ارشيف من :ترجمات ودراسات
الولايات المتحدة في قبضة التنين الصيني
كتب علي شهاب
صدرت صحيفة "الغارديان" البريطانية قبل فترة بعنوان رئيسي "لو دفعت الصين جزءا من تريليوناتها الثلاثة لما وصلنا الى هنا". هناك حنق في أوروبا والولايات المتحدة ضد "امبراطورية جديدة" تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم حاليا التي تملك فائضا في ميزانياتها. واقع اضطُرت معه الولايات المتحدة الى السعي بشكل حثيث لإقناع الصينيين بشراء أسهم الشركات الأميركية المنهارة في خطوة، إن حصلت، ستصبح معها الولايات المتحدة أسيرة قبضة "التنين" الآسيوي.
وقبل الخوض في آفاق الأزمة المالية، لا بد من تسليط الضوء على اسبابها.
يُجمع الخبراء على ان السبب الرئيسي للازمة هو التوسع الكبير في القروض العقارية في السوق الاميركي اعتمادا على الارتفاع الكبير في اسعار العقارات، لكن مع تراجع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة تراجعت اسعار العقارات من جهة، وتوقف مقترضون عن سداد ديونهم للبنوك مع زيادة البطالة من جهة اخرى، وبالتالي وجدت البنوك انها لا تستطيع بيع العقارات لاسترداد قيمة القروض لان قيمة هذه العقارات، ببساطة، اصبحت اقل كثيرا من قيمة القروض.
وبعبارات تقنية، تقوم المؤسسات المالية بشراء سندات مالية بضمان الديون العقارية، وهذه السندات يتم اعادة انتاجها واعادة بيعها في السوق عدة مرات ما دام ان هناك من يشتريها، بمعنى آخر يتم تداول القروض العقارية في الاسواق دون رقابة ودون ضوابط.
وصحيح ان تدوير رؤوس الاموال يؤدي الى خلق فرص تمويلية جديدة، لكنه ايضا يحمل مخاطر كبيرة، وخاصة ان جانبا كبيرا من هذه القروض العقارية يصبح بلا ضمان اذا انهارت اسعار العقارات، وهذا ما حصل تحديدا.
الواقع الحالي أدى الى جملة تبعات، ابرزها:
* تراجع الاستثمار في الولايات المتحدة.
* أزمة ثقة كبيرة بالاقتصاد الأميركي.
* كساد قد يطول لفترة لن تقل عن السنتين.
* تبدل في النظريات الاقتصادية العالمية باتجاه تدخل الدول في عمل الأسواق المالية والمصارف؛ وهو اتجاه سائد في أوروبا.
في المقابل، سارعت الحكومة الأميركية الى وضع خطة انقاذ تقوم على انشاء صندوق لشراء الديون المتعثرة من المؤسسات المالية بمبلغ 700 مليار دولار، في خطوة تُعدّ اكبر تدخل حكومي أميركي في الاسواق المالية منذ الكساد الكبير الذي تعرض له العالم ما بين العامين 1929 و1932، والهدف الاساسي منها هو توفير السيولة اللازمة لمنع انهيار النظام المالي الاميركي. غير ان المشكلة الجوهرية التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا هي في عدم توافر رأسمال كاف لتمويل هذه الخطة (تجري مفاوضات مع الصين، التي تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم حاليا التي تملك فائضا في ميزانيتها، لإقناعها بشراء أسهم الشركات المنهارة في الأسواق الأميركية).
ماذا يعني إفلاس الأمم: ايسلندا نموذجاً
أثار رئيس حكومة أيسلندا مؤخرا احتمال ان تعلن بلاده افلاسها نتيجة الازمة المالية العالمية. ولكن ماذا يعني ان تعلن دولة ما إفلاسها؟
هو بالاساس يعني عجز دولة ما عن الوفاء بديونها او الحصول على الاموال من الجهات الخارجية لدفع اثمان ما تستورده من بضائع وسلع.
وفي المنطق الاقتصادي، يمكن تعريفه ايضا بـ"الازمة في ميزان المدفوعات"، وهو مقياس مدخول وانفاق الدولة. اذا وجدت دولة ما نفسها عاجزة عن دفع اثمان وارداتها بسبب افتقارها الى العملة الصعبة، فإنها تلجأ الى صندوق النقد الدولي او الى الدول الاخرى لاقتراض المبالغ الضرورية. اما اذا اخفقت في ذلك، فهي لن تتمكن من استيراد السلع والخدمات الضرورية، وهو احتمال خطير جدا خصوصا لبلد كإيسلندا يعتمد على الاستيراد بشكل كبير.
وقد دأب صندوق النقد الدولي تاريخيا على استخدام القروض التي يمنحها للدول المختلفة كأداة للضغط على هذه الدول لاجبارها على اتباع سياسات اقتصادية ونقدية معينة.
وعلى خلاف مصفي الاملاك في حالات الافلاس التجاري الاعتيادية، لا يستولي صندوق النقد الدولي على اصول والتزامات الدول "المفلسة" التي تعني في هذه الحالة الدولة بأسرها وكافة ديونها. الا ان الصندوق لديه مجموعة، يُطلق عليها "التسهيلات" المالية، تتقاضى فوائد بالنسب السائدة في الاسواق. كما للصندوق تسهيلات خاصة تستخدم في حالات تعرض الدول للازمات الاقتصادية الخارجة عن سيطرة حكوماتها. وتتميز القروض التي يمنحها صندوق النقد الدولي عادة بأنها ترتبط بباقة من الشروط على الدول المدينة تطبيقها لحل المشكلة التي اوصلتها اصلا الى ابواب الصندوق. ولكن صندوق النقد الدولي لا يستطيع التصرف الا بدعوة من حكومة الدولة المعنية.
وتنبع المشكلة التي تواجه ايسلندا من الديون الضخمة التي كبلت مصارفها الرئيسية انفسها بها، فبحسب احصاءات رسمية، تدين البنوك الايسلندية الكبرى الثلاثة بما يبلغ مجموعه 62 مليار دولار. (نتيجة للازمة الأصلية في الولايات المتحدة).
وقد اضطرت الحكومة الايسلندية الى وضع يدها على معظم القطاع المصرفي في البلاد، والى التخلي عن خطة للدفاع عن عملتها، والى ايقاف عمليات بيع وشراء الاسهم، ووجدت نفسها منخرطة في صراع دبلوماسي مع بريطانيا، واضطرت الى البحث عن المساعدة من الخارج.
آفاق الأزمة
أدت الأزمة الأميركية تلقائيا الى اقامة اطار عام دولي جديد لتنظيم الاسواق المالية حتى لا يكون الاقتصاد العالمي ضحية لمشكلات اميركية، ويتوقع ان يقوم هذا النظام النقدي الدولي الجديد على دور اوروبي وآسيوي اكبر ودور اميركي اقل.
ومع ذلك، تتقاطع غالبية آراء الخبراء الاقتصاديين في أن نتائج الأزمة على المدى البعيد تتمثل في ما يلي:
- تراجع مكانة الولايات المتحدة عالميا على المدى البعيد لمصلحة القوى الآسيوية (الصين تحديدا).
- تراجع عمل الأسواق المالية وفرض المزيد من الضوابط عليها، ما سيؤدي الى فترة كساد في الولايات المتحدة لفترة طويلة.
- لا تشكل الأزمة انهيارا للرأسمالية الأميركية: ذلك ان النظام الرأسمالي لا يملك أصلا ايديولوجية اقتصادية ثابتة، بل هو يتغير بحسب الظروف، وهذه إحدى نقاط قوته.
كما ستؤدي الأزمة حكما الى تغيير في آليات عمل الأسواق المالية؛ فقد ظهر ضعف الرقابة والضوابط على الاسواق المالية الاميركية، واندفاع الكثير من مديريها لتحقيق الارباح بأقصى درجات المخاطرة، ما اضطر الحكومة الاميركية للتدخل فقامت بتأميم شركتي "فريدي ماك" و"فاني ماي"، اكبر مؤسستين للاقراض العقاري في الولايات المتحدة، ثم قدمت خطة الانقاذ المالي.
ومن المؤكد أن الأزمة الراهنة ستؤدي الى تغيير الطريقة التي تعمل بها البنوك والمؤسسات المالية الاميركية، اذ لا بد من وضع ضوابط اكبر على عمليات الاقراض العقاري، وعلى عمليات بيع القروض بين البنوك كأصول مستثمرة، كما انه لا بد من تصحيح هامش الاقراض العقاري مع تغيير قيمة العقار في السوق.
مع الإشارة الى ان المشكلة الكبيرة حاليا تكمن في فقدان الثقة بالنظام المصرفي في الولايات المتحدة، وهذا واقع يحتاج الى اجراءات قانونية من قبيل محاسبة أصحاب ومديري البنوك كي يتم تخطيه واسترجاع ثقة المودعين.
وحتى استرجاع هذه الثقة، يبدو انه لا مفر امام العالم سوى البدء بتعلم اللغة الصينية.
الانتقاد/ العدد 1317 ـ 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008