ارشيف من :أخبار لبنانية
خريطة فلسطين بعد 62 عاما على النكبة
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات/ الكاتب: نواف الزرو
يستحضر الفلسطينيون ومعهم العروبيون كلما حلت الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية واغتصاب فلسطين وإقامة تلك الدولة الصهيونية على خرابها، في مقدمة ما يستحضرونه ما سمي بـ"وعد بلفور" وبعده بثلاثين عاما "قرار التقسيم"، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني، فالعلاقة الجدلية ما بين الوعد والقرار قوية عميقة إستراتيجية، فلولا الوعد لما جاء التقسيم، ولولاهما معا لما أنجبت دولة "إسرائيل"، ولولا الاحتضان البريطاني الاستعماري الكامل الشامل للمشروع الصهيوني لما ضاعت فلسطين.
جدلية العلاقة بين وعد بلفور وقرار التقسيم
وتبدأ حكاية الغرام والعشق البريطاني بالمشروع الصهيوني و"الوطن القومي لليهود" وبـ"إسرائيل" على نحو حميمي وعلى وجه الحصر في 1917، حينما اصدر وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 تصريحا مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937)، يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".
لذلك يمكن أن نوثق بداية "أن دولة اليهود أسست في لندن"، فبيان وزير الخارجية البريطاني بلفور الصادر في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 في ذروة الحرب العالمية الأولى، منح اليهود -رغم أنهم شكلوا أقلية صغيرة في فلسطين في ذلك الحين- "وطنا قوميا ودولة مصطنعة مخترعة على حساب فلسطين"، وفي نظرة إلى الوراء كان هذا البيان البلفوري هو الإنجاز التاريخي الأهم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في عملها من أجل إقامة الدولة، والوعد حرف وزور التاريخ والجغرافيا في الشرق الأوسط وطرح الفكرة الصهيونية الهامشية كخيار واقعي في السياسة العالمية، واستمرارية ذلك تجسدت في الإنجاز الصهيوني الثاني حيث قامت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد ذلك بثلاثين عاما في أكتوبر/تشرين الأول 1947 بتأييد قرار التقسيم وإقامة دولة يهودية".
و"كان الوعد حاضرا بعد ذلك في مختلف المؤتمرات والتحالفات الاستعمارية من مؤتمر سان ريمو 1920 الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، إلى عصبة الأمم التي صادقت في يوليو/تموز 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني، فالصك كان يتضمن في مقدمته نص تصريح وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذ الوعد، كما كان الوعد حاضرا في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أمميا، حيث ضمنت مقدمته نص تصريح وعد بلفور أيضا".
ليصل إلى ذروته التطبيقية بتمرير قرار التقسيم في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1947.
تواطؤ الأمم المتحدة في إنتاج قرار التقسيم
وتفيد الوثائق المتسربة من أرشيف الأمم المتحدة، بأن تلك المنظمة الأممية وقفت سرا إلى جانب قرار التقسيم البريطاني وإلى جانب تلك الدولة الصهيونية المصطنعة بالقوة، بل إن المؤرخ الإسرائيلي الدكتور إلعاد بن درور كان كشف النقاب في ذكرى صدور "قرار التقسيم" في 29 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1947، عن "أن الأمم المتحدة أعدت مخططا لتشكيل مليشيا يهودية مسلحة ومزودة بطائرات حربية بهدف تنفيذ القرار بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فقط"، وكشف المؤرخ الإسرائيلي عن ذلك بعد اطّلاعه على وثائق سرية في الأمم المتحدة، على مدى العام 2007، وكانت مصنفة على أنها سرية لكن الأمم المتحدة أزالت مؤخرا صفة السرية عنها وفتحتها أمام الجمهور.
وأكد بن درور على أن "الأمم المتحدة أهملت نصف قرار التقسيم أي أنها أهملت فكرة إقامة الدولة العربية، وقد كانت الفكرة تنفيذ إقامة الدولة اليهودية فقط وأن تعمل الأمم المتحدة في وقت لاحق على إقامة الدولة العربية"، وقال بن درور "إنه بموجب مخطط اللجنة التنفيذية فإن المهمة الأساس للمليشيا اليهودية كان فرض سيطرة الدولة اليهودية على العرب الذين بقوا فيها والذين كان عددهم في الدولة اليهودية، وفقا لخارطة التقسيم، مطابقا تقريبا لعدد اليهود".
تصوروا....!
هذه الحقيقة الكبيرة الضائعة...!
يضاف إلى ذلك ما كان أكده بحثان تاريخيان إسرائيليان كانا صدرا بمناسبة الذكرى الستين لقرار التقسيم من "أنه لولا النشاط البريطاني في فلسطين والمنطقة وضغوط يهود الولايات المتحدة لما قامت إسرائيل، ولتغيّر وجه التاريخ في المنطقة"، إذ أكد المؤرخ موطي جولاني من جامعة حيفا "أن البريطانيين حين امتنعوا عن التصويت على قرار التقسيم في 29/11/1947 بدعوى أن المشروع غير مقبول من الطرفين، تبنوا خطة تقسيم بديلة"، وفي بحث آخر قال المؤرخ زوهر سيغف من جامعة حيفا "إنه لولا تدخل اليهود في الولايات المتحدة قبيل التصويت على قرار التقسيم لكان من المرجح أن إسرائيل ما كانت ستقوم".
وعن إستراتيجية القرار الأممي قال شلومو نكديمون في يديعوت أحرونوت: "اعتقد وزير الخارجية الإسرائيلي الأول موشيه شريت: "أنه لولا قرار الأمم المتحدة في العام 1947 لما قامت الدولة في العام 1948".
وفي أعقاب القرار كما هو معروف، انقضت التنظيمات الإرهابية الصهيونية تحت مظلة القرار الأممي وبحماية ودعم البريطانيين على كامل فلسطين، فسطت سطوا مسلحا إجراميا مجازريا في وضح النهار على الوطن العربي الفلسطيني.
فقامت التنظيمات والدولة الصهيونية على خراب وتدمير فلسطين وتهجير أهلها، ولا تزال تواصل تدمير وشطب عروبة فلسطين تاريخا وحضارة وتراثا، كما قامت ولا تزال تواصل تهجير الشعب الفلسطيني وتهويد أرضه ووطنه وتحويله إلى "وطن يهودي" وإلى "دولة يهودية نقية" يسعون في هذه الأيام باستماتة من أجل ابتزاز الشرعيات الفلسطينية والعربية لها.
بل إنهم يشنون هجوما إستراتيجيا شاملا بهدف شطب فلسطين بكل ملفاتها وعناوينها إلى الأبد.
تغير وجه خريطة فلسطين
الحقيقة الكبيرة الساطعة التي نوثقها ونحن اليوم أمام ذكرى النكبة، أن ذلك القرار الصادر عن الأمم المتحدة الذي استند بالأصل إلى "إعلان- وعد بلفور" أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق"، وأنه كان قرارا ظالما مجحفا وقف وراءه الانتداب الاستعماري البريطاني بكل ثقله، وأسفر عن قضية نكبة القرن المتواصلة والمفتوحة والمركبة أضعافا مع الزمن، وما بين الوعد والتقسيم تراكمت عوامل تغيير وجه فلسطين وقلب الموازين الجغرافية والسكانية عبر سياسات الاقتلاع والترحيل والإحلال المستندة إلى سياسات التطهير العرقي.
فبعد أن كانت فلسطين بكاملها من بحرها إلى نهرها عربية الجذور والتاريخ والحضارة والتراث والثقافة والمعالم على كل المستويات، أخذت تتحول منذ الوعد تدريجيا لتنتقل خريطتها الجغرافية والسكانية من عربية إلى صهيونية، لتغدو اليوم ونحن في فضاء الذكرى الثانية والستين للنكبة، تحت السيطرة الصهيونية الإستراتيجية الكاملة من البحر إلى النهر.
ففي فلسطين المحتلة 1948 على سبيل المثال وهي عنوان النكبة والتهجير وتهويد المكان الفلسطيني تؤكد كل التقارير والدراسات العربية والعبرية على "أن الحركة الصهيونية مجسدة بدولة إسرائيل تواصل "عبرنة" و"تهويد" أكثر من 8400 اسم عربي لمواقع جغرافية وتاريخية".
وحسب كتاب "المواقع الجغرافية في فلسطين - الأسماء العربية والتسميات العبرية" وهو من تأليف الدكتور شكري عراف وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فلم يكن في فلسطين حتى غزو الصهيونية لها سوى خمسين اسما عبريا فقط، وأن التوراة اليهودية لا تشمل بالأصل سوى 550 اسما لأمكنة مختلفة في فلسطين وهي في الأصل أسماء كنعانية وبادر الصهاينة إلى تحوير الأسماء الأصلية أو وضع أسماء عبرية على المواقع الفلسطينية، وهكذا تحولت "بئر السبع" مثلا إلى "بئير شيبع" وطبريا إلى "طبيريا" والخضيرة إلى "حديرة" والمطلة إلى "مطولة" وصفورية إلى "تسيبوري" وعكا إلى "عكو" وهكذا.
ويتحدث الكتاب عن أن "الصهيونية غيرت وهودت 90% من أسماء المواقع في فلسطين".
وليس ذلك فحسب، فدولة الاحتلال تواصل من جهة أولى مخططات تهويد ما تبقى من المواقع والأراضي الفلسطينية في فلسطين 1948 سواء في النقب أو الجليل المحتلين، بينما تشن من جهة ثانية هجوما تهويديا إستراتيجيا أيضا على المواقع والأراضي العربية في الضفة الغربية ويتركز هذا الهجوم إلى حد كبير على مدينتي القدس والخليل وقد امتد في الآونة الأخيرة إلى منطقة الأغوار الإستراتيجية.
ولكن دولة الاحتلال لا تكتفي بتهويد الجغرافيا والتاريخ وإنما تخطط وتبيت وتسعى لاقتلاع وترحيل من تبقى من أهل فلسطين بوسائل مختلفة، أو تسعى لإلغاء وجودهم تاريخيا ووطنيا وسياسيا وحقوقيا وحشرهم في إطار كانتونات ومعازل عنصرية هي في الصميم معسكرات اعتقال ضخمة قد يطلق عليها اسم "دولة أو دويلة فلسطين" أو "كيان فلسطيني" أو ربما تبقى بسقف "الحكم الذاتي الموسع".
جدلية الدولة الفلسطينية على أجندة النكبة والتقسيم
وانتقالا من هذا المشهد الفلسطيني المنتج جراء الوعد والتقسيم، إلى مسألة الدولة العربية في فلسطين، فكلما يثار استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كما يجري في الآونة الأخيرة، تتجدد الأسئلة والتساؤلات الكبيرة الجذرية على أجندة قرار التقسيم ومسؤولية الفلسطينيين والعرب التاريخية في عدم إحباط المشروع الصهيوني أولا، وفي عدم إقامة الدولة العربية آنذاك ثانيا.
فقد كان من المفترض وفق قرار التقسيم على ما فيه من ظلم وسطو على معظم الوطن الفلسطيني، أن يعطى الشعب الفلسطيني نحو 44% من فلسطين، لتقام الدولة الفلسطينية عليها:
فما الذي حدث إذاً؟
رفض الفلسطينيون والعرب مشروع التقسيم وإقامة الدولة الصهيونية وكانوا على حق، ولكنهم لم يعملوا على إقامة الدولة العربية، بل استسلموا للأمر الواقع وتأقلموا مع سطوة المشروع والدولة الصهيونية.
فضاعت فلسطين وتشرد أهلها وضاعت الحقوق والدولة العربية في فلسطين معها.
ولذلك نتساءل اليوم بعد اثنين وستين عاما على القرار:
- هل تضيع الحقوق والأوطان هكذا مع التقادم؟
- أم أنها يجب أن تعود مركبة؟
- ألم تنضج القناعات الدولية بإقامة الدولة الفلسطينية؟
- ألم تنضج الظروف المحلية والإقليمية والدولية لتحقيق هذا الاستحقاق المتأخر اثنين وستين عاما؟
- الظروف الإسرائيلية الرسمية والشعبية غير ناضجة كما هو واضح للقبول بالدولة الفلسطينية المستقلة، فلماذا يا ترى الرفض الإسرائيلي المطلق للدولة المستقلة؟
- ولماذا تجمع الخريطة السياسية الإسرائيلية على عدم السماح بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة؟
-ثم لماذا تصطف الإدارة الأميركية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن وراء الرفض الإسرائيلي المدجج بالتهديد والوعيد والتدمير ضد الدولة؟
في صدد استحقاق الدولة الفلسطينية -تصوروا- رئيس الدورة الـ63 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المنظمة العالمية ميغيل ديسكوتو بروكمان طالب في العام 2008 وبعد واحد وستين عاما على التقسيم، بالعمل على تطبيق قرار تقسيم فلسطين (181) الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947، إلى دولتين، والعمل بدون تأخير على "تنفيذ الالتزام القديم للأمم المتحدة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة"، وقال في كلمته التي ألقاها بعد انتخابه لمنصب رئيس الجمعية العامة، "إن الفشل الأكبر للأمم المتحدة هو عدم إقامة دولة فلسطينية".
واليوم حينما تعلن السلطة الفلسطينية –وهي الشريك في عملية المفاوضات التي من المفترض أن تقود إلى مصالحة تاريخية مزعزمة- عن اعتزامها التوجه إلى مجلس الأمن لاستحصال اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، تقوم الدنيا الإسرائيلية والأميركية والأوروبية ولا تقعد اعتراضا على هذه النية الفلسطينية.
فيكشفون عن النوايا والأنياب الحقيقية لديهم تجاه استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية.
يزعمون من جهة أولى أن مثل هذه الدولة لن يحصل عليها الفلسطينيون إلا عبر المفاوضات والتسوية، بينما تراوح المفاوضات مكانها منذ نحو تسعة عشر عاما، ويزعمون من جهة ثانية أن الشعب الفلسطيني ليس مؤهلا لإقامة الدولة، وكأنهم قيمون على مقدرات هذا الشعب، ويزعمون من جهة ثالثة أن الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس لا يسمح بإقامة الدولة, وهكذا.
لا شك أن كبرى الكبائر العربية هنا أن الدول والسياسات العربية الرسمية تأقلمت مع الأمر الواقع البريطاني أولا، ثم الأميركي الصهيوني ثانيا، لتنتقل في السنوات الأخيرة ثالثا من موقع اللاءات إلى موقع النعمات في التعاطي مع المشروع الصهيوني ونتاجه على الأرض "إسرائيل".
لم يكن "الوعد البلفوري" ليرى النور. ولم تكن فلسطين لتقسم وتضيع وتغتصب وتهوّد، لو تصدى العرب للوعد ولمشروع التقسيم البريطاني الصهيوني كما يجب.
يستحضر الفلسطينيون ومعهم العروبيون كلما حلت الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية واغتصاب فلسطين وإقامة تلك الدولة الصهيونية على خرابها، في مقدمة ما يستحضرونه ما سمي بـ"وعد بلفور" وبعده بثلاثين عاما "قرار التقسيم"، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني، فالعلاقة الجدلية ما بين الوعد والقرار قوية عميقة إستراتيجية، فلولا الوعد لما جاء التقسيم، ولولاهما معا لما أنجبت دولة "إسرائيل"، ولولا الاحتضان البريطاني الاستعماري الكامل الشامل للمشروع الصهيوني لما ضاعت فلسطين.
جدلية العلاقة بين وعد بلفور وقرار التقسيم
وتبدأ حكاية الغرام والعشق البريطاني بالمشروع الصهيوني و"الوطن القومي لليهود" وبـ"إسرائيل" على نحو حميمي وعلى وجه الحصر في 1917، حينما اصدر وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 تصريحا مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937)، يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".
لذلك يمكن أن نوثق بداية "أن دولة اليهود أسست في لندن"، فبيان وزير الخارجية البريطاني بلفور الصادر في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 في ذروة الحرب العالمية الأولى، منح اليهود -رغم أنهم شكلوا أقلية صغيرة في فلسطين في ذلك الحين- "وطنا قوميا ودولة مصطنعة مخترعة على حساب فلسطين"، وفي نظرة إلى الوراء كان هذا البيان البلفوري هو الإنجاز التاريخي الأهم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في عملها من أجل إقامة الدولة، والوعد حرف وزور التاريخ والجغرافيا في الشرق الأوسط وطرح الفكرة الصهيونية الهامشية كخيار واقعي في السياسة العالمية، واستمرارية ذلك تجسدت في الإنجاز الصهيوني الثاني حيث قامت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد ذلك بثلاثين عاما في أكتوبر/تشرين الأول 1947 بتأييد قرار التقسيم وإقامة دولة يهودية".
و"كان الوعد حاضرا بعد ذلك في مختلف المؤتمرات والتحالفات الاستعمارية من مؤتمر سان ريمو 1920 الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، إلى عصبة الأمم التي صادقت في يوليو/تموز 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني، فالصك كان يتضمن في مقدمته نص تصريح وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذ الوعد، كما كان الوعد حاضرا في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أمميا، حيث ضمنت مقدمته نص تصريح وعد بلفور أيضا".
ليصل إلى ذروته التطبيقية بتمرير قرار التقسيم في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1947.
تواطؤ الأمم المتحدة في إنتاج قرار التقسيم
وتفيد الوثائق المتسربة من أرشيف الأمم المتحدة، بأن تلك المنظمة الأممية وقفت سرا إلى جانب قرار التقسيم البريطاني وإلى جانب تلك الدولة الصهيونية المصطنعة بالقوة، بل إن المؤرخ الإسرائيلي الدكتور إلعاد بن درور كان كشف النقاب في ذكرى صدور "قرار التقسيم" في 29 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1947، عن "أن الأمم المتحدة أعدت مخططا لتشكيل مليشيا يهودية مسلحة ومزودة بطائرات حربية بهدف تنفيذ القرار بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فقط"، وكشف المؤرخ الإسرائيلي عن ذلك بعد اطّلاعه على وثائق سرية في الأمم المتحدة، على مدى العام 2007، وكانت مصنفة على أنها سرية لكن الأمم المتحدة أزالت مؤخرا صفة السرية عنها وفتحتها أمام الجمهور.
وأكد بن درور على أن "الأمم المتحدة أهملت نصف قرار التقسيم أي أنها أهملت فكرة إقامة الدولة العربية، وقد كانت الفكرة تنفيذ إقامة الدولة اليهودية فقط وأن تعمل الأمم المتحدة في وقت لاحق على إقامة الدولة العربية"، وقال بن درور "إنه بموجب مخطط اللجنة التنفيذية فإن المهمة الأساس للمليشيا اليهودية كان فرض سيطرة الدولة اليهودية على العرب الذين بقوا فيها والذين كان عددهم في الدولة اليهودية، وفقا لخارطة التقسيم، مطابقا تقريبا لعدد اليهود".
تصوروا....!
هذه الحقيقة الكبيرة الضائعة...!
يضاف إلى ذلك ما كان أكده بحثان تاريخيان إسرائيليان كانا صدرا بمناسبة الذكرى الستين لقرار التقسيم من "أنه لولا النشاط البريطاني في فلسطين والمنطقة وضغوط يهود الولايات المتحدة لما قامت إسرائيل، ولتغيّر وجه التاريخ في المنطقة"، إذ أكد المؤرخ موطي جولاني من جامعة حيفا "أن البريطانيين حين امتنعوا عن التصويت على قرار التقسيم في 29/11/1947 بدعوى أن المشروع غير مقبول من الطرفين، تبنوا خطة تقسيم بديلة"، وفي بحث آخر قال المؤرخ زوهر سيغف من جامعة حيفا "إنه لولا تدخل اليهود في الولايات المتحدة قبيل التصويت على قرار التقسيم لكان من المرجح أن إسرائيل ما كانت ستقوم".
وعن إستراتيجية القرار الأممي قال شلومو نكديمون في يديعوت أحرونوت: "اعتقد وزير الخارجية الإسرائيلي الأول موشيه شريت: "أنه لولا قرار الأمم المتحدة في العام 1947 لما قامت الدولة في العام 1948".
وفي أعقاب القرار كما هو معروف، انقضت التنظيمات الإرهابية الصهيونية تحت مظلة القرار الأممي وبحماية ودعم البريطانيين على كامل فلسطين، فسطت سطوا مسلحا إجراميا مجازريا في وضح النهار على الوطن العربي الفلسطيني.
فقامت التنظيمات والدولة الصهيونية على خراب وتدمير فلسطين وتهجير أهلها، ولا تزال تواصل تدمير وشطب عروبة فلسطين تاريخا وحضارة وتراثا، كما قامت ولا تزال تواصل تهجير الشعب الفلسطيني وتهويد أرضه ووطنه وتحويله إلى "وطن يهودي" وإلى "دولة يهودية نقية" يسعون في هذه الأيام باستماتة من أجل ابتزاز الشرعيات الفلسطينية والعربية لها.
بل إنهم يشنون هجوما إستراتيجيا شاملا بهدف شطب فلسطين بكل ملفاتها وعناوينها إلى الأبد.
تغير وجه خريطة فلسطين
الحقيقة الكبيرة الساطعة التي نوثقها ونحن اليوم أمام ذكرى النكبة، أن ذلك القرار الصادر عن الأمم المتحدة الذي استند بالأصل إلى "إعلان- وعد بلفور" أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق"، وأنه كان قرارا ظالما مجحفا وقف وراءه الانتداب الاستعماري البريطاني بكل ثقله، وأسفر عن قضية نكبة القرن المتواصلة والمفتوحة والمركبة أضعافا مع الزمن، وما بين الوعد والتقسيم تراكمت عوامل تغيير وجه فلسطين وقلب الموازين الجغرافية والسكانية عبر سياسات الاقتلاع والترحيل والإحلال المستندة إلى سياسات التطهير العرقي.
فبعد أن كانت فلسطين بكاملها من بحرها إلى نهرها عربية الجذور والتاريخ والحضارة والتراث والثقافة والمعالم على كل المستويات، أخذت تتحول منذ الوعد تدريجيا لتنتقل خريطتها الجغرافية والسكانية من عربية إلى صهيونية، لتغدو اليوم ونحن في فضاء الذكرى الثانية والستين للنكبة، تحت السيطرة الصهيونية الإستراتيجية الكاملة من البحر إلى النهر.
ففي فلسطين المحتلة 1948 على سبيل المثال وهي عنوان النكبة والتهجير وتهويد المكان الفلسطيني تؤكد كل التقارير والدراسات العربية والعبرية على "أن الحركة الصهيونية مجسدة بدولة إسرائيل تواصل "عبرنة" و"تهويد" أكثر من 8400 اسم عربي لمواقع جغرافية وتاريخية".
وحسب كتاب "المواقع الجغرافية في فلسطين - الأسماء العربية والتسميات العبرية" وهو من تأليف الدكتور شكري عراف وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فلم يكن في فلسطين حتى غزو الصهيونية لها سوى خمسين اسما عبريا فقط، وأن التوراة اليهودية لا تشمل بالأصل سوى 550 اسما لأمكنة مختلفة في فلسطين وهي في الأصل أسماء كنعانية وبادر الصهاينة إلى تحوير الأسماء الأصلية أو وضع أسماء عبرية على المواقع الفلسطينية، وهكذا تحولت "بئر السبع" مثلا إلى "بئير شيبع" وطبريا إلى "طبيريا" والخضيرة إلى "حديرة" والمطلة إلى "مطولة" وصفورية إلى "تسيبوري" وعكا إلى "عكو" وهكذا.
ويتحدث الكتاب عن أن "الصهيونية غيرت وهودت 90% من أسماء المواقع في فلسطين".
وليس ذلك فحسب، فدولة الاحتلال تواصل من جهة أولى مخططات تهويد ما تبقى من المواقع والأراضي الفلسطينية في فلسطين 1948 سواء في النقب أو الجليل المحتلين، بينما تشن من جهة ثانية هجوما تهويديا إستراتيجيا أيضا على المواقع والأراضي العربية في الضفة الغربية ويتركز هذا الهجوم إلى حد كبير على مدينتي القدس والخليل وقد امتد في الآونة الأخيرة إلى منطقة الأغوار الإستراتيجية.
ولكن دولة الاحتلال لا تكتفي بتهويد الجغرافيا والتاريخ وإنما تخطط وتبيت وتسعى لاقتلاع وترحيل من تبقى من أهل فلسطين بوسائل مختلفة، أو تسعى لإلغاء وجودهم تاريخيا ووطنيا وسياسيا وحقوقيا وحشرهم في إطار كانتونات ومعازل عنصرية هي في الصميم معسكرات اعتقال ضخمة قد يطلق عليها اسم "دولة أو دويلة فلسطين" أو "كيان فلسطيني" أو ربما تبقى بسقف "الحكم الذاتي الموسع".
جدلية الدولة الفلسطينية على أجندة النكبة والتقسيم
وانتقالا من هذا المشهد الفلسطيني المنتج جراء الوعد والتقسيم، إلى مسألة الدولة العربية في فلسطين، فكلما يثار استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كما يجري في الآونة الأخيرة، تتجدد الأسئلة والتساؤلات الكبيرة الجذرية على أجندة قرار التقسيم ومسؤولية الفلسطينيين والعرب التاريخية في عدم إحباط المشروع الصهيوني أولا، وفي عدم إقامة الدولة العربية آنذاك ثانيا.
فقد كان من المفترض وفق قرار التقسيم على ما فيه من ظلم وسطو على معظم الوطن الفلسطيني، أن يعطى الشعب الفلسطيني نحو 44% من فلسطين، لتقام الدولة الفلسطينية عليها:
فما الذي حدث إذاً؟
رفض الفلسطينيون والعرب مشروع التقسيم وإقامة الدولة الصهيونية وكانوا على حق، ولكنهم لم يعملوا على إقامة الدولة العربية، بل استسلموا للأمر الواقع وتأقلموا مع سطوة المشروع والدولة الصهيونية.
فضاعت فلسطين وتشرد أهلها وضاعت الحقوق والدولة العربية في فلسطين معها.
ولذلك نتساءل اليوم بعد اثنين وستين عاما على القرار:
- هل تضيع الحقوق والأوطان هكذا مع التقادم؟
- أم أنها يجب أن تعود مركبة؟
- ألم تنضج القناعات الدولية بإقامة الدولة الفلسطينية؟
- ألم تنضج الظروف المحلية والإقليمية والدولية لتحقيق هذا الاستحقاق المتأخر اثنين وستين عاما؟
- الظروف الإسرائيلية الرسمية والشعبية غير ناضجة كما هو واضح للقبول بالدولة الفلسطينية المستقلة، فلماذا يا ترى الرفض الإسرائيلي المطلق للدولة المستقلة؟
- ولماذا تجمع الخريطة السياسية الإسرائيلية على عدم السماح بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة؟
-ثم لماذا تصطف الإدارة الأميركية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن وراء الرفض الإسرائيلي المدجج بالتهديد والوعيد والتدمير ضد الدولة؟
في صدد استحقاق الدولة الفلسطينية -تصوروا- رئيس الدورة الـ63 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المنظمة العالمية ميغيل ديسكوتو بروكمان طالب في العام 2008 وبعد واحد وستين عاما على التقسيم، بالعمل على تطبيق قرار تقسيم فلسطين (181) الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947، إلى دولتين، والعمل بدون تأخير على "تنفيذ الالتزام القديم للأمم المتحدة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة"، وقال في كلمته التي ألقاها بعد انتخابه لمنصب رئيس الجمعية العامة، "إن الفشل الأكبر للأمم المتحدة هو عدم إقامة دولة فلسطينية".
واليوم حينما تعلن السلطة الفلسطينية –وهي الشريك في عملية المفاوضات التي من المفترض أن تقود إلى مصالحة تاريخية مزعزمة- عن اعتزامها التوجه إلى مجلس الأمن لاستحصال اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، تقوم الدنيا الإسرائيلية والأميركية والأوروبية ولا تقعد اعتراضا على هذه النية الفلسطينية.
فيكشفون عن النوايا والأنياب الحقيقية لديهم تجاه استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية.
يزعمون من جهة أولى أن مثل هذه الدولة لن يحصل عليها الفلسطينيون إلا عبر المفاوضات والتسوية، بينما تراوح المفاوضات مكانها منذ نحو تسعة عشر عاما، ويزعمون من جهة ثانية أن الشعب الفلسطيني ليس مؤهلا لإقامة الدولة، وكأنهم قيمون على مقدرات هذا الشعب، ويزعمون من جهة ثالثة أن الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس لا يسمح بإقامة الدولة, وهكذا.
لا شك أن كبرى الكبائر العربية هنا أن الدول والسياسات العربية الرسمية تأقلمت مع الأمر الواقع البريطاني أولا، ثم الأميركي الصهيوني ثانيا، لتنتقل في السنوات الأخيرة ثالثا من موقع اللاءات إلى موقع النعمات في التعاطي مع المشروع الصهيوني ونتاجه على الأرض "إسرائيل".
لم يكن "الوعد البلفوري" ليرى النور. ولم تكن فلسطين لتقسم وتضيع وتغتصب وتهوّد، لو تصدى العرب للوعد ولمشروع التقسيم البريطاني الصهيوني كما يجب.