ارشيف من : 2005-2008
عروج الفرسان الثلاثة : الشهيد القائد خالد بزي "قاسم"
هم ثلاثة من الفرسان الذين بكّروا الفروسية في ساحات المقاومة، بهم يمكنك أن تؤرخ صدى الطلقات الأولى، وسيرة القافلة الأولى، والتدرج الزمني لتطور مشروع المقاومة تأسيساً وهجرة وصبراً وإعداداً وإمداداً ودعماً وانتصارات من العام 1982 حتى الانتصار الإلهي في آب 2006.
إنهم من العاشقين الذين لا تستطيع البوح بكل ألوان عشقهم، ولا الحديث عن أسرار الصلاة التي أدّوها في المواقع والخطوط الأمامية للمجاهدين.
إنهم باختصار ثلاثة، "ساجد الدوير" قائد الخاصات من رجال الله، و"جهاد عيتا" ناقل البارود إلى مقالع الصوّان في جبال المقاومة، و"الحاج قاسم" "رفيق الاستشهاديين وحارس قديم لعمامتي السيد عباس الموسوي والشيخ أبي ذر" فرسان ثلاثة، امتطوا جياد النصر أيام الوعد الصادق، وعرّجوا إلى حيث ينتظرهم ركب من آل البيت (ع) والصديقين والشهداء.
صوت شجي ينطلق من أحد بيوت مدينة بنت جبيل، طفل في مهده يتأرجح على إيقاع حَدْو أمه...
"إنشالله ينام.. إنشالله ينام، ويكبر خالد وبسيفه العدو ينضام"، تتحول هذه الكلمات إلى حروف عشق في قلب "الصغير" الذي رضع حب وطنه ومدينته الأسيرة مع حليب الأم...
امتشق "خالد" السلاح وهو لم يكمل الرابعة عشرة من عمره ليبدأ ألفباء العمر بالجهاد والمقاومة متنقلاً بين سهول الجنوب ووديانه... مهاجماً موقعاً إسرائيلياً هنا، وزارعاً عبوة هناك، فكان بذلك من أوائل المؤسسين للمقاومة الإسلامية مع نخبة من الشباب المقاومين، كان الشهيد سمير مطوط (جواد) واحداً منهم.
عمله الميداني العسكري، كان يؤمن له في كل فترة لقاءً سرياً مع محبوبته بنت جبيل، التي كان يصلها متخفياً ومتلهفاً... مقبلاً ترابها مجدداً معها العهد...
لكن تلك اللقاءات كانت تترك غصة في قلبه إذ كان يشاهد أحباءه وأقرباءه دون أن يتمكن من الحديث معهم أو الاقتراب منهم.
كان يعمل بكل ما أوتي من طاقة... فكان ليله كنهاره... عملٌ دؤوب تُرجم عمليات نوعية أرهبت العدو وزلزلت كيانه، ولعل أبرز تلك العمليات التي حملت بصمات "الحاج خالد" كانت عملية الاستشهادي صلاح غندور "ملاك"...
عمل بجد أكثر من ثمانية عشرة عاماً ليرى فجر النصر الأول يبزغ عام 2000 فكان بذلك أول لقاءٍ علني "للحاج خالد" مع محبوبته بنت جبيل، ذلك اللقاء الذي لا زال يتذكره جيداً المقربون منه، حيث كان يجول في حديقة منزلهم العتيق يحاكي شجرة التين ويذكِّرها بعدد المرات التي أوقعته فيها عن أغصانها... يستنطق الدالية... ويشم تراب الأرض فينتشي بطيف ذكرياتٍ وأحلامٍ كان هاجسه الأول ألا تتحقق...
فترة ما بعد العام 2000، وإن تميزت بتراجع نسبة العمليات العسكرية، إلا أنها شكلت مفصلاً في حياة "الحاج خالد"...
فها هو يقف على الحدود... يرى فلسطين على مرمى حجرٍ من أحلامه...
وبما أنه قد قطع شوطاً كبيراً من مشوار "الألف ميل" قرر إكمال مشواره الذي أخذ شكلاً جديداً... فكان مشغولاً بإعداد الخطط الدفاعية لدرء عدوان تحسب مسبقاً أنه سيكون عنيفاً...
تميزت حياة الحاج خالد بزي "قاسم" بعدم الاستقرار والتنقل من منزلٍ إلى آخر ومن قرية إلى أخرى وذلك لوضعه الأمني الدقيق بصفته واحداً من أبرز المطلوبين للعدو الإسرائيلي...
لكن ذلك التنقل أمن "للحاج خالد" معرفة جلَّ القرى الجنوبية وأهلها...
فها هي الحاجة أم أحمد تركض حين تراه ناحية منزلها لتأتي له ببعض عناقيد العنب، أما الحاج أبو علي (الرجل الثمانيني بعكازه الخشبي) فيأبى الدخول إلى داره الواقع عند مفترق طرق حتى يمر "الحاج خالد" فيعطيه بعض أكواز التين...
كل هذه المشاهد كانت تشعر "الحاج خالد" بصوابية القرار الذي اتخذه عندما رفض السفر إلى حيث أهله في الولايات المتحدة، ورفض معه كل مغريات بلاد العم سام، وأولها الجنسية الأميركية التي يتوق الكثيرون للحصول عليها... إلا هو... حيث كان يؤمن بأن الجنوب هو جنته، وأرض الأحلام هي هذه الأرض المقدسة التي ثملت من دماء أبنائها الشرفاء...
الثاني عشر من تموز/ يوليو عام 2006، يقرر الإسرائيلي إعادة شيء من أشلاء كرامته التي سحقها مجاهدو المقاومة عام 2000، حيث شكل خطاب الأمين العام "السيد حسن نصر الله" الذي صدح من مدينة بنت جبيل صفعة لـ"إسرائيل" أفرزت حقداً مضاعفاً وحلماً إسرائيلياً أعمى بالوصول إلى مكان الخطاب وزرع راية "الكيان الصهيوني" على أرض مدينة بنت جبيل...
الخطة الإسرائيلية اقتضت بالهجوم البري تجاه مارون الرأس لاستراتيجيتها ولطبيعتها الجغرافية المشرفة على مدينة بنت جبيل... ألوية النخبة رُشِّحت لذلك الهجوم الحاسم والمفصلي في تاريخ "إسرائيل"...
فالمعركة معركة وجود...
والعالم كله يترقب كيف ستسقط مدينة بنت جبيل... بوابة العبور إلى سائر القرى الجنوبية، أمام هيبة الجيش الذي لا يقهر... ذلك الجيش الذي ظن أنه بعتاده وعديده وعنصر المفاجأة التي دخل الحرب بها يستطيع أن يقضي على شعلة المقاومة مساهماً بذلك في ولادة شرق أوسط جديد على قياس طموحاته ومصالحه...
ما لم يدركه الإسرائيلي آنذاك... أن تلك الجبهة الفصل كان قائدها وعلى رأسها الحاج "خالد بزي" (قاسم) الذي وقف وسط المدينة معلناً بملء الصوت "لن تدخل الدبابات الإسرائيلية المدينة إلا على جثتي"... هكذا بدأت لعبة التحدي...
فدخل آلاف الجنود الإسرائيليين المعركة التي لم يكتفِ الحاج خالد بإدارتها بل أصر على المشاركة الميدانية فيها، ليشتبك مع قوات العدو على بُعد عدة أمتارٍ... وخلف هذا المشهد... امرأةٌ ترك الزمن بصماته على وجهها ويديها... تقفُ في سواد تلك الليلة التي أنارها العدو بجمر قذائفه الحارقة... تلهج بقلبٍ فُتحت لحرارة دعائه أبواب السماء، التي اعتادت دوماً أن تفتح له...
تدعو بصوتٍ يعيدك ألفاً وأربعمئة سنة إلى الوراء... وبالتحديد إلى كربلاء...
"يا راد علي الأكبر على أمه ليلى... ردَّ عليَّ ولدي خالد"... ساعات مرت "وأم خالد" تواجه اليأس بالأمل... متسلحة بيقينها وبتجربتها الطويلة في ميدان الثقة بالله...
لحظات صمتٍ تمر... تقطعها نقرةٌ على باب الدار... تحمل توقيعاً تُطْرَب على إيقاعه كل جوارح أم خالد... التي تفتح الباب لترى ولدها واقفاً بباب الدار...
في تلك اللحظة اختلطت كل ألوان المشاعر في خاطرها فهوت عند قدميه باكية... أمسكها بحنان محاولاً أن يساعدها على الوقوف: "لا تفعلي هذا فما أعرفه عنك أنك قوية وصلبة"... بعدها ضمَّها إلى صدره ضمةً كان يحسب أنها الأخيرة... قبّلها عن كل تلك السنين التي قضاها بعيداً عنها... وطلب منها أن تسامحه وتدعو بنصرة المجاهدين... وقبل أن يهمَّ بالخروج سمع صوتها يتردد في أصداء روحه "علي الأكبر خرج ولم يعد، وأنت كذلك لن تعود...".
أكثر من خمسة عشر يوماً والعدو يحاول السيطرة على المدينة، لكن عبثاً... فكل محاولاته باءت بالفشل لتظهر صُور جنوده على الشاشات باكين مخذولين... يشكون من تلك الأرض التي أطلقوا عليها اسم "المدينة الملعونة"...
ظن العدو أنه لن يستطع القضاء على "روح المقاومة" إلا عبر تدمير المدينة بأكملها، وهذا ما قد حصل... فقد لجأ العدو إلى طائراته التي حوَّلت ما يسمى "بالمدينة القديمة" في بنت جبيل إلى ركام...
استشهد "الحاج خالد" في مدينة المقاومة بنت جبيل، مسوّراً حاراتها بدمائه، وزارعاً في قلبها روحاً جديدة للمقاومة...
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007