ارشيف من : 2005-2008
الأمة الإسلامية: تمايزها وخصوصياتها في شهر رمضان
الصوم في التشريع الإسلامي، فهو أحد الفرائض والواجبات التي ارتكز عليها الايمان والعمل بهذا الدين.
وهذا ما أكده الفقهاء والعلماء من كونه من الفرائض والأمور التي لا يجوز للمسلم إنكارها والتهاون فيها.
واعتبر جمع من المفسّرين لكتاب الله العزيز أن تخصيص الخطاب في آية الصوم في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" بالمؤمنين دون سواهم هو إشارة الى التكريم الخاص الذي كرّم الله به الأمة الإسلامية من خلال وجوب الصوم عليها.
ويظهر من الآية الكريمة "كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم"، أنّ فريضة الصيام لم تكن من مختصات الأمة الإسلامية وحدها، بل هي فريضة عليهم كما كانت على الأمم السابقة لهم، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى ذكّر المسلمين بذلك حتى لا يستثقلوا ولا يستوحشوا من تشريعه في حقهم وكتابته عليهم، باعتبار أن هذا الحكم لم يكن مقصوراً عليهم وحدهم، بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة، ولم يتفرد المسلمون به.
نعم هو فريضة لم تتعلق الإرادة بفرضه على الأمة الا أياماً معدودة، والغاية منه التقوى التي هي خير الزاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، ومن شقّ عليه الأمر في أصل الصيام كمن لا يستطيع النهوض بعبء الفريضة، فعليه أن يدفع فدية لا تشقّه ولا يستثقلها، وهي طعام مسكين، وهو قوله تعالى:
"فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فديةُ طعامِ مسكين".
ولأجل ذلك نرى الكثير من الأبحاث التي تناولت عرض قضية الصوم في الأديان والأمم السابقة على الإسلام، وكونه من الفرائض التي أوجبها الله تعالى على كل الأمم وأتباع الديانات، وإن كانت من حيث الشكل تختلف عما هي عليه في الإسلام، وهنا تستوقفنا بعض الروايات التي أشارت إلى أن المقصود من الآية الكريمة غير ما فهمه الناس من كلام الله تعالى ونقصد به قوله تعالى: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم".
فقد اعتبر البعض أن المقصود من فرض الصوم على الذين من قبلنا هو فرضه على الأنبياء فقط دون الأمم، وإلا ضاعت الفائدة من تشريعه باعتبار أن الله عز وجل قد خصص الأمة الإسلامية بهذا التشريع دون سواها.
ومن هذه الروايات ما ورد عن حفص بن غياث النخعي قال:
سمعت أبا عبد الله الصادق (ع) يقول: "ان شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحدٍ من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ..؟.
فقال(ع): انما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضل الله به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله (ص) وأمته".
فالمستفاد من هذه الرواية تخصيص الأمة الإسلامية بفريضة الصوم دون سواها من الأمم، ولا يتعارض هذا الأمر مع ما ورد في الآية في تفسيرها بأن المراد بها وجوبه على الأنبياء فقط دون أممهم.
وقريب من هذا المعنى ما ورد في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الصحيفة السجادية في دعاء وداع شهر رمضان:
"..ثم آثرتنا به على سائر الأمم واصطفيتنا دون أهل الملل، فصمنا بأمرك نهاره، وقمنا بعونك ليله".
وأيّد العلامة الفيلسوف السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان هذا المعنى بنحوٍ ما، وليس بشكلٍ كلي باعتبار أنه ضعّف الرواية المتقدمة بقوله: "والرواية ضعيفة بإسماعيل بن محمد في سنده".
وقال في تفسير الآية:
"والمراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الإسلام من أمم الأنبياء كأمة موسى وعيسى وغيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت وليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، وفي مقام الإطلاق من حيث الأشخاص ولا من حيث التنظير، فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوباً عليهم الصوم من غير استثناء، ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، فالتنظير في الآية انما هو من حيث أصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته.
والمراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعيّن القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: "كما كتب" ان هؤلاء من أهل الملّة، وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودان عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب فرض الصوم وفرضه، بل الكتابان انما يمدحانه ويعظّمان أمره، لكنهم يصومون أياماً معدودة في السنة الى اليوم بأشكالٍ مختلفة: كالصوم عن اللحم، والصوم عن اللبن، والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام، وكذا صوم مريم عن الكلام.
بل الصوم عبارة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديمة، واليونان القديمة، والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قريبة مما يهتدي اليه الانسان بفطرته".
فالوجه إذاً في رفع التعارض بين الروايات التي دلّت على اختصاص المسلمين بفريضة الصوم، وبين الآية التي دلت على شموله لجميع الأمم السابقة هو القول بأنّ الصوم كعبادة وكواجب وتشريع قد فرضه الله تعالى على جميع الأمم بما فيه الأمة الإسلامية ومن سبقها، فالجميع يشترك في أصل الصوم، نعم الصوم في كيفيته وخصوصياته يختلف عند المسلمين عما هو موجود عند غيرهم من الأمم، وبهذه الكيفية والخصوصية الموجودة في تشريع الصوم في الإسلام تميّزت الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم.
ولعل من أبرز أوجه تمايز وتخصيص الأمة الإسلامية بفريضة الصوم:
أولاً: على المستوى الروحي:
فإن الصوم في الإسلام هو من الوسائل التي يلتمس بها العبد التقرب الى خالقه، ومن أعظم الأمور التي تساعد الإنسان في عملية تحلية النفس بالفضائل، وتخليتها عن الرذائل، فلأجل ذلك نرى البشرية تقربت اليه سبحانه وتعالى بهذه الفريضة، وإن كان ذلك بشكلٍ يختلف عما هو موجود.
ثانياً: على المستوى الاجتماعي:
فإلى جانب تأثير الصوم في بناء شخصية الفرد وتنمية قواه الروحية والنفسية، وإعداده إعداداً أخلاقياً وسلوكياً رائعاً، فإنه يؤثر أيضاً في بناء شخصية المجتمع تأثيراً بالغ الأهمية، فهو من وسائل التربية على الصدق مع الله، وعلى احترام القانون الالهي، والحفاظ على يقظة الضمير، والرقابة الذاتية، والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين على جميع المستويات، لا سيما منها ما يتعلق بالروابط والعلاقات الاجتماعية بين الصائمين.
ثالثاً: على المستوى السياسي:
فإن الأمة الإسلامية يتركّز لديها الشعور بوحدة الموقف والكلمة ووحدة المصير، وينصهر المسلمون جميعاً تحت سقف واحد عنوانه الالتزام بأوامر الله، وضرورة نبذ التفرقة وطرد الشيطان ووساوسه المؤدية الى التشرذم.
وعلى هذه الأسس يمكننا اعتبار شهر رمضان المبارك هدية الله تعالى الى هذه الأمة الكريمة ليكون ذلك حافزاً لها نحو التقدم والرقي والسعي الى وحدة كلمتها وموقفها تحت راية الايمان والإسلام.
الشيخ خليل رزق
العهد الثقافي/ العدد 1182ـ 29 أيلول/ سبتمبر 2006