ارشيف من : 2005-2008
أحمد حسن جغبير.. دمه يضيء مثلث التحرير : سيرة الذين هزموا كتيبة النخبة الصهيونية في بنت جبيل
ذاكرتي، ولعله سيبقى كذلك إلى الأبد.
كان اليوم الثاني من انتهاء ملحمة "الوعد الصادق"، وكانت آثار ومعالم المعركة شاخصة للبصر وممسكة بخارطة القلب.. ولعلّ الذي كنت أبحث عنه في خارطة المعركة تلك هو "أحمد"، والمكان الذي خاض فيه وقفة الأقدام الراسخة في الأرض والجماجم الشامخة إلى السماء.. هذا ما قلته للصديق والدليل الذي رافقني في تلك الرحلة.
كان دليلي إلى أرض الملاحم صديقا ممن خاضوا وأداروا يوميات المعركة في منطقة بنت جبيل، لذا جاء حديثه مفعماً بالصدق والعاطفة والفخر بأولائك الفتية المقاومين الذين هم في ربيع العمر، والذين كان أحمد واحداً منهم.
حدثني دليلي عن مطر الغارات ووابل القصف الذي ازداد جنوناً بعدما اشتدت الضربات على الجنود الصهاينة وراحت بشائر الهزيمة تلاحق وحداتهم العسكرية، اجتزنا مفارق بيت ياحون وصف الهوا باتجاه عيناثا صعوداً نحو مثلث التحرير، كان كل شيء يوحي بأن ثمة أصواتاً ما زالت تدوي بين الأودية ووجوهاً يراودك خيالها تحت أسقف المنازل المرصوفة أرضاً، وكان وجه أحمد هو ما أبحث عنه، أتلمس بعضاً من ذلك السرّ الذي خبأه بعيداً عنا منذ استشهاد أبيه في العام 1993.
يومها ما زلت أذكر أبا أحمد حينما زرته وهو يعيد ترميم منزله بعد عدوان تموز 93 وسألته عن أحمد، فإذ به يشيح بنظره بعيداً ويبتسم قائلاً: انظر، ها هو قادم من الحقول البعيدة. ثم أردف متنهداً: يا أخي هذا الولد روحه معلقة ببركة الماء والحقول والأشجار وأعشاش الطيور في برعشيت.
كان أحمد وحيد أبويه مع أخت له، وكان في السادسة من عمره عندما سمع نساء قريته يباركن لأمه استشهاد أبيه، وأحس بالرجال يمسحون على رأسه تبركاً بالصبي الذي سيحمل أمانة شهيد كان الأب والمعين لأسرته وبلدته. وهكذا كبر الصبي سريعاً في كنف أم صابرة مؤمنة وتحت ظل صورة أبيه الشهيد، يرتوي من حكاياتها التي لا انتهاء لها.
سريعاً وبلمحة عمر صار أحمد فتى في التاسعة عشرة، وقد ورث عن أبيه ملامح الجسد والوجه والقلب، واختار أيضاً طريق المقاومة خطاً يستلهم منه سيرة أبيه الشهيد. لكن قيادة المقاومة حفظاً منها لذرية الشهداء رفضت طلب أحمد الذي اختار اختصاصاً عسكرياً دقيقاً وخطراً، عندها حزن الفتى وراح يرجو المسؤول عنه وألح عليه.. وأمام هذا الرجاء رُفع ملف الفتى الى أمه ليكون رضاها وتوفيقها شرطاً للقبول، فبادرت الأم لتوقع بحبر القلب والروح قائلة: لأن يسير ولدي في خط أبيه الذي يرضي الله ويعز الإسلام خير عندي من كنوز الدنيا الفانية.
قال دليلي: بعد أسبوعين من إخفاق الصهاينة اختراق خط مارون الراس وبعد القصف الجنوني، كان قرار المقاومة نصب كمائن خلفية عند مثلث التحرير، فأُعدت مجموعات لإرسالها، وما إن عرف أحمد حتى هبّ كالمارد ممتشقاً بندقيته وجعبته ليكون ضمن هذه المجموعات، فرُفض طلبه، لكنه أصرّ راجياً متوسلاً، عندها التحق بواحدة من المجموعات التي ذهبت إلى كمين خلفي حيث مهنية بنت جبيل، وهناك وقعت الملحمة.
بعد ساعات من بلوغ أحمد وإخوانه نقطة المكمن أحسوا بحركة غير عادية تتجه نحوهم، فدققوا السمع والنظر ليفاجأوا بعشرات الجنود المدججين بالعتاد يدخلون البيت والمبنى حيث يرابطون.. اتصل أحمد بغرفة العمليات ليعلمهم بأن صيداً ثميناً أمام مرمى بندقيته، ووقعت المعركة وراح الفتى يفرغ رصاصه المحشو ببارود الوجع والمصقول بالعزيمة التي تفلّ الجبال.. هنا خاف الإخوة على أحمد وطلبوا منه التراجع لأن هناك من ذهب بديلاً عنه، لكن هيهات للفتى العاشق أن يشيح بصره وقلبه لحظة عن معشوق انتظره طيلة تسعة عشر عاماً، وقال لمريديه: "دعوني أجهز عليهم، إنهم يصرخون أمامي كالجرذان المسعورة، لقد بلغ مجموع ما سقط تحت قدمي حتى اللحظة عشرة جنود، دعوني لقد اشتقت لأبي"..
ومن ثم صمت، أصيب الإخوة في غرفة العمليات بالحيرة، وبدأت الأخبار تتواتر اليهم حول مجريات المعركة وحجمها، فالجنود الصهاينة الذين خاضوا تلك المعركة من وحدات نخبة النخبة، وعدد القتلى والجرحى الذين تناقلوه عبر أجهزتهم جاوز خمسين جندياً.. أما أحمد وعدد من إخوانه فلم يعودوا من أرض المعركة، بقوا هناك زرعاً ربيعياً ليدثرهم التراب المضمخ بعطرهم، وتتكئ على صدورهم القناطر الحجرية للبيوت العتيقة بعدما عجز الصهاينة عن الوصول اليها، فقصفها الطيران الأعمى.
تروي أم أحمد أنّ فتاها أعد الطابق الثاني من المنزل للزواج، وأنه كان اختار عروسه، وأنه كان يعد العدة لحفل الزفاف قبل أن تتناهى الى سمعه أخبار الاجتياح الصهيوني، يومها طلب من أمه أن تسامحه وتدعو له بالخير، وذهب ولم يعد.. ولما بحثت بين ثيابه وجدت وصية طويلة خطت بلغة العارفين الزاهدين تقول:
إخوتي الأعزاء: أوصيكم بتقوى الله والتمسك بولاية أهل البيت (ع)، سفينة النجاة وباب الخلاص، والتمسك بولاية الفقيه وخط الإمام الخميني..
والدي الحبيب: إنك في فكري دائماً، لم تبتعد عني لأن خطك ونهجك ما زالا في عقلي.. وإني أتوسل بآل البيت (ع) كل ليلة أن أكون شهيداً تفتخر بي..
أمي العزيزة: لك مني السلام، وأرجو منك ألا تحزني ولا تجزعي عندما آتيك شهيداً مضرجاً بدمي مستبشراً بلقاء ربي.. ولا تحزني قلبي بدمعك الغالي، وأرجو منك التمثل بالسيدة زينب بطلة كربلاء (ع)، فإني طلقت الدنيا لأفوز بالآخرة..
وصيتي الشرعية: إن كل ما أملكه من الأموال المنقولة تكون للعمل الجهادي في حزب الله، تعطى لسماحة أمين عام حزب الله..
التوقيع: أحمد حسن جغبير (حيدر الكرار)
حسان بدير
الانتقاد/ تحقيقات ـ العدد 1188 ـ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2006