ارشيف من :ترجمات ودراسات

نتنياهو.. ضعف يغلفه تشدد

نتنياهو.. ضعف يغلفه تشدد
صالح النعامي 
تكرس مظاهر إدارة شؤون الدولة في إسرائيل انطباعاً مضللاً، فلأول وهلة يبدو التئام الحكومة والهيئات القيادية المتفرعة عنها بشكل دوري وغير دوري والجدل الصاخب الذي يرافق عملية صنع القرار في هذا الكيان، والرقابة التي تمارسها الكنيست، وكأنها ميزة تعكس العوائد الإيجابية للديمقراطية الإسرائيلية.  
لكن لا يمكن قياس سلامة الحكم في إسرائيل فقط بسلامة الإجراءات الديمقراطية التي تفرضها القوانين الأساسية، بل أيضاً وبقدر لا بأس به بطبيعة الاعتبارات والدوافع التي تحرك النخبة الحاكمة، والتي تتأثر في كثير من الأحيان بالسمات النفسية والقدرات القيادية لصناع القرار أنفسهم.  
ويعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو مثالاً كلاسيكياً للقائد الذي تتأثر قرارته بعدد من السمات النفسية الإشكالية وبمظاهر عجز قيادي في مستواه الشخصي، وهو ما ينعكس بوضوح على صورة تعاطي إسرائيل في عهده مع الكثير من الملفات سواءً تلك المتعلقة بالوضع الداخلي أو بالصراع مع العالم العربي وعلاقات إسرائيل الدولية.  
وتكمن أهمية طرح هذه القضية في أنها تشكل أساساً لتوقع السلوك الإسرائيلي الرسمي في عهد نتنياهو، بحيث لا تبقى بلورة هذه التوقعات محكومة بالاعتبارات الموضوعية التي عادة ما يستند إليها لتفسير السلوك السياسي الإسرائيلي. 
القابلية للابتزاز
تدل شواهد لا حصر لها على أن ممثلي الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم الذي يقوده نتنياهو قد شخصوا لديه واحدة من أوضح نقاط الضعف في شخصيته، وهي القابلية الكبيرة للابتزاز، وأخذوا يدفعونه لسلسلة من القرارات التي لا خلاف بين كثير من الأوساط في إسرائيل، وضمنها أوساط يمينية على أنها تمس بمصالح إسرائيل الإستراتيجية، مستغلين في ذلك حرصه الشديد على عدم إغضابهم خشية تفكك الائتلاف الحاكم.  
فعندما أعد ديوان نتنياهو قائمة المواقع التي سيعلن عنها كجزء من الثراث اليهودي لم يتم إدراج الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال في البداية ضمن تلك القائمة، لكن عندما تم تسريب القائمة وعلم بها قادة المستوطنين طالبوه بضم الحرم والمسجد، فما كان منه إلا أن استجاب خشية أن ينسحب ممثلو المستوطنين من الحكومة أو أن يغضب صقور الليكود.  
وتتباهى مريام فايس ـ واحدة من زعماء المستوطنين في الضفة الغربية- بإنجاز المستوطنين هذا مشيرة إلى آلية استغلال ضعف شخصية نتنياهو وقابليته للابتزاز، فقالت في مقابلة مع إذاعة "القناة السابعة" الناطقة باسم المستوطنين "لقد عرفنا كلمة السر، هذا المخلوق غير قادر على اتخاذ أي قرار بدون ممارسة ضغط ما، ونحن قررنا ممارسة الضغط بما يخدم المشروع الاستيطاني في أرض إسرائيل". ويقر دان مريدور وزير الشؤون الاستخبارية في الحكومة أن نتنياهو لم يجرؤ حتى على مراجعة وزير الداخلية إيلي يشاي عندما قرر بدون الرجوع إليه بناء 1600 وحدة سكنية في حي "رمات شلومو" شرق القدس بعيد هبوط نائب الرئيس الأميركي جون بايدن في إسرائيل، وهو ما مثل إهانة كبيرة للإدارة الأميركية، لمجرد أن مثل هذه الخطوة تخدم مصالح حركة "شاس" التي يرأسها يشاي، حيث أن المستوطنين في هذا الحي هم من مصوتي "شاس" التقليديين.   
ويقر روني ميلو -وزير الأمن الداخلي الأسبق وأحد قادة حزب الليكود- أن نتنياهو لا تحركه في كثير من المواقف أيديولوجيته اليمينية، بل خوفه "المرضي" من تفكك الائتلاف. لكن ما تقدم يبدو مجرد مزحة مقابل مظاهر ضعف نتنياهو أمام وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، حيث يجد الأخير نفسه مفوضاً للقيام بكل ما يحلو له دون أن يضع في حسبانه أن هناك من يقف على رأس هرم المسؤولية في إسرائيل، بحيث ينجح ليبرمان في استفزاز العالم بأسره لمجرد رغبته في إضفاء صورة المتحدي لمنتقدي إسرائيل أمام الرأي العام الداخلي، وهو ما يعكسه خوف نتنياهو من مجرد توجيه نقد لداني أيالون نائب ليبرمان بعدما أهان السفير التركي على النحو المعروف.  
وهو ما دفع وزير الصناعة والتجارة في الحكومة العمالي بنيامين بن إليعازر للقول "نتنياهو يعي في قرارة نفسه حجم الضرر الهائل الذي سببه السلوك الأرعن لأيالون، وهو ما جعلنا نعتذر لتركيا، لكنه ببساطة يخاف إيفيت (يقصد ليبرمان) ويخشى أن يغادر حزبه الحكومة، هكذا لا يديرون دولة".  
وفي عددها الصادر بتاريخ 24/3/2010 يوجز ألوف بن المعلق في صحيفة "هآرتس" الضرر الهائل الذي يعود على إسرائيل جراء قابلية نتنياهو للابتزاز من شركائه الائتلافيين، حيث يقول "شركاء نتنياهو يعجبهم ضعفه ويمرطون ريشه، يستفز ليبرمان المجتمع الدولي، ويغضب إيلي يشاي باراك أوباما. كل واحد وتحرشه، ونتنياهو ينظف وراء الجميع، ويمسح البصاق عن وجهه ويتابع سيره. عندما يقف أمام الأقوياء يتكمش خائفا في الزاوية، لقد اختفت رسالته، وليس واضحا من يمثل ولا ما يمثل: التجميد أم البناء في المستوطنات؟ محاربة إيران أم التسليم بالقنبلة الإيرانية"، على حد تعبيره. 
كذاب بالفطرة
وأهم ما دفع شركاء نتنياهو لابتزازه والضغط عليه، هو فقدان النخب السياسية الثقة فيه، لميله الفطري للكذب لدرجة أنه بات أحد معالم شخصيته وبشكل يتجاوز المألوف عند الساسة في أي بلد. 
ففي يناير/كانون الثاني من العام 1997 وبعد مضي نصف عام على توليه رئاسة الوزراء لأول مرة استضافه الصحافي الإسرائيلي الشهير نسيم مشعال في برنامج "واحد على واحد" في قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى، وكانت الجملة الأولى التي وجهها مشعال لنتنياهو "سيدي لقد سألت 95 نائباً في الكنيست من أصل 120 عن أهم انطباع تولد لديهم عنك، فجميع هؤلاء أشاروا إلى ميلك الفطري للكذب، وأنهم لا يثقون بك".  
وما زال الإسرائيليون يذكرون المناظرة التلفزيونية التي جمعت نتنياهو بوزير دفاعه إسحاق مردخاي عشية انتخابات 1999، حيث أخذ نتنياهو يتصبب عرقاً بينما كان مردخاي يحصي أمثلة تعكس تضرر عمل الحكومة في ذلك الوقت بسبب ميل نتنياهو للكذب على كل من يتعامل معه.
وحتى رئيس الكنيست الحالي روفي ريفلين -القيادي في حزب الليكود وأحد مقربي نتنياهو- ضاق به ذرعاً مؤخراً، حيث أبلغ الإذاعة الإسرائيلية في 20/3/2010 أنه قال لنتنياهو "بأنه ذو ثلاثة وجوه، حيث أنه يقول للإسرائيليين والأميركيين والفلسطينيين كلاماً مختلفاً، وغير قادر ببساطة على قول الحقيقة". 
تهور وفشل
إن أهم قرارين اتخذهما نتنياهو في فترتي ولايته الأولى والثانية تعلقا بإصدار الأوامر لتصفية رئيس المكتب السياسي خالد مشعل في سبتمبر/أيلول 1997 والقيادي في الحركة محمود المبحوح في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، وهما قراران أدخلا إسرائيل في أزمتين دبلوماسيتين كبيرتين.  
ونظراً لأن إسرائيل اضطرت لإعلان مسؤوليتها عن محاولة اغتيال مشعل فإن التحقيقات التي أجرتها لجنة تحقيق خاصة في القضية وكشف النقاب عنها، أظهرت أن كل ما كان يسعى إليه نتنياهو من تنفيذ هذه العملية هو تحسين صورته داخل إسرائيل متجاهلاً أن محاولة الاغتيال تتم على أرض الأردن الذي اعتبرت اللجنة العلاقة معه ذخراً إستراتيجياً لإسرائيل.  
المهم أن فشل نتنياهو في مجال اتخاذ القرارات جعل الكثيرين يشككون في قدرته على اتخاذ القرارات الكفيلة بمواجهة ما تعتبره إسرائيل مخاطر وجودية. ويقول بن كاسبيت المعلق في صحيفة "معاريف" إن فشل محاولة اغتيال مشعل جعلت نتنياهو يتجنب اتخاذ أي قرار إستراتيجي حتى انتهاء ولايته الأولى، وهو يشكك أن يخاطر نتنياهو باتخاذ قرار بمهاجمة إيران بسبب خوفه من الفشل. 
سلطة سارة
لكن لا يمكن فهم السمات الشخصية لنتنياهو دون الإحاطة بحجم تأثير زوجته سارة عليه، ودورها الطاغي في تسيير شؤون الدولة، بشكل يذكر المرء بدور زوجات الرؤساء في النظم الشمولية. ولعل التحقيق الكبير الذي نشرته صحيفة "معاريف" في ملحقها الجمعة 19/3/2010،  والذي أكدت محتواه تقارير وشهادات كثيرة أخرى يدل على أنه في كثير من الأحيان فإن سارة وليس أحد غيرها يقرر الكثير من الخطوات على الصعيد السياسي العام والإداري الحكومي.  
وحسب التحقيق الذي يستند إلى شهادات عاملين في ديوان نتنياهو ومقربيه فإن قرارات تعيين كبار الموظفين في سلك الدولة تتم بعد حصول نتنياهو على إذن زوجته، علاوة على تدخلها في تحديد جدول أعمال الحكومة.  
ووفق التحقيق فإنه في إحدى المرات تمت صياغة خطة سياسية هامة بعد مداولات بالغة السرية على مدى ثلاثة أسابيع، لكن عندما غادر نتنياهو ديوانه ليتم الشروع في تنفيذ الخطة في الصباح الباكر، فوجئ الجميع بتخليه عن الخطة، وهو ما عزاه رؤساء ديوانه وعدد من الوزراء إلى دور سارة. ونظراً لأنه من المعروف أن سارة تتبنى مواقف يمينية متطرفة فإن تدخلها في السياسات العامة والقرارات الإدارية لا يلقى معارضة من الوزراء الكبار في الحكومة، ومعظمهم من الصقور.
بيغن جديد
من أسف أن نتنياهو الذي ينظر إليه على هذا النحو في إسرائيل نجح دون بذل أي جهد لكسب ثقة بعض قادة الأنظمة العربية. ففي مقابلة نشرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 1/3/2010 يروي السفير الإسرائيلي السابق في القاهرة شالوم كوهين أن الرئيس المصري حسني مبارك وطاقم مساعديه كانوا يثقون ثقة مطلقة في نتنياهو ونواياه، رغم أنهم يصرحون في العلن غير ذلك.
والمضحك المبكي أن بعض من يوصفون بـ"الليبراليون العرب" يسوغون التجاوب مع نتنياهو واستئناف المفاوضات حتى في ظل عدم تجميد بناء المستوطنات على اعتبار أن نتنياهو يمكن أن يفاجئ العالم مثلما فاجأ مناحيم بيغن في حينه ووافق على إخلاء المستوطنات في سيناء. 
وهذا مجرد وهم لاستحلال التفريط، فلا يمكن المقارنة بين السمات القيادية لبيغن ونتنياهو، فالأول وضع في بؤرة اهتمامه مصالح الكيان الصهيوني وتصرف تبعاً لذلك، أما الأخير فيضع في الاعتبار أولاً سلامة ائتلافه الحاكم. لهذا لن تتحقق أي تسوية في ظل حكم نتنياهو بغض النظر عن الاستعداد للتنازل الذي يمكن أن يكشف عنه الفلسطينيون والعرب. 
بوليصة تأمين
إن بوليصة التأمين الوحيدة التي تضمن لنتنياهو المناورة والبقاء رغم ضعف قدراته القيادية هو أن يقود هذا الكيان في ظل ليس فقط انسحاب النظام العربي الرسمي من دائرة الفعل في الصراع، بل وفي ظل تطوع بعض الأنظمة العربية لمكافأة نتنياهو. 
أليس صاعقاً أن تشهد فترة حكم نتنياهو الحالية تحديداً حدوث قفزات كبيرة على صعيد التعاون الأمني بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية كما كشف عن ذلك رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية عاموس يادلين مؤخراً في الكنيست، فالسلوك العربي الرسمي يثبت للرأي العام الإسرائيلي أن إدارة نتنياهو ناجحة رغم السمات الإشكالية في شخصيته وأدائه.  
ولا يمكن إغفال توظيف نتنياهو لمكونات البيئة الداخلية الأميركية لمحاصرة أي محاولة من قبل الإدارة للتشويش على حالة الانصياع التام التي يبديها نتنياهو لشركائه في الائتلاف بما يضمن بقاء الحكومة. 
قصارى القول إن التشدد الذي يبديه نتنياهو في المجال السياسي هو في الحقيقة غلاف لإخفاء مظاهر ضعفه على الصعيد الداخلي والتي يعززها افتقاده القدرات القيادية المطلوبة وسماته النفسية الإشكالية. 
إن الذي يضفي أهمية مضاعفة على دور الطابع الشخصي والنفسي في سلوك نتنياهو هو حقيقة أنه الأوفر حظاً للبقاء على رأس الحكم في إسرائيل مستقبلاً نظراً لانهيار اليسار وعدم توفر شخصية منافسة له في أوساط اليمين.
(*) نقلا عن موقع الجزيرة
2010-04-13