ارشيف من : 2005-2008
هناك في بنت جبيل وعيناتا ومارون الراس: أسطورة جيش "نجح".. في الفرار
أرّخت لأعظم انتصار بحروف من الدم سال على تراب القرى فشمخت بصمودها الأسطوري أمام أعتى آلة حربٍ عسكرية في المنطقة، محطمة جبروت الجيش الصهيوني الذي أُذلّ عند تخوم كل بلدة حاول الدخول اليها، أيام وليالٍ مرت من العدوان ربما لن ينساها جنود الاحتلال الذين سطروا نجاحاً باهراً في الفرار والصراخ، وترك الأسلحة والمخلفات في أرض المعركة.
حكاية المفاجآت البرية الأولى التي شهدت بسالة المقاومين وشواهد لا تزال محفورة في تلك الارض عن هزيمة العدو نحملها من جولة بين حنايا قرى العزّ هذه:
مسلسل النكسة الصهيونية بدأ بمارون الراس التي وصفها أحد قادة الاحتلال بأنها البلدة التي شيبت الراس، أيام عديدة من العدوان سبقت غرق الجيش الاسرائيلي في وحول البلدة، قصف وغارات جوية أوحت بأن الحياة قد أعدمت في مارون، وظن العدو أن تاج قرى القطاع الأوسط في الجنوب قد باتت صيداً سهلاً لدباباته التي بدأت بالتوغل انطلاقاً من مستعمرة افيفيم المقابلة معلنة بدء العمليات البرية بعد فشل أهداف العدوان الجوي على المناطق اللبنانية، الوادي الجنوبي قرب مارون غرق بضجيج الدبابات، لكن صوت صواريخ المقاومين وعبواتهم الكبيرة علا فوق كل الأصوات، وارتفعت معه أعمدة الدخان والنار التي تصاعدت من الجيل الرابع لدبابات الميركافا التي يتباهى العدو بتفوقها وفعاليتها، ولتبدأ مع هذا التوغل وفضح هشاشة القوة الاسرائيلية أولى المفاجآت البرية التي وعد بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
المكابرة الصهيونية تواصلت وأدخل العدو مزيداً من أرتال الدبابات باتجاه مارون عبر نقطة الباط لجهة عيترون والأطراف الغربية لجهة يارون، وعنفت المواجهات واعترف العدو بضراوتها وقساوتها خصوصاً مع توالي المفاجآت بإدخال الصواريخ المضادة للطائرات، فكان أول إنجاز جوي لمارون بإسقاط مروحية معادية كانت تخلي العديد من الإصابات من أرض المعركة الأمر الذي أدى إلى تدمير المروحية قرب افيفيم بمن فيها من جنود النخبة مع الاصابات المنقولة، واندلاع نيران هائلة في المنطقة.
العدو اللاهث وراء تحقيق أي انجاز وبأي ثمن كثف من هجومه البري والجوي على البلدة الصغيرة التي صمدت لأيام وقاتل فيها المجاهدون القوات الغازية من بيت إلى بيت حتى قضى عدد من المقاومين شهداء بعدما رفضوا الفرار من المواجهة برغم ضراوة النار والحديد التي استهدفت مارون وأحياءها.
لم يكن قرار المقاومة الوقوف سداً بوجه الغزاة بل كانت عمليات الاستدراج خير وسيلة للدفاع عن البلدة، وهكذا كان، فتحولت مارون الراس على امتداد أيام العدوان مقصلة لرؤوس الصهاينة تتدحرج على ابراج الدبابات وأعتاب مداخلها..
الضغوط الاميركية على القيادة الاسرائيلية بضرورة توجيه ضربة قوية الى حزب الله ولو من الناحية المعنوية وجهت الأنظار نحو مدينة بنت جبيل، كون المدينة تشكل عاصمة التحرير والانتصار ثقلاً معنوياً لحزب الله، الهجوم على المدينة بدأ بقصف بري وجوي تدميري لكل شيء حيث لم يسلم بيت أو مسجد أو مدرسة من الهمجية الاسرائيلية، ترافق ذلك مع تحرك الجبهة البرية على محورين، الأول عبر انزالات جوية مكثفة في منطقة تلة مسعود غرب المدينة، والثاني عبر خط مارون الراس بنت جبيل، الاستدراج إلى نقطة المقتل كانت السمة الرئيسية لرد فعل المقاومين الذين لقنوا جنود الاحتلال عشرات الدروس في الجهوزية والقتال من خلال الالتحامات وجهاً لوجه، حتى بات عويل الصهاينة الفارين يملأ كل مكان خصوصاً عند سقوط أكثر من خمس وثلاثين اصابة بين قتيل وجريح في مكمن واحد عند مربع التحرير بين بنت جبيل وعيترون وعيناتا ومارون الراس، الأمر الذي اضطر الجيش الصهيوني إلى اعلان هزيمته المدوية في المدينة التي صانت عرين الوطن بدماء مقاوميها، وقال الجيش الاسرائيلي ان تراجعه ووقف العملية في بنت جبيل هو خطوة تكتيكية دون التفلت من اعلان القدرة الفائقة التي تمتع فيها مقاتلو حزب الله الذين كانوا يلجأون إلى ضرب التجمعات الخلفية للجنود في عزّ المواجهات الأمامية. حاول العدو التعويض عن خسارته في بنت جبيل فجرب حظه العاثر في عيترون ثم الطيري، المشهد تكرر، لكن ما حدث في تلتي السدر والفريز في عيناتا كان الأكثر ايلاماً لجنود النخبة حيث تحولت المنطقة إلى مقبرة للدبابات والجرافات الاسرائيلية، وصب العدو جام غضبه على الأحياء السكنية في عيناتا للتغطية على سحب خسائره الجسيمة من أرض المعركة، وما المخلفات العسكرية التي بقيت في الميدان الا دليل على حماوة المواجهات التي استمرت طيلة أيام العدوان، إلا أن أياً من الأهداف الاسرائيلية لم يتحقق، ولم تبخل عيناتا بتقديم ضريبة العزة والكرامة من شبابها الذين ارتفعوا قرابين من أجل كرامة الوطن. وضعت الحرب أوزارها ودُحر الاحتلال ذليلاً يحمل أذيال الخيبة وفي جعبته مفردات وأسماء مناطق لن ينساها، ستظل كابوساً يلاحق قادته حتى إلى فراش النوم..
عودة الحياة
بدأ نفض الغبار… وبدأت عجلة الحياة تستعيد حركتها من بين أنقاض المنازل الشاهدة على إرهاب العدو، "المشهد يعبر هنا عن حجم هزيمة اسرائيل"، هكذا عبّر حسين بزي وهو الواقف على أطلال منزله المدمر بالكامل… يضيف: "لو استطاعت أن تتفوق على المقاومة لما كانت بحاجة إلى التعبير عن الغضب بهذه الصورة الوحشية ضد المدنيين".
احد مشاهد التحدي والعودة بمدينة بنت جبيل إلى نشاطها كان اقامة سوق الخميس على ركام الطرقات والأبنية دون النظر إلى حجم الدمار الكبير الذي لحق بالسوق، واللافت هو الحشد الغفير والمتنوع من البائعين والمتسوقين الذين غصّ بهم المكان المخصص للسوق، والذين قدموا من مختلف المناطق والقرى القريبة من بنت جبيل.
ويشير رئيس نقابة أصحاب المؤسسات والمحال التجارية في المدينة طارق بزي إلى ان "السوق هو اعلان انتصار بنت جبيل على الدمار والخراب والتهجير، فكما كانت المدينة عصية على العدو عسكرياً ستكون أيضاً عصية بوجه أهدافه من التدمير".
أما في عيناتا التي لم تكن أقل دماراً فقد شهدت ورشة كبيرة لإزالة الركام ومخلفات العدوان التي حلّ في كل مكان تجولت فيه على امتداد أحياء البلدة التي كانت مسرحاً لأعنف المواجهات… الموقف واضح، واللافتات علت مشاهد الدمار "هذا إرهابكم، وهذا ردنا"، الرايات الصفر رفيقة كل متجوّل في عيناتا، أطفال يلهون هنا، وآخرون يلملمون ما بقي من حاجياتهم من بين الأنقاض، وهناك تجمّع لأهالي يلتقون لأول مرة منذ بدء العدوان، ويتبادلون التهاني بالانتصار والسلامة، أما في ساحة البلدة فبدا أن ورشة نشطة تجري في محيط خيمة كبيرة أقيمت لتنظيم عمليات استقبال أصحاب المنازل المتضررة تمهيداً لإعادة الإعمار. المشهد كان مؤثراً في أحد جوانب الساحة، حيث كانت أمهات وزوجات وأطفال شهداء البلدة يقرأون الفاتحة على الأضرحة التي زينتها ورود التضحية والانتصار، صورة لا شك انها تؤكد الشراكة الكاملة لعيناتا بتحقيق النصر والعزة…
من حيث بدأت إنجازات المجاهدين نختم جولتنا في قرى المواجهة بين أزقة مارون الراس التي بدا كل واحد منها ساحة معركة، حيث امتلأت جدران ما تبقى من منازل بآثار الرصاص والقذائف المباشرة، الإسفلت لم يعد موجوداً على طرقات مارون، وحلت مكانه آثار الجرافات الاسرائيلية التي عاثت فيها خراباً، أحد مساجد البلدة أصابه التدمير وكذلك النادي الحسيني، مخلفات الدبابات والآليات المدمرة كانت متناثرة في أماكن عديدة، هذا التحام مع دبابة وهناك مواجهة مع قوة مشاة ما زالت بعض آثار هزيمتهم في أنحاء مختلفة من مارون، عائلة صمدت تحت النار، وعوائل عادت مرفوعة الهامات تعتز بانتمائها للبلدة قاهرة الاحتلال.
مشهد تحدّ يفاخر على آخر، والنتيجة مارون الراس رفعت رأس الوطن وشعبه، وأضحت تاج قرى الجنوب بعلياء صمودها وتضحياتها متربعة على تلة يجثم العدو عند نعل واديها المتاخم للأراضي المحتلة في مستعمرة أفيفيم.
هذا مثلث التحرير عام 2000 ومثلث العز والانتصار عام 2006، وما بين العامين حكاية طويلة لن تسعها كتب التاريخ.
تحقيق علي شعيب
الانتقاد/ العدد 1182ـ 29 أيلول/ سبتمبر 2006