحد على ميدان القتال كله. كان الأخذ بهذه الطريقة في مواجهات سابقة يفضي مثلاً إلى تخصيص موارد تجميع وقوات جوية أو برية أكبر لمنطقة سور أو شمالي القطاع مع نشوب المعركة من الفور، بغير حاجة إلى انتظار تجميع معطيات عن اطلاق النار (بعد عدة أيام أو أسابيع من اطلاق النار).
مع عدم وجود معلومات استخبارية وقدرة على انتاج اهداف في هذه المناطق كان يمكن مخطط العمليات ان يصوغ ردا ارضيا ملائما لخلايا الارض هذه قبل بدء القتال، وان يمكن من توجيه جهود تجميع المعلومات الاستخبارية والجهود الجوية الى مناطق اخرى القدرة فيها على انشاء الاهداف اكبر.
في هذا الجانب، قد يساعد العمل الاستخباري وتحليل انتشار قواعد اطلاق الصواريخ على المناوبة بين الجهود الجوية وتجميع المعلومات الاستخبارية وبين الاجراءات الارضية – منع تركيز جهد تجميعي في الاماكن التي تنخفض فيها القدرة على انشاء اهداف، وتخصيص قوات برية لهذه المناطق سلفا في مرحلة التخطيط. يصبح هذا المعطى حاسما على نحو اكبر اذا اخذنا في حسابنا زيادة قوة حزب الله وسوريا وامكان ان تنشأ نار كثيفة في الحروب المقبلة مع هذه الجهات لصواريخ بعيدة المدى من مناطق داخل سورية ولبنان.
من جهة استخبارية وعملياتية لا يحل ان تقف المفاضلة بين مناطق العلاج مع بدء الحرب. بل يجب ان تكون دينامية وان تعتمد على تحليل معطيات النار، ووضع قواتنا، وقد تعتمد ايضا على وضع السكان المدنيين في مناطق / مدن محددة في البلاد. مثلا يمكن ان توجب اصابات شديدة متكررة لمنطقة بلدية ما، على الجيش الاسرائيلي كجزء من المساعدة في صمود الجبهة الداخلية، ان يصوغ ردا عملياتيا سريعا لعلاج المنطقة التي تطلق منها النار، حتى لو لم تكن هذه المنطقة مشمولة في نظم التفضيل الاولى للعلاج.
المشكلة: عدد كبير من قواعد الاطلاق؛ الرد: تخطيط عملياتي ذو تأثير اصابة واسعة
المبدأ الثالث الذي تستعمل بحسبه حماس وحزب الله وسورية ايضا كما يبدو، نظم النار المنحنية المسار عندها هو نشر عدد كبير من قواعد الاطلاق. وذلك كما قلنا آنفا لمضاءلة الوزن النوعي لكل قاعدة، ولمنع وضع يؤثر فيه اصابة عدد من قواعد الاطلاق المتفرقة في ايقاع انتاج النار الموجهة الى اسرائيل. في مواجهة "تحدي الكمية" يوجد للاستخبارات دور مزدوج: في مرحلة التخطيط وفي مرحلة التنفيذ.
على خلفية ادراك ان الكمية الكبيرة لانابيب الاطلاق لا تمكن من القضاء على كل واحد منها ماديا، يجب على الاستخبارات ان تشير في مرحلة صياغة خطة العمليات الى نقط ضعف تخرج اصابتها من نطاق العمل اطر اطلاق كبيرة قدر المستطاع. مثلا مع افتراض ان استعمال عدد كبير من قواعد الاطلاق على نحو منظم ولزمن طويل يقتضي نوعا ما من القيادة والسيطرة المركزيتين: القيادات المحلية والبنى التحتية الاقتصادية وما أشبه، يجب على الاستخبارات في مرحلة التخطيط أن تحدد وان تشير الى هذه العناصر (في جوانب التحليل وفي جوانب الاهداف). في حرب لبنان الثانية، كما يبين آفي روبن، قلل حزب الله وزاد ايقاع النار على الجبهة الداخلية الاسرائيلية بحسب ارادته. يقتضي هذا الامر مبنى منظما ما من القيادة والسيطرة.
والى ذلك، وكما يبين اسحق بن اسرائيل، حزب الله من جهة هو منظمة ذات عناصر عصابة (ولا سيما في جوانب النشاط السري والقدرة على البقاء)، والحديث من جهة ثانية في زعمه عن "منظمة عسكرية تقليدية مع مواقع قيادة وسيطرة، ونظم اتصال متقدمة ومخازن وسائل قتالية ... وبنية تحتية ثابتة، ووحدات اقليمية لمحاربين مدربين جيدا".
خلص الى استنتاج مشابه ايضا بيدل وفريدمن اللذان حللا قتال حزب الله في صيف 2006، وبينا ان المنظمة سلكت في اثناء مواجهة الجيش الاسرائيلي كمنظمة عسكرية اكثر تنظيما من منظمة عصابات مقطعة الاوصال.
من المحقق ان هذا المبدأ قابل للتطبيق ايضا على سورية التي من المحتمل فيها ان استعمال نظم النيران سيتم بحسب مبنى تراتبي وقيادي منظم ينبع من حقيقة ان هذه النظم جزء من الجيش النظامي. ازاء مسارات المأسسة التي تجري على قوة حماس العسكرية يحتمل في المستقبل ايضا ان تصبح نظم النيران في هذه المنظمة ذات قيادة وسيطرة منظمتين على مستوى ما.
وعلى حسب ذلك عمل الاستخبارات ازاء كل واحدة من هذه الجهات لا يمكن ان يتلخص في الاشارة الى نوع التهديد ونشره ونيات العدو، بل يجب على افراد الاستخبارات ان يشيروا في مرحلة التخطيط الى تلك العناصر التنظيمية التي يساعد المس بها على اخراج اجزاء واسعة قدر المستطاع من نظم النيران المنحنية المسار من جملة النشاط.
يتصل بعد آخر يتعلق بمواجهة الكمية الكبيرة من انابيب الاطلاق بقدرة الاستخبارات على انشاء اهداف للهجوم. في الجيوش العصرية التي فيها قوة النيران هي عنصر مهيمن يحتل مجال انشاء الاستخبارات للاهداف مكانا مركزيا. في واقع الامر بغير معلومات استخبارية عن اهداف نوعية لا يمكن استعمال ناجع لوسائل النيران.
في هذا الجانب تنقل الاستخبارات معلومات مفصلة عن مواضع الاهداف في الوقت المناسب ولا يقل عن ذلك اهمية أنها تساعد في تحديد جدول افضليات للقضاء عليها، بحسب درجة الخطر في كل هدف وقرب متناول وسيلة الهجوم. تصبح هذه المهمة الاستخبارية حاسمة في مواجهة نظم نيران منحنية المسار تعتمد على عدد كبير من قواعد الاطلاق. تقتضي كمية الاهداف الكبيرة من الاستخبارات لا اعدادا مسبقا أفضل وبناء اهداف للهجوم قبل المعركة فقط، بل وفي الاساس تطوير قدرة على اعطاء معلومات عن اهداف في الوقت المناسب.
الثبات الناجح لهذه المهمة مشروط أصلا بتطوير رد يعتمد على التأليف بين المعلومات الاستخبارية (نوع وسائل القتال التي يملكها العدو وطريقة استعمالها في المستوى التكتيكي والتقني – التكتيكي) وبين قدرات تكنولوجية متقدمة (تحديد المواقع والهجوم). ان حصر العناية في جانب واحد من جوانب المعادلة – المعلومات الاستخبارية او القدرة التقنية – سيعطي حلا عملياتيا جزئيا فقط.
المس بكنوز استراتيجية بالعدو – العلاقة بين الحسم والردع
فوق المس بقدرة العدو العسكري – في حالتنا القضاء على عدد كبير من قواعد الاطلاق وعناصر تنظيمية اخرى تؤثر في الاطلاق، سيحرز الحسم، او هزيمة كاسحة ايضا بواسطة المس بكنوزه الاستراتيجية. فيما يتعلق بدولة معادية مصطلح "كنز استراتيجي" واضح على قدر كاف ويشتمل بالجملة ما يشتمل عليه على مناطق حيوية (من الجانب الامني)، الى جنب مؤسسات الحكم نفسها، والبنى التحتية الوطنية الحيوية، ومنشآت اقتصادية مركزية وما اشبه.
يسأل سؤال ما هو الكنز الاستراتيجي لمنظمات داخل دول مثل حماس وحزب الله؟ الحديث في ظاهر الامر عن منظمتين لا تشغل عندهما الارض دورا مركزيا. ليست هاتان المنظمتان دولتين، ولذلك ليست لهما بنى تحتية وطنية او مؤسسات حكم. مع ذلك عندما نفحص عن حماس وحزب الله نجد ايضا انه توجد لهما كنوز يمكن أن تعرف على أنها استراتيجية. من جهة المناطق، يوجد مركز ثقل المنظمتين في تلك المناطق التي يوجد فيها سكان شجعونهما ومنهم وبمساعدتهم تعملان. في حالة حماس من المحتمل أنه يمكن تعريف احياء ومخيمات لاجئين ما في القطاع على أنها ملجؤها المناطقي.
وفي حالة حزب الله ، يستعمل جنوب لبنان، ومركز البقاع وشماليه (المنطقة بين بعلبك والهرمل) والاحياء الجنوبية من بيروت، على نحو تقليدي مواقع مناطقه الطبيعية. ان المس بهذه المناطق واحتلالها احتلالا تاما او جزئيا قد يسبب في نظر المنظمة تأثير ضرر استراتيجي.
ينبغي أن نضيف الى البعد المناطقي البعد التنظيمي – المؤسسي. إن حماس و"حزب الله" أيضاً منظمتان نشأتا من السكان، ولهما بهم علاقات متبادلة وثيقة بواسطة نظام مؤسسات تقدم خدمات دولة ("دعوة").
في هذا السياق اعظم حزب الله الفعل عندما انشأ في واقع الامر ما يشبه حكومة ("المجلس التنفيذي") المسؤول عن تقديم خدمات مختلفة كالتربية والصحة، وخدمات البناء والمساعدة الاجتماعية، والثقافة والدين للطائفة الشيعية. يعتمد هذا النظام على بنية تحتية بشرية مناسبة – وظائف بيروقراطية وبنية تحتية مادية – مكاتب ومخازن ومبان مختلفة وما أشبه ذلك. هذه البنى التحتية مثال لكنز استراتيجي للمنظمة.
وعلى القدر نفسه، قد يكون الكنز الاستراتيجي نشيطا ما يعرف مثلا على أنه الزعيم في المستقبل او طائفة من الكنوز الاقتصادية التي تمد كبار مسؤولي المنظمة. ان المس بكنوز من هذا النوع في الحقيقة لن يؤثر مباشرة في اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية في اثناء القتال، لكن من المحتمل أن يسهم باحداث شعور بـ "الهزيمة الكاسحة" عند هذه المنظمات وفي سلوكها.
ينبغي أن نذكر في هذا السياق انه من جهة تصور الامن الاسرائيلي يفترض أن يبني احراز حسم او "هزيمة كاسحة" في أمد بعيد الردع الاسرائيلي. وعلى ذلك فان محاربة منظمة تستعمل سلاحا منحني المسار لا يحل ان تتلخص في مواجهة اطلاق النار فحسب، بل يحسن ان تنظر قدما وان ترى المواجهة جزءا من مسيرة متصلة تدرك حماس وحزب الله او أي جهة اخرى في نهايتها ان اطلاق النار على الجبهة الاسرائيلية الداخلية ضرره اكبر من فائدته.
للاستخبارات في هذه الجوانب دور حاسم في مركزه الاشارة الى تلك الكنوز التي يسهم المس بها في مسيرة انشاء "كتلة حرجة" من هذه الكنوز، وتجميع معلومات عنها واعدادها لتكون اهدافا للهجوم.
الخلاصة
ان تهديد السلاح المنحني المسار يعرض التصور الامني الاسرائيلي لتحديات كثيرة، ويجب ارغام المسؤولين عنه ان يفكروا تفكيرا مجددا في المبادىء التي يقوم عليها وهي الردع والانذار والحسم. مثل المستوى المبدئي للتصور الأمني يحتاج الى ملاءمات في مجال الاستخبارات ايضا بل ربما اكثر من ذلك لنواجه بنجاح التحديات التي يقيمها تهديد النيران المنحنية المسار للجبهة الاسرائيلية الداخلية.
خلافا للدور الذي خصصه تصور الامن القومي للاستخبارات وهو الانذار بالحرب، لم تضيق الاستخبارات نفسها عملها في هذا المجال فقط. كان اناس الاستخبارات دائما مشاركين لا في تجميع المعلومات والتقدير فحسب بل في تقديم معلومات استخبارية لمختلف الاحتياجات العسكرية: بناء القوة، والتخطيط، والعمليات الخاصة، وتقديرات الانجاز وما شابه.
في الوقت نفسه يبدو أن تعقيد التحدي الذي يقيمه اطلاق النار المنحني المسار في حرب مستقبلة يدفع الاستخبارات ويلزم افرادها في الكشف عن مشاركة اكبر في مسارات تخطيط العمليات قبل المعركة، وفي تقديم معلومات استخبارية اكثف وافضل نوعية عن الاهداف وفي اجراء المعركة على نحو عام. يبدو في الوقت نفسه ان النجاح في مواجهة التهديد المنحني المسار لا يتعلق فقط ستخبارات وافرادها بل ايضا في فهم الجهات الاخرى في الجيش انه ينبغي التأليف بين الاستخبارات واستنتاجاتها البحثية والتجميعية على نحو عميق واسع للتخطيط والتنفيذ. ان فهما على هذا النحو قد يضمن ان تكون النتيجة في المواجهة المقبلة مع تحدي الاطلاق المنحني المسار افضل كثيرا مما كانت في المرات السابقة.
إعداد: أمير كوليك، باحث في معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني
(*) نقلا عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.