ارشيف من : 2005-2008

عروج الفرسان الثلاثة :الشهيد القائد محمد وهبي سرور "جهاد العاملي" : صهوة الفرس

عروج الفرسان الثلاثة :الشهيد القائد محمد وهبي سرور "جهاد العاملي" : صهوة الفرس

هم ثلاثة من الفرسان الذين بكّروا الفروسية في ساحات المقاومة، بهم يمكنك أن تؤرخ صدى الطلقات الأولى، وسيرة القافلة الأولى، والتدرج الزمني لتطور مشروع المقاومة تأسيساً وهجرة وصبراً وإعداداً وإمداداً ودعماً وانتصارات من العام 1982 حتى الانتصار الإلهي في آب 2006.
إنهم من العاشقين الذين لا تستطيع البوح بكل ألوان عشقهم، ولا الحديث عن أسرار الصلاة التي أدّوها في المواقع والخطوط الأمامية للمجاهدين.
إنهم باختصار ثلاثة، "ساجد الدوير" قائد الخاصات من رجال الله، و"جهاد عيتا" ناقل البارود إلى مقالع الصوّان في جبال المقاومة، و"الحاج قاسم" "رفيق الاستشهاديين وحارس قديم لعمامتي السيد عباس الموسوي والشيخ أبي ذر" فرسان ثلاثة، امتطوا جياد النصر أيام الوعد الصادق، وعرّجوا إلى حيث ينتظرهم ركب من آل البيت (ع) والصديقين والشهداء.

بين حقول التبغ في "عيتا الشعب" وتلال فلسطين مسافة بيدر كان الحاج وهبي عبد الحميد سرور يُسرج اليه فرسه كل صباح لحراثته وبذره.
يومها كان العام 1970، وكانت المناوشات بين الفدائيين الفلسطينيين والجنود الصهاينة تأخذ شكلاً من الهجمات العسكرية، السبق فيها كان دائماً للمحتل الذي كان يجتاج بوحدات الكوماندوس القرية ليهجر أهلها، فلا سلاح يومها يعلو فوق سلاح المحتل.

في ذلك العام، وفي بيت متواضع في عيتا، وتحت "السدّة" حيث كانت تختبئ الزوجة خوفاً من قرقعة المدافع، ولد للعائلة مولود ذكر أسمياه "محمد"، سرعان ما حمله أبوه معه نازحاً بعائلته نحو الصرفند هرباً من بطش الصهاينة، لكنه سرعان ما كان يعود إلى قريته مدفوعاً بالحنين إلى محراثه الذي كان يمشط به التراب كي يبقى التراب مطمئناً إلى ساكنيه، وبين المحراث وأوراق التبغ كان ثمة صبي اسمه محمد يدب بين الأثلام بسنواته العشر، فيرفعه أبوه إلى صهوة الفرس أثناء حراثته، ليرنو الصبي بعيداً سائلاً عن أولئك الرجال الذين يدخلون من "خلة وردة" في عيتا مدججين بالسلاح، يدوسون بآلياتهم كل البيادر، ليجيبه الأب بأنهم جنود صهاينة، وأنهم لصوص ومجرمون، فسأل الصبي عندها أبيه، و"متى سيرحلون عن أرضنا"، فيجيب الأب مع تنهيدة بعيدة "ان شاء الله يأتي في يوم من يقدر أن يطردهم ويبعدهم عنّا".
حدث ذلك العام 1980، ليحدث بعدها بعامين الاجتياح الصهيوني الذي أسقط كل البنادق واستباح كل البيادر، ورفع فوق نهر الليطاني راية الغزاة وحلم  بلاد "ما بين النهرين".
كان لاجتياح العام 1982 وقع الصدمة على اللبنانيين عامة وأبناء جبل عامل خاصة، حيث وصل الاجتياح الى قلب بيروت، ليحدث بعدها انسحابات تدريجية أمام ضربات المقاومة انتهت بشريط حدودي أقام فيه الصهاينة جداراً من العملاء الذين راحوا ينكلون بالساكنين ترغيباً بالعمالة، وترهيباً بالاعتقال، عندها اختار "أبو علي" الرحيل عن عيتا على العمالة بعدما ضغط عليه العميل أحمد شبلي، فهاجر الى الصرفند، ثم انتقل الى الضاحية الجنوبية لبيروت متنقلاً في حزام الحرمان  فيها بين حي السلم والليلكي، حيث سكن ابنه البكر علي.
وجاء العام 1987 ليشكل عام النضج المقاوم عند محمد وبداية انخراط في مشروع المقاومة الإسلامية، حيث سكن عند أخيه علي في حي السلم منهياً دراسته الجامعية متعرفاً الى فتاة مؤمنة هي هناء سيف الدين التي وجد فيها اطمئناناً على دينه وإيماناً يوائم بساطة عيشه، ففاتحها بالزواج به ملمحاً لها عن جانب من حياته المحفوفة بعناوين الجهاد وقساوة العيش، فوافقت وهي تخبئ في صدرها فرحاً كبيراً، كيف لا وقد وهبها الله ما كانت تتمناه، رجلاً بكل ما للرجال من معنى، مقاوماً مؤمناً مجاهداً، وكفاها بذلك شرفاً، فاختارت قرآناً مقدماً وحجة مؤخرة الى أقرب الأجلين، اختار محمد وزوجته بيتاً وأثاثاً كانا أسوة بزواج السيدة الزهراء (ع) وعقدا قرانهما في العام 1992 عند سماحة السيد حسن نصر الله الذي كان استلم حينها مقاليد الأمانة لحزب الله خلفاً  لسيد شهداء المقاومة الإسلامية عباس الموسوي(رض).
مع الأشهر والسنوات الأولى للزواج بدأ محمد مشوار الترحال من منطقة الى أخرى بفعل عمله المقاوم الذي كبر معه سريعاً بفعل همته العالية وإخلاصه لله، ونظراً لطبيعة ذلك العمل انتقل من منطقة الليلكي الى جبل عامل ليسكن بداية في دير قانون النهر، ثم في معروب لينتقل بعدها الى طيردبا ويعرج أخيراً الى قرية عيتيت التي كانت آخر ترحال له.
في عمله المقاوم أطلق محمد على نفسه اسم "جهاد رضا العاملي" فأحب اخوانه الاسم حبهم له، وهو المحبب لكل من عرفه وعمل معه، ليمسي الحاج جهاد محط أنظار المقاومين التواقين للعمل معه، وموضع إكبار عند قيادة المقاومة التي أسندت اليه مهام كبرى وجليلة ليكون حمّال البنادق الى الجبهات ، أو ممد الثغور بماء الحياة وناقل البارود الى مقالع المقاومين في جبل عامل والبقاع، وهو كثيراً ما يسرّ لزوجته إذا ما شاهدا معاً صورة شهيد على المنار، أنه آخر من ألبس هذا الشهيد بدلة المقاومة، وأعدّ لذاك الشهيد زاد الجهاد والسفر الى الفوز بإحدى الحسنيين.
كتوماً كان الحاج جهاد على عمله المقاوم، لكن أفعاله وسيرته كانت تشي بشيء من ذلك، فهو لم يكن موظفاً ينهي ساعات عمله ليعود الى زوجته وأبنائه قبل المساء، بل كان ليله نهاراً، ونهاره ليلاً، وتذكر الزوجة في هذا حكايات لا حصر لها، منها ليلة مولد طفله البكر علي الرضا التي كانت ليلة عاصفة من ليالي شباط، سدّت الثلوج فيها كل الطرق، لكن جهاد قام يرتدي ثيابه للخروج مخبراً زوجته أن الإخوان اتصلوا به للذهاب الى البقاع لعمل  يحتاجونه به، ثم ألقى نظرة على مولوده مودعاً الزوجة مقفلاً الباب على خرير الرياح وبساط من الثلج يوقع عليه حكايات لطفله المولود.
لم تكن سيرة الحاج جهاد مع المقاومة أمراً منفصلاً عن سيرته الأخلاقية والدينية، فقد اكتشفت الزوجة باكراً عشقه لآل بيت النبي (ص) وللسيدة الزهراء (ع) خاصة الذي كان يبكي كلما سمع سيرتها العطرة، وكان المواظب على أداء الصلاة في وقتها حاثاً زوجته على عدم التهاون بالمواقيت، وكان المواظب على زيارة الإمام الحسين (ع) بعد كل صلاة وعلى قراءة دعاء العهد كل صباح، أما سيرته مع والديه وأقاربه فقد كانت تجسيداً  لسيرته الأخلاقية حيث كان يواظب على زيارة والديه كلما مرّ من بلدته عيتا لينحني أمام والدته يقبل يديها طالباً الرضا والدعاء له بالشهادة، وكذا يفعل مع والده، اما أقاربه فكان يزورهم وكثيراً ما كان يدس المال خفية تحت وسادة المرضى العجز منهم.
عطوفاً كان الحاج جهاد على عائلته، فهو كان يسعى للتعويض عن غيابه الطويل بأساليب عدة، منها مرافقتهم الى الزيارات العائلية، والترفيهية، وكان كثير التعلق بأبنائه، خاصة طفلته مليكة التي كانت أول من يسأل عنها بعد إيابه من عمله، وتروي الزوجة بشوق كيف كان يحملها يمشط شعرها بأنامله ويلبسها أجمل ما عندها ويأخذ في ملاعبتها موصياً أبناءه الثلاثة خيراً بأختهم الوحيدة.
"كان الحاج جهاد قمراً في ليالي الانتظار الطويلة، وكان الوردة التي تفرّخ على الباب كلما دخل المنزل، والبسمة التي تغمر بيتي كلما طل وجهه، كان كل سعادتي، ومن أجله وإرضاء لله عشت معه سنوات العمر نرحل من بلد الى بلد، نحمل بيتنا فوق ظهورنا كي تبقى المقاومة عزيزة ونبقى جميعاً أعزاء" هذا ما ترويه الزوجة وتروي اللحظات الأخيرة مع زوجها، يومها كانت صبيحة 12 تموز 2006 نهض الحاج جهاد السادسة صباحاً، بعدما كان قد عاد الى منزله منتصف الليل، ارتدى ثيابه، نهضت الزوجة لوداعه، فهي كانت تحرص على ذلك، وقفت معه على الباب نظرت الى وجهه فأحست بالنور يطلع منه، أحنت رأسها فقبلها في جبينها طالباً منها الدعاء للمجاهدين بالتوفيق في هذا اليوم، لم تفهم ما يرمي اليه، شيّعته بعينيها حتى غاب ظله في الأودية البعيدة.
كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحاً عندما رنّ الهاتف في بيت الحاج جهاد، رفعت أم علي السماعة لتسمع جهاد يزف اليها خبراً طالما انتظرته "باركيلنا، الشباب أسروا جنديين صهيونيين" فقالت له "مبروك سدد الله خطاكم"، بعد هذا الاتصال وقعت الحرب لتنتقل بعدها الزوجة بعيداً عن المنزل الذي كانت انتقلت اليه منذ سبعة أيام فقط.
غاب الحاج جهاد عن السمع، ولأن الزوجة تعرف دقة عمل زوجها اعتبرت ذلك أمراً عادياً، انتهت الحرب عادت كوكبة من المقاومين الى منازل الدنيا، وعرّجت كوكبة أخرى الى منازل الآخرة، وكان الحاج جهاد سرور كوكباً شامخاً كبيراً عرّج بدمه مع أخٍ له هو الشهيد ابو مصطفى مواسي الى حيث أحب، الى جنان الرحمن، حيث دار آل بيت النبي (ص)، عرّج الحاج جهاد وآخر كلماته التي أوصى بها ما زالت تسكن وجدان زوجته: "زوجتي العزيزة أوصيك خيراً بأولادي، اعملي على تربيتهم تربية إسلامية، وأرضيعهم محبة أهل البيت (ع) والإمام الحسين وعاشوراء، قُصّي لهم حكايات المقاومة الإسلامية وانتصاراتها العظيمة.. وسامحوني".
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007

2007-08-17