ارشيف من : 2005-2008
خلافاً لجميع العبادات:الصوم فريضة قوامها الامتناع عن الفعل
يخلو بعضها من الامتناع عن الفعل، كما في حالة الإحرام في الحج.
فالصوم هو امتناع عن الأكل والشرب، وامتناع عن الكذب (على الله ورسوله)، وامتناع عن الارتماس (غمس الرأس في الماء)، الى ما هنالك من أمور يجب على الصائم الامتناع عن فعلها، مع تفاوتها بين ما هو حلال بالأصل ويحرم على الصائم فعله (الأكل مثالاً)، وما هو محرم بالأصل ويبطل الصوم بفعله (شرب الخمر مثالاً). أما الحدُّ الآخر للصوم فهو قسمان: مكروه ومستحب، ويشترك المكروه مع الحدِّ الواجب في الامتناع عن الفعل، كالامتناع عن الكذب والحسد والظلم والغيبة وإنشاد الشعر. والقسم الآخر المستحب يشترك مع سائر العبادات في كونه فعلاً (الصلاة مثالاً)، لا امتناعاً عن الفعل، كتلاوة القرآن والصدقة وتفطير الصائم. وبذلك يكون الصوم هو الفريضة العبادية الوحيدة التي قوامها ـ في الحد الواجب الذي يتحقق به الصوم ـ (فضلاً عن المكروه) الامتناع عن الفعل (المحرم بالأصل أو المحرم بالصيام) حتى تصح من المكلف وتُقبل منه.
هذه الخاصية لفريضة الصوم تجعله فريضة مميزة عن سائر الفرائض العبادية، فهي (الخاصية) امتناع ـ في الحدَّين الواجب والمكروه ـ عمَّا تعوَّده المكلف (الحلال بالأصل والمحرم بالصيام) وألِفَهُ وصار جزءاً من نمط عيشه، فبهذا الامتناع يتحقق التنزه عن الشهوات النفسية على تعددها، ويجاهد الإنسان نفسه ويروِّضها ويجعلها تكابد العناء الشديد في سبيل طاعة الله عزَّ وجلَّ. وبذلك تكون فريضة الصوم من الفرائض التي لها تأثير كبير في سلوك الإنسان نحو طريقه العبادي الذي يوصله إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، فضلاً عن كونها مصداقاً بارزاً من مصاديق الجهاد الأكبر الذي أمر به نبي الرحمة محمد (ص)، وهو جهاد النفس.
هذا الشرح الآنف الذي يوضح أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي تختص في حدِّها الواجب بالامتناع عن الفعل، يقودنا الى رأي عرضه العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) في تفسيره المعروف بـ"الميزان"، في سياق تعليقه على الحديث القدسي الذي رواه الفريقان السنة والشيعة، وهو: "الصوم لي وأنا أجزي به" (بفتح الهمزة من الفعل جَزَى، أو بضمها من الفعل أَجْزَى)، فيقول: "الوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي (عدم الفعل)، وغيرُه (أي الصوم) ـ كالصلاة والحج وغيرهما ـ متألف من الإثبات (الفعل)، أو لا يخلو من الإثبات، والفعل الوجودي لا يتمحَّض (يَخلُصُ) في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه، لأنه لا يخلو عن شَوْب (اختلاط) النقص المادي وآفة المحدودية، وإثبات الإنية (من الأنا)، ويمكن أن يُجعل لغيره تعالى نصيبٌ فيه، كما في موارد الرِّياء والسُّمعة والسجود لغيره (لغير الله تعالى)، بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض، والتنزه بالكفِّ عن شهوات النفس، فإن النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه، لكونه أمراً بين العبد والرَّب، لا يَطَّلِعُ عليه بحسب الطبع غيره تعالى. وقوله "أنا أجزي به" إن كان بصيغة المعلوم كان دالاً على أنه لا يوسِّط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحداً، كما أن العبد يأتي (في حالة الصوم) بما ليس بينه وبين ربّه في الاطلاع عليه أحد، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى".
إن شرح العلامة الطباطبائي الفلسفي للحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به"، أفضى الى نتيجتين بحسب اللفظ اللغوي لكلمة "أجزي" (بصيغة المعلوم أو المجهول، لاختلاف الفعلين جَزَى وأَجْزَى في المعنى من ناحية، واشتراكهما في معانٍ أخرى من ناحية ثانية)، وهما إما الجزاء المباشر من الله تعالى لعبده على الصيام، وإما القرب منه تعالى، وحَسْبُ المؤمن إذا أخلص في صيامه أحدهما.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد 1181 ـ 23 أيلول/سبتمبر2006