ارشيف من : 2005-2008
روسيا برائحة سوفياتية
عندما يقارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين الأزمة التي يثيرها نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا وتشيكيا، وتلك التي أثارها نشر الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا عام 1962، فإنه يرفع سقف التهديد إلى مستوى لا سابق له منذ ذلك الحين في العلاقات الأميركية ـ السوفياتية، وبعدها الأميركية ـ الروسية: تلك الأزمة كانت قد وضعت العالم على شفير حرب "حرارية"، كما كانوا يقولون في تلك الأيام.
ويأتي كلام بوتين في سياق هجوم عنيف كان قد شنه على السياسة الخارجية الأميركية في شباط/ فبراير الماضي، حيث وصفها بالامبريالية وغيرها من النعوت التي بررت كلام المحللين والمعلقين عن عودة العالم إلى حرب باردة جديدة. ثم تلت ذلك تهديدات بتصويب الصواريخ الروسية إلى العواصم الأوروبية، واتخذت إجراءات باتجاه توجه روسيا نحو تجديد قوتها العسكرية، وأعطت دفعات إلى الأمام مع المناورات والتحالفات التي تقيمها روسيا مع بلدان جوارها الشرقي في الصين وآسيا الوسطى. ثم جاءت قمة البلدان المشاطئة لبحر قزوين التي عُقدت الشهر الماضي، لتضع إيران في أجواء ما تتعرض له من تهديدات عسكرية أميركية وإسرائيلية، داخل ما يشبه الحلف الاستراتيجي بينها وبين بلدان المنطقة، بما فيها روسيا.
وكان الروس قد بدأوا منذ مدة إعادة النظر في اتفاقية الحد من التسلح التقليدي في أوروبا، وانتهوا إلى إعطائها دفعة جديدة إلى الأمام مع تصويت الدوما على تجميد العمل باتفاقية الحد من انتشار القوات التقليدية في أوروبا، قبل أن يتبعوا ذلك بتهديد بنشر أحدث ما يمتلكونه من صواريخ في بيلاروسيا رداً على نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا وتشيكيا.
وكانت اتفاقية الحد من نشر الأسلحة التقليدية قد وُقعت بين روسيا وبلدان الأطلسي عام 1991، وجرى تعديلها في اسطنبول بتاريخ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999.. ولكن بلدان الأطلسي لا تزال ترفض المصادقة عليها بحجة الوجود العسكري الروسي في كل من جورجيا ومولدافيا. ومع وصول الأمور إلى المستوى الذي وصلت إليه، سيكون بإمكان الروس بعد انتهاء مهلة الـ150 يوماً التي بدأت في 14 تموز/ يوليو الماضي، أن يحركوا جيوشهم على أراضيهم بعيداً عن الالتزامات "غير العادلة التي تفرضها الاتفاقية". وفي هذا الإطار يؤكد الروس أن إقامة قواعد عسكرية واستحداث قوات جديدة وتعزيز وجودهم العسكري على الحدود مع أوروبا أصبح ممكناً بغية الدفاع عن بلادهم وأمنها، في وقت ينذر فيه تصاعد الأحداث في كوسوفو بمواجهات ممكنة فيما لو أعلنت هذه الأخيرة استقلالها من جانب واحد استجابةً منها للإملاءات الأميركية.
وإلى جانب التصعيد ذي الطابع العسكري، تشهد الساحة تصعيداً سياسياً في أجواء التحضير للانتخابات التشريعية الروسية التي ستجري بعد أقل من أسبوعين، في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر القادم. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب "روسيا الموحدة" الذي يقوده الرئيس بوتين سيحقق فوزاً كاسحا في تلك الانتخابات التي لن تحمل إلى الدوما غير مرشحيه ومرشحي الحزب الشيوعي الذي يتوقع فوزه بـ14 في المئة من الأصوات، في ظل تشريع روسي لا يسمح للتشكيلات التي لا تحصل على نسبة 7 في المئة من الأصوات بالوصول إلى المجلس النيابي (الدوما). وقد تراجعت منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عن إرسال بعثة لمراقبة الانتخابات بسبب العوائق التي تفرضها روسيا، وفق ما ورد في بيان للمنظمة. ومع هذا التطور كثفت وسائل الإعلام الغربية من حملاتها المعادية لروسيا، مشيرة الى ما اعتبرته تدهوراً في المناخ السياسي الروسي وتراجعاً في الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. كما نالت تلك الحملات من وعي الشارع الروسي عندما وصفت الناخبين الروس بأنهم قليلو التسييس وراضون عن تحسن أوضاعهم الاقتصادية في ظل بوتين. وكأن الديمقراطية التي يراد فرضها من الغربيين على سائر العالم لا يستقيم أمرها إلا في ظروف الفقر والدمار الاقتصادي بالشكل الذي كانت عليه روسيا قبل بوتين، يوم كانت مسرحاً للرأسمالية المتوحشة التي كان أربابها يهربون إلى مصارف بلدان الغرب ما يزيد على 50 مليار دولار سنوياً. ولعل أهم ما يزعج الغرب حالياً هو احتمال إدخال إصلاحات دستورية بهدف إبقاء الرئيس بوتين في قمة السلطة، في الانتخابات الرئاسية المقررة في آذار/ مارس القادم.. وهو احتمال بات شبه مؤكد في ظل التظاهرات التي تخرج يومياً في المدن الروسية لمطالبة بوتين بالعدول عن نيته في التنحي عن الرئاسة. وسواء تعلق الأمر بالتصعيد ذي الطابع العسكري أو بتطورات السياسة الداخلية الروسية، فإن روائح سوفياتية تهب من روسيا اليوم على أنوف المراقبين الغربيين.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1242 ـ 23 تشرين الثاني/نوفمبر2007