ارشيف من : 2005-2008
اختلاط أوراق في الساحة المسيحية: تقدم واضح لعون واندحار لذيول 14 آذار
كان جلياً أن زيارتي رئيس تيار "المستقبل" النائب سعد الدين الحريري، ومن ثم رئيس الحكومة اللاشرعية فؤاد السنيورة إلى بكركي بعد ساعات معدودة على التيقن من حصول "الفراغ الرئاسي" وتهافت كل المحاولات التي بذلت لانتخاب رئيس توافقي نجحت إلى حد ما في تهدئة خواطر البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير وبلسمة الجروح التي أثخنت وجدانه وهو يرى بأم العين عدم تقيد من يهمهم الأمر باللائحة الرئاسية التي أُجبر قسراً على وضعها، بأي من الأسماء الواردة فيها، لكنهما (أي الزيارتين) لم تحولا أبداً دون "حقن" الشارع المسيحي بعوامل الإحباط المتجدد.
فأمام لحظة خلو المنصب المسيحي الأول في هرم السلطة من شاغله للمرة الأولى منذ تأسيس الكيان اللبناني، كانت الذاكرة المسيحية الجماعية، تستعيد صوراً ومشاهد تؤكد صدقية ما حذرت منه القوى المعارضة منذ أكثر من عام، وهو أن الفريق القابض على السلطة منهم، والرافض لأي من مطالب مشاركة الآخرين في قراراتها، انما يسعى ويُدبر في ليل خطة ترمي لتأكيد هيمنته على مقاليد هذه السلطة والاستئثار بها والاستحواذ عليها.
وفق المعلومات المنقولة تباعاً من الصرح البطريركي في بكركي فإن البطريرك صفير بقي طويلاً على عبوسه وتجهمه، وهو يستمع من زائريه تبريرات واهية وحججاً ضعيفة فحواها ان الفراغ الرئاسي الحاصل، أمر موقت وعابر، وبالتالي لن ينعكس سلباً على مقام الرئاسة الأولى.
ولم يعد خافياً، أن زائرَي بكركي كانا يبذلان جهدهما لإنقاذ ما تبقى من ماء وجوه ما صار يعرف في القاموس السياسي اللبناني بـ"مسيحيي 14 آذار"، وللحيلولة قدر الإمكان دون تهاوي شعبية هؤلاء الذين صاروا في عُرف الغالبية الساحقة من الشارع المسيحي، وفي نظره يرمزون إلى أمرين:
الأول: العمل على تغطية الهدف المزمن والمضمر لدى فريق 14 آذار بكل أطيافه، وهو بلوغ مرحلة الفراغ الرئاسي ليتحقق لهم إمساك السنيورة وحكومته اللاميثاقية بقرار السلطة من دون منازع وشريك.
وبالطبع يأتي هذا الأمر تتويجاً لسياق طويل بدأ عملياً بمحاصرة مُحكمة للرئاسة الأولى والضرب عرض الحائط بكل قراراتها ومراسيمها التي أصرّت على لا شرعية الحكومة ولا دستورية القرارات التي اتخذتها منذ مغادرة الوزراء الشيعة صفوفها.
الثاني: سقوط كل تهديداتهم وتحذيراتهم، وفحواها عزمهم على انتخاب رئيس جديد يحول دون الفراغ ولو بنصاب النصف زائد واحد.
فلقد تبين بالبرهان الساطع والدليل القاطع ان مسيحيي 14 آذار، إنما هم مجموعة من اللائذين بحمى "قوى 14 آذار"، وأنهم ليسوا إلا "ديكوراً" متنقلاً يؤمّن لهذا الفريق غطاء مسيحياً عند الحاجة.
كما لم يُعد خافياً أن فريق الأكثرية الوهمية، شاء أن يكون الفراغ الرئاسي الذي عمل له لكي يُحرج "التيار الوطني الحر" ورئيسه النائب العماد ميشال عون عبر تحميله مسؤولية الفراغ وإظهاره بمظهر العاجز عن الفعل والقاصر عن اجتراح الرد على خطوة افراغ الرئاسة الأولى من شاغلها ومن مضمونها وهالتها.
وفي السياق نفسه اتضح لاحقاً أن الذين أرادوا بلوغ درك الفراغ، أرادوا أيضاً إغراق الساحة المسيحية في صراعات وخلافات من شأنها أن تخلط الأوراق فيها، وأن تحاصر العماد عون وتياره. لكن رياح الأمور سارت لاحقاً بخلاف ما تشتهيه سفن أركان قوى 14 آذار وراعيتهم الإدارة الأميركية وسفيرها في بيروت جيفري فيلتمان، إذ سرعان ما أخذ العماد عون المبادرة، وعمل من خلال جملة خطوات عملية ناجحة على التأكيد على أن مصدر الإحباط والتململ في الساحة المسيحية، إنما هو سياسة المجموعة المتحكمة بقرار السلطة في لبنان، التي تضع نصب عينها تحطيم أي ممانعة لخططها عند أي مجموعة لبنانية، وبالتالي تعويد المسيحيين أولاً على التطبع مع حالة "الفراغ الرئاسي" حتى يتأمن لها الإتيان برئيس للجمهورية يكون بحجم قبضة يدها، ومن نسيجها، ويسهل لها سبل الانقضاض على السلطة نهائياً.
استطاع العماد عون بمبادرة المشاورات المكثفة التي بدأها بعد أقل من 48 ساعة على خلو سدّة الرئاسة الأولى أن يعيد خلط الأوراق فعلاً على الساحة المسيحية، ولكن بعكس الاتجاه الذي اراده فريق الأكثرية المتحكمة، فقد سارعت غالبية الشخصيات والقوى والهيئات المسيحية المحايدة وغير الدائرة في فلك 14 آذار، بالتقاطر إلى الرابية، والدخول مع العماد عون في نقاش جدي حول تحديد السبل الآيلة إلى التعجيل في ملء الفراغ على مستوى الرئاسة الأولى لكي لا تنجح الجهة التي سعت عامدة متعمدة لإفراغه في تطبيع الفراغ إلى أجل غير مسمى.
وبمعنى آخر بدا جلياً أن عون تحول إلى مرجعية سياسية حقيقية للشارع المسيحي بجمهوره العريض وبشخصياته وقواه الوازنة التي تمتلك تراثاً سياسياً محترماً.
وهكذا واجه عون محاولات محاصرته وعزله بهجوم مضاد منسق بدأ عملياً بالمشاورات المكثفة، وسيستكمل بمزيد من الخطوات السياسية والعملية.
ولم يعد سراً القول وفق كل المصادر، إن هذا الهجوم، إنما يحظى بتأييد ضمني من البطريركية المارونية، لا بل إن المصادر عينها تذهب الى القول بأن بكركي وجهت أكثر من رسالة إلى من يعنيهم الأمر في داخل الشارع المسيحي وخارجه، فحواها أن عون ليس وحده هذه المرة مسيحياً.
وليس بعيداً عن ذلك قول المصادر ذاتها بأن بكركي خففت بهذه الرسالة إلى حد ما من منسوب الاستياء العالي الذي ألقى بظلاله الثقيلة على التاريخ المسيحي في أعقاب استقبال البطريرك للرئيس السنيورة في اليوم الأول لفراغ سدة الرئاسة الأولى.
عملياً أرست حركة العماد عون لحظة الفراغ الرئاسي أسس معادلة سياسية جديدة في داخل الشارع المسيحي، جوهرها أن هذا الشارع لن يستكين بعد الآن لكل محاولات إقناعه بالتعايش مع مرحلة الفراغ الرئاسي ومقتضياتها، وإقناعه بمساكنة الركود السياسي الذي يتيح لحكومة السنيورة والفريق الحاضن لها استكمال ما بدأته منذ فترة.
والواضح أن درجة الإحراج التي سببتها حركة العماد عون لمسيحيي 14 آذار دفعتهم إلى الخروج عن صمتهم ومحاولة اللحاق به ومجاراته، إذ أن الرئيس أمين الجميل سارع إلى اطلاق خطاب، حاول فيه جاهداً الإيحاء بأنه غير "متواطئ" مع المتواطئين لتغطية الفراغ الرئاسي.
واللافت في هذا الأمر أن بقية أركان هذا الفريق (مسيحيي 14 آذار) اتبعوا نهجاً سياسياً قوامه الآتي:
1 ـ اظهار ان تحرك العماد عون هو ضد توجه بكركي ويتناقض كلياً مع رغبات سيدها، لا بل ان قائد القوات اللبنانية سمير جعجع وأبواق فريقه، حاولوا جاهدين تصوير هذا التحرك وكأنه يهدف إلى منافسة بكركي، وأخذ دورها المرجعي السياسي والروحي.
2 ـ التقليل من شأن هذا التحرك واعتباره حركة بهلوانية فلكلورية ترمي في أعماقها إلى تعويم العماد عون لنفسه ولتياره، وهذا ما ظهر جلياً في فلتات لسان أعضاء ما تبقى من لقاء قرنة شهوان المتداعي والمنحل.
3 ـ عندما أخفق هذا الفريق في سرقة النجاحات التي حققها تحرك عون وفي التقليل من حجم اعتراضه على "الفراغ" الرئاسي، انتهج سياسة أخرى فحواها اعادة الاعتبار إلى مسألة ترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان للرئاسة الأولى، والإيحاء بأن هذا الأمر لم يعد موضع رفضه كما في السابق، وأن بالإمكان الأخذ به وتجاوز العراقيل الدستورية الكفيلة بتحقيقه من خلال القبول بتعديل الدستور.
وبصرف النظر عن حقيقة تبني مسيحيي 14 آذار والفريق نفسه، لترشيح العماد سليمان للرئاسة الأولى، فإن الجلي في الأمر أن هذا الفريق يريد اعادة خلط الأوراق في الساحة المسيحية وسحب البساط من تحت أقدام العماد عون، وسحب الأضواء المسلطة على تحركه المجدي إلى مكان آخر.
وهكذا فإن على مسيحيي 14 آذار ان يواجهوا من الآن فصاعداً نقمة الشارع المسيحي العارمة عليهم بفعل تواطئهم المفتوح مع الفريق العامل على الفراغ أصلاً، وأن يكونوا في موقع الدفاع الصعب عن مواقعهم في الساحة المسيحية التي يقضمها تقدم العماد عون وتياره.
والى جانب ذلك عليهم أن يواجهوا عاجلاً أم آجلاً حالة الضمور وإخفاقات الرهانات التي يعيشها فريق 14 آذار نفسه بعدما شهد في الشكل والمضمون تصدعاً وتبايناً في الرؤى إذ أدرك بعض أركانه ان في الأفق بوادر مرحلة مختلفة تماماً تحمل في طياتها نُذر تهافت الرهانات السابقة.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد 1243 ـ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007