ارشيف من : 2005-2008
الصوم: فوائد روحية
في فعله وقوله مع كل المحيط الذي يعيش فيه.
والصوم هو من أهم عناصر نظام العبادات، وهو عبارة عن "الامتناع عن تناول المفطرات المذكورة في كتب الفقه في نهارات شهر رمضان المبارك"، وهذا الامتناع الذي يتم عن إرادة واختيار ذاتيين من جانب المسلم الصائم هو المدخل لتحقيق المنافع والفوائد من هذه العبادة الجليلة.
وسوف نتحدث عن الفوائد والمنافع الروحية للصوم دون غيرها، لأن هذه المنافع هي المقصودة أصلاً من هذه العبادة، والتي اختصرها القرآن بقوله "... لعلكم تتقون"، حيث جعل الله عز وجل "التقوى" هي من هذه العبادة العظيمة والجليلة، وبعض هذه الفوائد هي: الفائدة الأولى: "الإخلاص": وذلك لأن الصوم يحتاج الى نية صافية وصادقة ومخلصة مع الله عز وجل، وهذا الأمر لا يمكن لأي شخص أن يحس به سوى من يكون صائماً، ولذا نجد الزهراء (ع) في خطبتها المعروفة تقول: "الصوم تثبيتاً للإخلاص..."، والإخلاص لا بد أن يكون ناتجاً عن الصدق في الإيمان وفي العلاقة مع الله عز وجل، والإخلاص هو الذي يجعل الصائم منصرفاً عن كل ما يشغل باله عن ربه، والصوم هو المناسبة السنوية التي يعمل المسلم من خلالها على تثبيت الإخلاص لله في نفسه وروحه وعقله وقلبه وكل كيانه، وهذا الإخلاص لن يقتصر على الكون داخل النفس البشرية، وإنما سينعكس في فعل المسلم وقوله في شهر رمضان وفي غيره من شهور السنة، وكلما قوي الإخلاص في النفس البشرية تجسّد ذلك في عمل المسلم الذي سيكون موافقاً لأحكام الإسلام وطريقته ونظرته للحياة الدنيا.
الفائدة الثانية: "التوبة": وهي عبارة عن الرجوع الى الصراط المستقيم بعد الانحراف عنه، فشهر رمضان هو الفرصة المؤاتية كل عام من أجل العودة الى الله ومحاسبة الذات ومحاولة تقويم السلوك من خلال تربية النفس وتهذيبها وترويضها بعبادة الصوم التي يشعر معها المسلم التائب بلذة العبادة والتقرب الى الله، و"التوبة" هنا لا تقتصر على نفس التائب، بل يجب أن تظهر آثارها في حياة المسلم من خلال المسامحة ممن أساء إليهم بالفعل أو بالقول، ورد الحقوق الى أصحابها، وتغيير السلوك الشخصي مع كل من كان يتعامل معه الإنسان التائب قبل توبته. ومن خلال "التوبة" الصادقة يعود المسلم لوصل ما انقطع بينه وبين ربه عز وجل، وليعمل على تقوية تلك الصلة من خلال ما وعد به الله عباده التائبين الصائمين من الأجر والثواب المضاعف بأضعاف كثيرة في هذا الشهر العظيم "شهر ضيافة الله" عز وجل.
الفائدة الثالثة: "تقوية الحس الإنساني": وهذه الفائدة هي التي تحصل للمسلم من خلال امتناعه عن مفطرات الصوم المباحة له في غير نهارات شهر رمضان، حيث يشعر معها بالجوع والعطش وعدم القدرة على رفعهما إلا عند دخول الليل، فالصبر على ترك المفطرات يقوي في النفس البشرية "الحس الإنساني" بحيث يجعل الصوم الإنسان الصائم قادراً على التحسس مع آلام الفقراء والمعوزين، وإدراك المعاناة التي يعيشونها عند فقدان مقومات الحياة الأساسية، وعدم التمكن من العيش ولو بالحد الأدنى المطلوب، فتقوية الحس الإنساني من خلال الصوم تدفع بالقادر، ولو بنسبة ضئيلة، للشعور مع المحتاجين من إخوانه، في الدين أو الإنسانية، فيمد لهم يد المساعدة ويعينهم لرفع بعض المعاناة عنهم.
الفائدة الرابعة: "التقوى": وذلك لأن الصوم عندما كان معتمداً على ترك الفعل المؤدي الى إبطال الصوم فهذا مما يساعد الإنسان الصائم على تقوية الإرادة وترسيخها في النفس لتساعد الإنسان على عدم ارتكاب ما يوجب عقاب الله من ترك واجب أو فعل حرام، وهذه الإرادة كلما قويت في النفس البشرية تمكن المسلم من الالتزام بأحكام دينه أكثر، والتمسك بقوة أكبر، لأن الإرادة التي يكتسبها الصائم تعينه كثيراً في هذا المجال، وتجعله حريصاً على الابتعاد عن كل ما يمكن أن يؤدي الى غضب الله عليه وحرمانه من القرب منه، ومن المعروف والمشهور في ديننا أن الإنسان اذا وصل الى مرحلة التقوى ومرتبتها تنفتح له أبواب الرحمة الإلهية ويتقبل الله عمله "إنما يتقبل الله من المتقين".
هذه بشكل مختصر بعض الفوائد الروحية للصوم، وهناك طبعاً فوائد ومنافع روحية غير هذه لأننا لا ندرك مهما حاولنا استقصاء كل منافع الصوم الروحية، خصوصاً اذا علمنا أن فريضة الصوم هي من الأركان الأساسية لبناء الاسلام كما في الحديث المعروف "بُني الاسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية...".
من هنا نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نصوم الصوم الذي يحقق لنا تلك المنافع الروحية حتى نتمكن من التغلب على كل الأهواء والشهوات والملذات المحرمة، وأن يتقبل منا صيامنا ليكون ذخراً لنا يوم القيامة "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم".
الشيخ محمد توفيق المقداد
العهد الثقافي/ العدد 1182ـ 29 ايلول/ سبتمبر 2006