ارشيف من : 2005-2008
لدينا مشكلة!
لطفله في الإعلان: "وصار التران يعمل.. توت توت توت".
على هذه الرتابة يلقي الحكيم اللا خطابي، خطاباته "الحماسية". هذه مشكلة كبيرة للقواتيين. لكنها ليست الوحيدة.
في معسكره، يقف سمير جعجع بين صفين. الصف الأول يضم وليد جنبلاط وسعد الحريري. جنبلاط زعيم مطلق لطائفة وسياسي هائل وخطيب ومتحدث بارع. سعد الحريري وارث شاب ما زال المستقبل أمامه ووراءه ويحيط به من كل جانب. وقد أورثته الظروف كل الاشياء دفعة واحدة. وبغض النظر عن إلى آخره، صار زعيماً وسيبقى. أما في الصف الثاني فنرى البقية الباقية، من نايلة معوض وأمين الجميل وإلياس عطا الله وسمير فرنجية وفارس سعيد، إلى الجيل الثالث من آل الجميل (بيار وسامي ونديم)، وهذا جيل لا يبشر بأي خير للعائلة السياسية، إلى دوري شمعون، وهو التفسير الحرفي لكلمتي "الفشل السياسي".
في الصف الثاني مجموعة من المتعثرين. هؤلاء الذين سلبهم الله كل الأشياء. فلا الجمهور ولا الموقف السياسي المستقل ولا الكاريزما. بمعنى آخر، لا الماء ولا الخضرة ولا الوجه الحسن.
سمير جعجع يتقدم (بالقواتيين) خطوة واحدة عن هذا الصف الثاني، لكنه يظل بعيداً بأميال عن الصف الأول. في الصورة، يقف شابكاً اصابعه بأصابع جنبلاط والحريري، وفي اللحظات العصيبة تمر القرارات المتخذة من فوق رأسه، فلا يملك إلا أن يرددها. هو يعرف أن حجمه الشعبي لا يسمح له إلا بأن يكون ملحقاً. لكنه حين يطل على "القواتيين" يحاول أن يتنكر لواقع الالتحاق. ويخفق.
في خطابه الأخير، جهد الحكيم كي لا يقول جديداً خاصاً به. في مناسبة إحياء ذكرى شهداء "القوات"، هذه المناسبة الجليلة بلا شك، خصص جعجع معظم خطابه مردداً:
"يقولون ونقول". رفع نفسه فجأة إلى المرتبة المواجهة لحسن نصر الله. الخطاب في معظمه جاء رداً على خطاب نصر الله. السيد، ومن حيث لا يدري، اعطى جعجع فرصة ثمينة لإلقاء خطاب، كان ليكون فارغاً لو لم يقع "مهرجان الإنتصار". في ما تبقى من الخطاب، كان جعجع يحاول أن يصنع صورة مقابلة للسيد وناسه. يقارعه. اخترع
"مقاومة" مبهمة، وراح يقفز بها عشوائياً بين الأزمنة. هذه "المقاومة انتبهت إلى نظام الوصاية قبل 15 سنة من قيامه، وأسقطته في الأشرفية وبلّا وقنات وزحلة". ثم، والكلام يستمر لجعجع، "لم يقم نظام الوصاية في لبنان إلا بعد إحكام المؤامرات علينا ومنعنا من اكمال مقاومتنا". كيف هذا؟ أي مقاومة هذه التي تستمر طيلة 15 سنة لتنتهي بنظام وصاية؟ وأيضاً، ما معنى عبارة: "منعنا من إكمال مقاومتنا"؟ هل كان يفترض بالإسرائيليين أن يسمحوا بعمل المقاومة في الجنوب المحتل؟ عفواً. هل كان يفترض بالسوريين ان يسمحوا بالمقاومة في لبنان ما تحت الوصاية؟ لماذا اسمها
"مقاومة" يا ترى؟
لا إجابة لدى الحكيم. على العكس، يزداد الكلام غموضاً: "شهداؤنا غيروا بمجرى التاريخ. ولو انتركوا يكفوا شهادتهون (كيف؟) كانوا غيروا اكتر واكتر ووفروا على اللبنانيين كل اللبنانيين كتير من المآسي والكوارث اللي حلت فيون. لولا شهدائنا ما كان انوجد مناخ ومفهوم للمقاومة بلبنان، وما كانت بقيت مساحات حرية كافية مكنت من قيام المقاومات على انواعا". بغض النظر عن حقيقة أن المقاومة لا يفترض بها أن تكون متعددة النكهات كالبوظة، فالرجل يتحمل مسؤولية أن مقاومته، على العكس من مقاومة غيره، توقفت في اللحظة التي كان يجب أن تشتعل فيها، أي لحظة اعتقاله. وفضل مقاوموه انتظار انقلاب سياسي كامل لم يكن لهم أدنى دخل فيه، حتى أخرجه غيرهم من سجنه. ما الذنب الذي اقترفته المقاومة الأخرى؟ نجحت؟ ربما. لهذا فإن جعجع يتذكر: "قبل ما يكون في مارون الراس والخيام وبنت جبيل، كان في عين الرمانة وبلّا والاشرفية وقنات وزحلة".
حسناً. كلنا يتذكر ملحمة بلّا التاريخية. لكن المقارنة بين مناطق "مقاومتهم" ومناطق "مقاومتنا" بهذه الطريقة معيب. استحضار التاريخ الغابر لمقارعة قرى منكوبة الآن في بيوتها وحكايات ناسها هو امر مثير للغثيان. في جحيم مارون الراس والخيام وبنت جبيل، لم تكن هذه القرى تتحدى عين الرمانة وزحلة. كانت تدافع عن نفسها فقط. وسُحقت لأنها دافعت. لم تكن في منازلة مع سمير جعجع. لم يعنها إذا كان هو أو غيره، "أب المقاومة وأمها واولادها وأحفادها". كانت مشغولة عنه تماماً. كانت تقاوم.
بعدما اقتنع سمير جعجع، في خطابه، بأنه هو المقاومة، قرر أن يقاوم من أجل أن يبدأ الإعمار في الجبل "لأن الذي هدم بيته قبلاً، يجب أن يبنى بيته قبلا". من هدمت بيته حرب الجبل الضارية بين القواتيين والإشتراكيين قبل أكثر من عشرين سنة، يجب أن يبنى بيته الآن قبل هؤلاء الذين ما زالت أغراضهم تحت ركام بيوتهم. جعجع يحكي عن ملف كانت وزارته حقاً حصرياً لحلفائه. زايد على وليد جنبلاط. الحكيم يريد حل مشكلة مهجري الجبل "قبل" إيواء من هدمت بيوتهم في الحرب الأخيرة. "قبل" وليس في الوقت نفسه.
وفي الوقت نفسه، وبينما جعجع يحكي، كانت جثث خمسة اطفال تسحب من تحت ركام مبنى في صور. جثثهم تحللت وعرفهم ذووهم من بقايا ثيابهم.
سمير جعجع يرفض أن يلتفت إلى الواقفين خلفه تماماً، إلى بيار وسامي ونديم. يتنطح. يريد ان يكون في الصف الأول بأي ثمن. يتنطح. يبارز الحاضر بالتاريخ. يبارز حسن نصر الله دفعة واحدة. مسكين. يظن أنه إذا اختار حسن نصر الله خصماً فقد ارتقى وصار وجهاً لوجه معه. يجهل أن تكرار العبارة الرتيبة نفسها مئات المرات ليس كافياً لأن نصدقها. يعرف أنه ليس زعيماً ولن يكون. لكنه يجهل أننا أيضاً نعرف أنه ليس زعيماً، ولن يكون.
بقي القواتيون. هل حقاً يرون فيه زعيماً؟ ألا تراودهم للحظة مثل هذه الفكرة: "لدينا مشكلة. لدينا زعيم حكيم يقف طوال ساعة يقرأ في الورقة ويردد مرة بعد مرة: وصار التران يعمل.. توت توت توت".
صحيفة "السفير"