ارشيف من : 2005-2008

كيف عمل فتفت لتقويض ثاني مؤسسة عسكرية؟ قصّة مخالفة فتفت نظام الأمن العام

كيف عمل فتفت لتقويض ثاني مؤسسة عسكرية؟ قصّة مخالفة فتفت نظام الأمن العام

المؤسّسات العسكرية في لبنان بعد الجيش، سواء بتعيينات غير منطقية أو بتحجيم دورها لمصلحة فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي ينسجم مع فريقه السياسي إلى درجة التوحّد، وهو قائم لخدمة هذا الفريق، تماماً كما يتجلّى بوضوح من تحرّكاته واستقصاءاته وتقاريره وتصويبه على الأطراف السياسية المعارضة".‏

بهذه العبارة تلخّص أوساط سياسية مطلّعة مآل الانقلاب الأمني الذي يسعى فتفت إلى تحقيقه ولو على حساب القانون والدستور. وهذه ليست المرّة الأولى التي يضرب فيها عضو كتلة "تيار المستقبل" فتفت بالقانون عُرض الحائط، إذ سبق له أن جهد من أجل "لفلفة" الفضيحة ناصعة البياض التي ارتكبها قائد القوّة الأمنية المشتركة في الجنوب سابقاً العميد عدنان داوود لكونه محسوباً على قوى 14 شباط/ فبراير، باستقباله قوّة صهيونية هاربة من مواجهة بضعة مقاومين في ثكنة مرجعيون وحمايتها داخلها، واستضافتها بالترحاب وتقديم الشاي لها، وتحميلها مخزون السلاح الذي كان قادراً ليس على قتل أفراد هذه القوّة فحسب، وإنّما من يجرؤ من قوّات إسرائيلية أخرى على التقدّم باتجاه هذه الثكنة. وبدلاً من إحالة داوود الى المحاكمة بتهمة الخيانة وتقديم العون لقوّات الاحتلال والاتصال بالعدوّ، بحسب النصوص الواضحة لقانون العقوبات اللبناني الذي يبدو أنّ فتفت لم يطلع عليه، أصدر فتفت قراراً بتوقيف داوود ثلاثة أيام فقط، وهي عقوبة مخفّفة جداً إزاء الفعل الشائن الذي اقترفه على مرأى من ضبّاطه وعناصره والشعب اللبناني، وأساء فيه إلى سمعة المؤسّسة العسكرية التي ينضوي تحت جناحها.‏

واتضح أنّ خلاف فتفت مع المدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني، برغم صلة النسب بينهما كما قال فتفت في غير مقابلة إعلامية ودعائية، ليست وليدة المصادفة، بل هي مخطّط لها منذ فترة غير وجيزة، من خلال محاولات استنساخ نظام أمني جديد لبناني ـ أميركي مشترك هذه المرّة، عماده فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي يراد له أن يختصر كلّ الأجهزة الأمنية الرسمية الأخرى الموجودة في الدولة، لكي يكون هو اللاعب الأساسي من دون منازع في تركيبة النظام الأمني، وذلك وفقاً للمتطلبات السياسية التي تتطلّبها "القوى الشباطية".‏

وقد اعترض جزيني على هذه الخطوة غير المدروسة ورفض المساس بصلاحيات مديريته المؤتمن عليها، خصوصاً أنّه تحرّك في احتجاجه من منطلقات قانونية واضحة، وفي مقدّمتها نظام الأمن العام الذي ينصّ صراحة على جمع المعلومات ووضعها بتصرّف الحكومة وليس أيّ فرع من جهاز أمني آخر، وهو ما حاولت "القوى الشباطية" بواسطة فتفت الالتفاف عليه، كما هو واقع حالها عندما لا تستطيع تجاوز القانون.‏

ونشأ الخلاف بين فتفت وجزيني في البدء حول محاولة فتفت تمرير القرار الرقم 2403 الذي يجعل من فرع المعلومات الجهاز الأمني الأول في لبنان، عبر إرغام المديرية العامة للأمن العام التابعة لوزارة الداخلية على الارتباط معلوماتياً من طريق رابط إلكتروني بالفرع المذكور تحت ذريعة التنسيق الأمني، مع ما يترتّب على هذا "التدبير سيئ النية"، بحسب الأوساط المتابعة، من تسخير جهود وطاقة وتاريخ الأمن العام لمصلحة فرع صغير، أي تجيير الكلّ للجزء، بدلاً من أن يكون العكس هو الصحيح، وفتح أرشيفه العتيق قدم وجوده أمام هذا الفرع الذي يتواصل بشكل لافت للنظر، مع أجهزة أمنية خارجية عربية وغربية! وهذا ما دلّت عليه الأمور منذ إحكام القوى" الشباطية" قبضتها عليه قبل أكثر من عام، برغم محاولاتها الخجولة نفي هذه الوقائع المثبتة بالتاريخ والأدلة.‏

ولما فشل فتفت في مخطّطه ارتأى مقايضة جزيني بما يؤذي المديرية العامة للأمن العام، بالامتناع عن توقيع تشكيلات منجزة أجراها جزيني لملء الشغور الناشئ عن بلوغ عدد من الضبّاط السن القانونية وإحالتهم على التقاعد، وشملت 25 ضابطاً فقط من مختلف الطوائف والمذاهب. وحرّك بالمقابل مشروع تشكيلاته داخل الأمن العام في سبيل الانتقام من اللواء جزيني و"حشره في الزاوية"، وهي شملت 160 ضابطاً ومركزاً وتناسب مزاجه السياسي من دون العودة إلى المدير العام الأصيل ومن دون مشاورته، فاضطر الأخير مكرهاً بحسب صلاحياته القانونية، إلى رفضها ووقف تنفيذها لمخالفتها الأصول المتبّعة، ولاعتباره إيّاها افتئاتاً على اختصاصه ومهامه وتجاوزاً لصفته، وهو ما لا يحصل في أيّ مرفق أو إدارة رسمية أخرى باستبعاد الرئيس المعني وإجراء مناقلات بحسب التوجّه السياسي والشخصي للوزير، فضلاً عن أنّه لا صفة قانونية ولا دستورية لهذا الوزير المعيّن بالوكالة، ومن يتحمل مسؤولية خطأ يرتكبه أحد الضبّاط المشمولين بتشكيلات فتفت رئيسه المباشر، أي اللواء جزيني لا فتفت المغطّى سياسياً!‏

وقد حصل أن قام رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي المقدّم وسام الحسن، وهو مرافق شخصي سابق للرئيس رفيق الحريري، واستقال من سلك قوى الأمن في عهد حكومة الرئيس عمر كرامي، وأعاده "تيّار المستقبل" خلافاً للقانون إلى السلك مع مسؤولية بارزة، بإجراء مناقلات في فرعه من دون العودة إلى مجلس قيادة قوى الأمن، واستحصل على توقيع اللواء أشرف ريفي عليها، برغم اعتراض أعضاء في مجلس القيادة، ولكنّها مرّت من دون ضجيج، لأنّها توافق المناخ السياسي لـ"لقوى الشباطية".‏

وهكذا اصطدم فتفت برفض جزيني القاطع للصيغة المطروحة فيها تشكيلاته، والتي لا يمكن للعاقل أن يقبل بها، فاستشاط فتفت غضباً وازداد حنقاً، ووجد الفرصة سانحة أمامه لتكبير الموضوع وتطيير جزيني نهائياً من الأمن العام، بدلاً من أن يتعامل معه"بروح رياضية" كما هو اسم وزارته الأساسية التي نسي موقعها بسبب هامشيتها وعدم أهميتها في الحياة السياسية، مقارنة بوزارة الداخلية التي تجعل ممن يتولّى زمامها نجماً سياسياً وتلفزيونياً يومياً.‏

واعتبر فتفت اللواء جزيني عاصياً لأوامره ومتمرّداً على توجّهاته، وأصدر قراراً حمل الرقم 2531 وقضى باتخاذ تدبير مسلكي فوري بحقّه بتوقيفه عن العمل مدّة عشرين يوماً. لكن جزيني لم يخضع لهذا القرار التعسفي، لأنّه صادر عن غير ذي صفة، باعتبار أنّ فتفت ليس وزيراً أصيلاً، وإنّما معيّن بالوكالة خلفاً لوزير "تيار المستقبل" المستقيل حسن السبع الذي لا يزال يقبض راتبه الشهري من دون ممارسة أيّ عمل، وداوم كالمعتاد في مكتبه في المديرية العامة للأمن العام، ومارس مهامه وواجباته على أكمل وجه، ما زاد من منسوب التوتّر لدى فتفت الذي أحاله على النيابة العامة التمييزية بتهمة "اغتصاب السلطة" تمهيداً لإحالته على مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد للادعاء عليه ومحاكمته أمام المحكمة العسكرية.‏

ولقي قرار فتفت بـ"سجن جزيني عشرين يوماً في منزله من دون مقابلة أحد أو استقبال أحد" ـ كما يقول قراره ـ احتجاجاً عارماً من رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي رفض أسلوب التعامل التجريحي والتطاول على الكرامات، واستطاع بحنكته المعروفة أن يجد المخرج المناسب لهذه الأزمة التي أدخل فتفت نفسه فيها وأحرج "قواه الشباطية"، وخرج في نهايتها جزيني منتصراً بلغة القانون الذي استند إليه في تعاطيه معها.‏

علي الموسوي‏

الانتقاد/ العدد 1182ـ 29 أيلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-29