ارشيف من : 2005-2008
مظلومية الإمام الحسن(ع) حياً وشهيداً
الإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية كافة، وهم جده رسول الله (ص)، وأبوه "أمير المؤمنين (ع) وأمه "فاطمة الزهراء (ع)، وأخوه الإمام الحسين (ع)، وارتوت نفسه ونفس أخيه من تلك الينابيع الفياضة مع كونه حديث السن ولم يكن قد تجاوز السابعة أو الثامنة من عمره عندما ارتحل جده (ص) عن هذه الدنيا.
إلا أن مجريات الأمور بعد رحيل النبي (ص) لم تسر كما كان مقرراً، إلى أن استلم الخلافة أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بعد ما يقرب من خمس وعشرين سنة على رحيل النبي (ص)، وعاد اليه حقه بالولاية، الا أن ضعفاء النفوس والمتخاذلين أبوا الا أن يحاربوه، فكانت حروب الجمل وصفين والنهروان، ثم انتهى الأمر باستشهاد أمير المؤمنين (ع) في مسجد الكوفة على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم.
والإمام الحسن (ع) عايش كل تلك الأحداث وكان يتابعها ويشارك فيها مع أبيه وأخيه، وبعد استشهاد الإمام علي (ع) بويع الإمام الحسن (ع) بالخلافة قائداً وولياً للأمة، ولكن في فترة حرجة وصعبة جداً بسبب الحروب التي افتعلها المتآمرون على أبيه (ع).
وأول ما عمد الإمام الحسن (ع) إلى فعله هو إكمال تهيئة الجيش الذي كان يحشده أبوه (ع) لقتال معاوية بعد "مهزلة التحكيم" في موقعة صفين عندما كاد معاوية أن يخسر الحرب لولا تلك الخديعة الماكرة، وخطب في الناس فقال (ع) "أيها الناس: ان الدنيا دار بلاء وفتنة، وكل ما فيها إلى زوال واضمحلال.. واني أبايعكم على ان تحاربوا من حاربت، وتسالموا من سالمت…"، فقال الناس "سمعنا وأطعنا فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين"…
وسار الإمام (ع) بالجيش لملاقاة معاوية الذي كان قد خرج من الشام قاصداً العراق لحرب الإمام (ع)، إلا أن ما يؤسف له أن الكثر من قادة جيش الإمام الحسن (ع) خانوه وانحازوا إلى معاوية بالترغيب بالأموال والمناصب، ومنهم الحكم الكندي والمرادي وعبيد الله بن العباس، وهو من أرحام الإمام الحسن (ع)، وأخذوا معهم أكثرية الجيش، فلم يبق مع الإمام (ع) إلا العدد القليل، فأراد أن يمتحنهم ليرى مقدار ولائهم له فقال لهم "أما بعد: فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظركم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضى". عندها نظر الناس إلى بعضهم وقالوا بأن الإمام (ع) يريد من هذا الكلام أن يصالح معاوية، وقالوا والعياذ بالله "كفر والله الرجل"، ثم هجموا على الإمام (ع) ونهبوا خيمته وما كان فيها حتى أنهم أخذوا مصلاه من تحته، وهجم شخص اسمه "الجراح بن سنان" من بني أسد، وضرب الإمام (ع) بخنجره يريد قتله بعد أن وصفه بالشرك والعياذ بالله، وكان لهذا الشخص وغيره ممن هاجموا الإمام ميول للخوارج، وكانوا يضمرون الكره لأمير المؤمنين (ع) بسبب قتله لهم في "معركة النهروان"، وحتى ان البعض من هؤلاء المنحرفين اقترح تسليم الإمام (ع) إلى معاوية حياً لقتله.
وهكذا انهار جيش الإمام قبل البدء بالحرب بسبب الانحراف والاغراءات، بحيث لم يعد أمام الإمام الحسن (ع) سوى طريق الصلح لحقن الدماء من شيعته وشيعة أبيه، وقد قال الإمام (ع) كلاماً مهماً عن تلك الخيانة من جيشه فقال "غررتموني كما غررتم من كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الاسلام هو وبنو أمية إلاّ فرقاً من السيف؟".
ومن هنا يمكننا أن نختصر أسباب الصلح الذي أجبرت الإمام للجوء اليه بالتالي:
1 ـ التمرد الحاصل من مجموعات كبيرة من جيش الإمام الحسن (ع) مع قادتهم الذين اشتراهم معاوية بالمال والمنصب.
2 ـ التعب والإرهاق اللذان نالا من الجيش بسبب الحروب زمن أمير المؤمنين (ع).
3 ـ ما قاله السيد المرتضى علم الهدى "ان المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوبهم نغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية من غير مراقبة ولا مساترة".
4 ـ حفظ شيعته وأصحابه من القتل على يد معاوية وأزلامه، لأنه كان يعلم أن معاوية لن يتركهم أحياء بدون أخذ تعهد منه، ومع ذلك فقد قتل معاوية الكثير من أصحاب الإمام الحسن (ع) وأصحاب أبيه (ع) كذلك.
5 ـ حفظ حقه بالخلافة بعد موت معاوية، لأن الأخير كان يطلب الحكم لنفسه لا لله ولا لتطبيق شرع الله، وإن لم يكن الإمام الحسن حياً عند موت معاوية فالخلافة تعود للإمام الحسين (ع) من بعده.
ولا بد أن نذكر هنا أن الذي طرح فكرة الصلح هو معاوية وليس الإمام الحسن (ع) لعلمه بأن قتل الإمام الحسن (ع) على يديه ستكون له انعكاسات سلبية لوصوله إلى الحكم الدنيوي الذي يسعى اليه.
وما يؤكد عدم لجوء الإمام إلى الصلح إلا بعد اليقين بأن الغدر والمكر والخديعة انحرفت بأكثرية جيشه إلى دنيا معاوية ما قاله بعد علمه بكل ما جرى "يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، لو سلّمت له الأمر، فأيم الله لا ترون فرحاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومونكم سوء العذاب، ولو وحدت أعواناً ما سلمت له الأمر لأنه مُحرم على بني أمية، فأفّ وتُرهاً يا عبيد الدنيا"، ثم رد على كتب معاوية بالصلح قائلاً له "أما أني أريد أن أحيي الحق وأميت الباطل، وأُجري كتاب الله وسنة نبيه (ص) لكن الناس لم يوافقوني، والآن أنا أصالحك على شروط أعرف أنك لن تفي بها، فلا يسرك أن الملك ميسر لك، فسرعان ما ستندم كما ندم من غصبوا الخلافة، لكن ندمهم لم يعقب لهم نفعاً".
وقد سأل بعضهم الإمام(ع) عن سبب صلحه مع معاوية فأجابه "… ألا ترى الخضر (ع) لمّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط النبي موسى (ع) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة فيه (الصلح) ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحداً الا قتل".
وهكذا كانت مظلومية الإمام الحسن (ع) في حياته نتيجة الجهل بأبعاد فعل الإمام المعصوم (ع) بنص النبي الأكرم (ص) عندما قال "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، حتى وصل الأمر ببعض أخلص أصحابه أن يقول للإمام (ع) "سوّدت وجوه المؤمنين" فقال له الإمام الحسن (ع) "ما كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإنما فعلت ما فعلت إبقاءً عليكم".
وأما مظلومية الإمام الحسن (ع) بعد استشهاده فهي في التهجم عليه من بعض من كتبوا التاريخ وافتروا على الإمام (ع) بأنه كان صاحب شخصية عبثية، وكان كثير الزواج والطلاق، كما ادعوا أنه لم يكن كثير الاهتمام بقضايا المسلمين وشؤونهم، وأنه ليس أهلاً للحكم والولاية وإدارة البلاد والعباد، وليس مؤهلاً لحمل أمانة الرسالة الاسلامية الخالدة والقيام بخدمتها والدفاع عنها، ومن الواضح أن كل تلك الافتراءات لم تكن سوى مبررات واهية، ولا تصمد عند ذكر الأحداث التاريخية التي أدت الى ذلك الصلح، ولم تكن سوى مبررات لكيفية وصول معاوية الى الحكم بالحيلة والخديعة وغصب الحق من صاحبه الشرعي، بادعاء أن معاوية أقدر على إدارة شؤون البلاد والعباد وما شابه ذلك من النصوص التي أوردها بعض من باعوا دينهم بدنيا غيرهم ليبرروا لمعاوية ما فعل حتى وصل الى مقام الخلافة المحرمة عليه بنص النبي الأعظم (ص)، وما يدل على مظلومية الإمام الحسن (ع) بصورة واضحة هو إغراء معاوية لجعدة بنت الأشعث بدس السم للإمام (ع) لقتله ولتزويجها من ولده يزيد، وإعطاؤها مبلغاً ضخماً من المال، وهكذا انتقل الإمام الحسن (ع) الى ربه شهيداً مسموماً، وعند لحظة احتضاره قال لأخيه الإمام الحسين (ع) "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" قاصداً بذلك مظلومية الإمام الحسين (ع) في كربلاء، وما جرى عليه مما كان الإمام الحسن (ع) يعرفه من أبيه وأمه وجده (ص).
فسلام على الإمام الحسن (ع) يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حياً، ونسأل الله تعالى شفاعته وشفاعة جده وأبيه وأمه وأخيه وأبناء أخيه الأئمة الأطهار (ع).
والحمد لله رب العالمين
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي (دام ظله) في لبنان
العهد الثقافي/ العدد 1183ـ 6 تشرين الاول 2006