استطاع الرئيس العماد إميل لحود أن يكمل ولايته الممدّدة بحكم الدستور حتّى اللحظة الأخيرة من عمرها، ليكون الرئيس الثاني بعد إلياس الهراوي، والأوّل دون سائر الشخصيات السياسية التي قيّض لها تولي سدّة الحكم في لبنان منذ تاريخ نشوئه بما فيها مرحلة الاستقلال في العام 1943، من حيث كونه "مقاوماً" متمرّساً للمحاولات الداخلية والخارجية اليائسة لزعزعة نظامه وحكمه.
فعلى الرغم من كلّ المعوّقات والعراقيل، وكلّ أطنان الشتائم والإهانات والتجريح، وسيل التهديدات، وأسلحة التهويل التي ثابرت قوى 14 شباط/ فبراير على اطلاقها باتجاه الرئيس لحود، من جعبتها الملأى بها، صبحاً ومساء، وسرّاً وعلانية، وعلى مختلف المنابر المحلّية والخارجية والاعلامية، إلاّ أنّه بقي صامداً حتّى انتهت فترة حكمه البالغة تسع سنوات.
الخوري وشمعون
ففي استعادة لتاريخ رؤساء الجمهورية في لبنان، يتضحّ بأنّ من فكّر منهم بتمديد ولايته أو إعلان رغبته بحصول تجديد له ليبقى مغرّداً فوق كرسي الرئاسة ومعتمراً لقب الفخامة، لم يتمكّن من تحقيق حلمه، فخرج فوراً من الحكم وهو نادم على تعثّره حتّى ولو كانت الأكثرية النيابية بحوزته وواقفة إلى جانبه، كما حدث مع الرئيس بشارة الخوري الذي ما إنْ أنهى ولايته في العام 1949، حتّى وسوست له نفسه الاستمرار في الحكم عبر تعديل الدستور لمصلحته، فنال مرامه وهو أمر كان وارداً جدّاً بسبب اصطفاف الأغلبية الساحقة من النوّاب معه، فجُدّدت ولايته ستّ سنوات، ولكنّه لم يستمرّ إلاّ ثلاث سنوات فقط، بعدما قامت التظاهرات الشعبية الحاشدة ضدّه متهمّة إيّاه بالفساد، فقدّم استقالته ورحل.
وتكرّر المشهد نفسه مع الرئيس كميل شمعون في العام 1958 بعد نجاحه مع حلفائه في تمرير تزوير الانتخابات النيابية في العام 1957 تمهيداً للمطالبة بتجديد ولايته، ولكنّه لم يتمكّن من العبور إلى ضفّة التمديد أو التجديد على إثر اندلاع ثورة العام 1958 وما رافقها من اضطرابات، فسقط وخرج من الحكم.
وتغيّرت الموازين في عهد الرئيس لحود الذي حظي بإجماع نيابي قلّ نظيره، وتوّج في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2004، بتمديد ولايته ثلاث سنوات إضافية، وكان في مقدّمة المبايعين رئيس الحكومة رفيق الحريري ونوّاب كتلته.
عوامل النجاح
وهناك جملة عوامل ساعدت لحود على البقاء في القصر الجمهوري في بلدة بعبدا لم تكن متوافرة لدى كثيرين من أسلافه الرؤساء، منها نظافة كفّه، وعدم تلويث كفّيه بدماء مواطنيه، وقدومه من صلب المؤسّسة العسكرية ذات العقيدة الراسخة بعدم التهاون مع العدوّ الإسرائيلي الغاصب، ومواقفه الشريفة في مختلف المجالات، ووقوفه إلى جانب المقاومة مسانداً وداعماً ومجاهراً بمعاداته للكيان الصهيوني، ومناداته الدائمة بحقّ عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم المحتلّة منذ العام 1948، وعدم ارتهانه للخارج، وهذا ما دفع بالمعارضة، وفي مقدّمتها حزب الله، إلى تأييده، فظلّ صوته مسموعاً وأقوى من نشاز أقطاب 14 شباط/ فبراير.
افتراءات جنبلاط
ففور اغتيال الرئيس الحريري، وقبل أن تجري مراسم تشييعه إلى مثواه الأخير قرب مسجد محمّد الأمين في وسط بيروت، أباح النائب وليد جنبلاط لنفسه استغلال الجريمة الطازجة، وأوقد نار الفتنة عبر تحريك النعرة المذهبية والطائفية، وتجييش الشارع الغاضب، ووجّه أصابع الاتهام المرسوم مسبقاً إلى سوريا على أنّها متورّطة في قتل "زعيم السنّة في لبنان"، وقاد حملة تشهير لإجبار الرئيس لحود على الاستقالة بداعي أنّه "رمز الوصاية السورية" التي كان جنبلاط أكبر المستفيدين من وجودها في لبنان، وجاراه في هذا المطلب كلّ المنضوين في قوى 14 شباط/ فبراير ولا سيّما النائب سعد الحريري، ورئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع الخارج من سجن وزارة الدفاع الوطني بعفو مذيّل بتوقيع لحود، والمعادين للرئيس الحريري خلال حياته ومنهم الرئيس أمين الجميل، والنائب بطرس حرب.
واعتقدت هذه القوى بأنّها قادرة على إخراج لحود من قصر بعبدا، وجرّدت حملات مدروسة لتنفيذ مخطّطها المأخوذ بناء لطلب إدارة جورج بوش، ووضعت إمكانياتها المالية وقدراتها الإعلامية وعلاقاتها الدولية وتحديداً الأوروبية، ومنها الفرنسية على وجه الخصوص، للظفر بهذا المكسب المهمّ في طريقها للاستيلاء على الحكم بعدما استطاعت بالخديعة والدعم الخارجي السيطرة على الدولة، والحكومة، والأجهزة الأمنية، والمرافق والإدارات العامة، والمؤسّسات الاقتصادية، ووصل الأمر إلى حدّ اتهامه بالضلوع باغتيال الحريري، ولكنّ معنويات لحود لم تتزعزع ولم تهتزّ ليضيف فشلاً نوعياً إلى رصيد هؤلاء الشباطيين.
وعندما استخدم هؤلاء "الشباطيون" التحقيق في اغتيال الحريري وسيلة لتضييق الخناق على لحود، لجأوا عبر قاضيهم التضليلي الألماني ديتليف ميليس إلى توقيف الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار لاعتقادهم بأنّ اعتقال أركان النظام الأمني لحكم لحود يسرّع في إسقاطه، فصمد كما صمد الضبّاط أنفسهم، خلف قضبان زنازينهم الباردة.
إفلاس حملة "فلّ"
وبدأت حملات الإفلاس الشباطية من خلال اللعب على الوتر الطائفي، والادعاء بأنّ الموارنة غير ممثّلين في الحكم، وهو ما ظهر أنّه مجاف للحقيقة، فلحود مسيحي أكثر من دعاة الحصرية، ومنتخب بطريقة دستورية لم تمسّها أيّة شائبة، ولو لم يكن مرضى عنه شعبياً لما قدر على المكوث في مكانه.
وما كان من "الشباطيين" إلاّ أن قاطعوه ليقطعوا عليه طريق الاستمرار، وطلبوا من حلفائهم الخارجيين مقاطعته أيضاً، فلبّى بعضهم ورفض بعضهم الآخر، كما أنّ مسؤولين كباراً في دول عدّة داوموا على زيارة لحود كلما قدموا إلى بيروت، ولم تنخفض شعبية لحود، فظلّ مواظباً على القيام بمهامه، وباستقبال حشود المؤيّدين وبينهم وزراء ونوّاب وشخصيات سياسية وعسكرية وفعاليات اقتصادية واجتماعية.
ثمّ نظّمت حملة "فلّ"، أو على ما اصطلح على تسميته بعريضة المليون توقيع لمطالبة لحود بالاستقالة، وأقيمت المهرجانات والاحتفالات المنقولة على شاشات التلفاز مباشرة على الهواء، وتنقّلت العريضة من قرية إلى منطقة واقعة تحت نفوذ "الشباطيين"، وشيّدت خيمة كبيرة في ساحة الشهداء في وسط بيروت لاستقطاب المواطنين، ودفعت الأموال الكثيرة لتشجيعهم على حضور حفلات التحامل والمسّ بسمعة رئيس الجمهورية، والمسّ بمقام رئاسة الجمهورية الذي هو رمز وحدة الوطن وحامي دستوره، ونشرت الإعلانات على الطرقات، وصرفت ملايين الدولارات لإنجاح هذا الحلم المستحيل، ونفخ في بطن هذه الحملة على أنّها قاربت هدفها "بتنحية لحود آخر رموز الوصاية" كما كانت تقول وسائل إعلام تيّار "المستقبل"، فإذا بالنتيجة تأتي معاكسة تماماً لتصاب هذه الحملة بالفشل الذريع، ويخسر الفاعلون والمحرّضون والمخطّطون والمشاركون والمساهمون، جولة جديدة من المواجهة مع لحود.
واستمال "الشباطيون" الوزيرين المحسوبين على لحود، وهما صهره إلياس المر، وشارل رزق، اللذان لم يكونا ليستلما أيّة حقيبة وزارية لولا دعمه لهما، واستقبل هذه الطعنة في الظهر برباطة جأش ورحابة صدر ولم تجبره على التنازل عما يراه حقّاً.
خسارة جعجع
وبالغ جعجع في تهديداته للنيل من لحود، وادعى في سياق تحامله بأنّ الأخير لن يبقى أكثر من أسبوعين في قصر بعبدا، فإذا به يبقى حتّى الثانية الأخيرة من ولايته الممدّدة برغبة سياسية وشعبية عارمة، ويخسر جعجع رهانه كما في الكثير من رهاناته السابقة.
كثيرة هي الصفعات التي وجّهها الرئيس لحود إلى هؤلاء "الشباطيين" فمنعهم من التمادي في خرق الدستور، وهتك القانون في غير ملفّ وقضية وصفقة، واعتبر أفعال حكومتهم التي ترأسها فؤاد السنيورة، وقراراتها ومراسيمها باطلة، طاعناً في شرعيتها وفي إمكانية بقائها على قيد الحياة.
صدمة حمادة
على أنّ اللبنانيين لن ينسوا الصدمة التي تلقاها الوزير مروان حمادة في إحدى جلسات مجلس الوزراء حيث اغتنم وجود الكاميرات التلفزيونية في القاعة وباشر بالحديث قبل أن تخرج لكي تتمكّن من تصوير المشهد، محاولاً تعنيف لحود الذي استدرك الأمر، وردّ عليه معنفاً، بكلمته الشهيرة "اقعود..."، وانفرط عقد الجلسة.
لقد أمضى لحود حكمه حتّى النهاية من دون كلل أو ملل، وكان ماضياً في قراراته وصمد وصمد، بينما "هم فلّوا وهو لم يفلّ" كما عبّر سماحة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله في خطابه الشهير في تكريم الطلاّب المتفوّقين في العام 2007، والذي أضاف أنّ لحود كان "زلمي".
حقّاً إنّ لحود "زلمي" بكلّ ما للكلمة من معنى.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1242 ـ 23 تشرين الثاني/نوفمبر2007