ارشيف من : 2005-2008
حرب الصورة والكلمة : انتصار إعلامي ـ نفسي للمقاومة
يكاد الإعلام يكون ملازماً للحرب العسكرية في كل تفاصيلها ومجرياتها، وهو في أحيان أخرى يمثّل عنواناً لحرب منفصلة تتقاطع في مكان أو آخر مع المجريات الميدانية، وتتخذ لنفسها مسمى "الحرب النفسية"، وهدفها الأساسي إسقاط مسبق للخصم اعتماداً على أدوات التأثير النفسي والمعنوي، قبل القضاء عليه بأدوات التأثير العسكري. ولا تختلف الحرب التدميرية التي دارت رحاها على مدى 33 يوماً خلال تموز 2006 عن الحروب الكبرى التي أدى فيها الإعلام دوراً محورياً، وخيضت خلالها مواجهات استخدمت فيها كل الوسائل والأدوات والأساليب، المرئية والمسموعة والمكتوبة وعبر شبكات الانترنت، كما كان للشخص الرمز أثر بالغ في تأثيرات المواجهة وانعكاساتها على الميدان. ولا نبالغ إن قلنا إن هذا العنصر الأخير كان أهم الجوانب التي حسمت نتيجة الحرب الإعلامية ـ النفسية.
عمل العدو خلال حربه الإعلامية ـ النفسية خلال عدوان تموز إلى تحقيق مجموعة من الأهداف أهمها:
1 ـ التأثير في الجانب المعنوي للمواطنين من خلال بث الرعب في نفوسهم وإسقاط معنوياتهم.
2 ـ الإمعان في سياسة تهجير الناس بالدعوة إلى إخلاء المناطق السكنية بعد التهديد باستهدافها.
3 ـ تأليب الرأي العام على حزب الله وأمينه العام بتصويره المسؤول عن الحرب ودمار لبنان.
4 ـ السعي للتأثير في مصداقية حزب الله عبر الادعاء بأنه يخفي خسائره البشرية والعسكرية.
5 ـ التركيز على تشويه صورة السيد نصر الله وتصويره دمية مسيّرة من قبل إيران وسوريا.
وقد دأبت وسائل الدعاية الإسرائيلية وفق سياسة قديمة جديدة، على بث رسائل إعلامية متوازية مع عمليات القصف التدميري والمجازر المتنقلة، بهدف إرهاب الناس باعتبارهم شركاء المقاومة، وصولاً لدفعهم الى النزوح وخلق مشكلة إنسانية بوجه اجتماعي ـ اقتصادي، تتقاطع مع الضغط العسكري والسياسي على حزب الله. ومثال على ذلك ما جاء في مقال نشرته صحيفة "معاريف": "لا مكان في هذا الوقت للشفقة والإحساس المرهف.. سكان القرى الذين أُنذروا بوجوب ترك قراهم هم المسؤولون عن حياتهم.. علينا أن نمضي قدماً حتى النصر بكثير من الحزم والتصميم وقليل من العواطف والحساسية". وكتب رئيس تحرير "يديعوت أحرونوت" في افتتاحيته: "ليس لدي مشكلة في أن أكون أقل أخلاقية بنظر نفسي.. أنا مستعد لأن أكتسح بالنار الحامية مخربي حزب الله وكل من يؤازرهم ويتعاون معهم أو تفوح منه رائحة حزب الله".
الرقابة على الإعلام الإسرائيلي
شكّلت إمكانية أن يستفيد حزب الله مما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية محوراً مهماً في النقاش داخل أروقة مراكز القيادة السياسية والعسكرية، وفرضت سلطات الاحتلال رقابة صارمة وتعتيماً شاملاً على مجريات الحرب، وأكدت لعائلات الجنود والقتلى ضرورة عدم تقديم أي معلومات بشأن الإصابات، وأصدرت تحذيرات الى غرف الدردشة على شبكة الانترنت بعدم تناول مجريات الحرب خشية نشر ونقل مواد حساسة.. كما حظّرت على الجنود استخدام هواتفهم الخلوية. وتولى طاقم خاص في وزارة حرب العدو يضم خبراء نفسيين وإعلاميين، وضع خطة لفبركة وتسريب معلومات الى وسائل الإعلام والمراسلين الأجانب، بهدف رفع معنويات الجمهور الإسرائيلي الذي كان يعاني من وضع نفسي صعب خلال الحرب.
الرسائل والاتصالات السلكية واللاسلكية
عمل العدو في ساحة المواجهات على الدخول إلى موجات الأجهزة اللاسلكية مع عمليات تشويش مكثفة، وبعث بسلسلة رسائل تهديد للمجاهدين باللغة العربية يدعوهم فيها الى الاستسلام مع وعود بمعاملتهم معاملة حسنة وضمان عودتهم إلى عائلاتهم، ويحذرهم في المقابل من مغبة مواجهة جنود "جيش الدفاع" ويدعوهم إلى "الاستسلام، لأنّ المسؤولين في بعض المناطق قد سلّموا أنفسهم أو قُتِلوا". وشكّل الهاتف الثابت والمحمول أسلوباً آخر اعتمده العدو في الدعاية والحرب النفسية، فقد تلقى المواطنون في المناطق اللبنانية كافة اتصالات هاتفية سمعوا فيها تسجيلاً صوتياً يوجه لهم النصائح والتهديد في وقت واحد، من مغبة التعاون مع المقاومة، وطلب التعاون وإعطاء معلومات عن أماكن عناصر حزب الله ومخازن الأسلحة. كما عمد العدو إلى إرسال رسائل قصيرة عبر الهواتف المحمولة تحمل المضمون نفسه. وقد أخفق هذا الأسلوب في تحقيق أي مفاعيل عملية على الأرض، وأدرك المواطنون أنها عملية تقنية بحتة تهدف للتأثير في معنويات المواطنين والتعويض عن الفشل الميداني لجنود الاحتلال على الأرض، الذي كانت تظهره الوقائع المعلنة بالصوت والصورة.
المناشير
اعتمد العدو "المناشير" كسلاح نفسي في كل حروبه الإرهابية، ولا سيما في فلسطين المحتلة ولبنان، وأكثر من استخدامها خلال عدوان تموز بحيث غطّت المناطق اللبنانية كافة، ولا سيما الجنوب والضاحية الجنوبية. وحملت هذه المناشير أشكالاً متنوعة، ونصوصاً ورسوماً كاريكاتورية، ورسائل دعت المواطنين إلى عدم التعاون مع حزب الله وطرد المقاومين من القرى، وأنذرتهم بأنهم سيتعرضون للقتل وبيوتهم للدمار بسبب إيوائهم عناصر المقاومة. ولكن كل ذلك سقط، حيث نالت هذه المناشير نصيبها من التمزيق والحرق على أيدي المواطنين والاستهزاء بهذه الأساليب البالية، لا بل أدت إلى نتيجة معاكسة، فقد أكد الناس تشبثهم بالمقاومة والأمين العام.
التشويش على إعلام المقاومة
شكلت قناة "المنار" و"إذاعة النور" محوراً أساسياً في دراسة العدو لتأثيرات الحرب الإعلامية لحزب الله، وبدأ العدو منذ اليوم الثاني للحرب باستهداف عواميد الإرسال التي تعود لوسائل إعلام المقاومة أو من يساندها، ولم يفلح في إسكاتها برغم تدمير مبنيَي "المنار" و"النور". وانقطع بث القناة صباح 22/7/2006 عدة مرات ثواني معدودات لتظهر صورة منشور إسرائيلي ضد حزب الله ورسوم كاريكاتورية ومشاهد مصوّرة ضد الأمين العام وعبارة: "الموت آتٍ وسيطالهم". كما قُطع بث إذاعة "النور" وحلت مكانه رسائل تهديد ووعيد لكل من يحمي المقاومة والمجاهدين، وأخرى تتعرض للسيد نصر الله.
المجازر وهزيمة الدعاية
عمد العدو إلى الإمعان في ارتكاب المجازر للاستفادة منها على المستوى النفسي، برغم انحياز وسائل الإعلام الغربية لجهة تبرير "ضرب حزب الله"، إلا أن الإخفاق الإسرائيلي في حسم المعركة خلال وقت قصير واستمرار توالي صور الضحايا من الأطفال والدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية ومشاهد نزوح الأهالي، كل ذلك انعكس سلباً على صورة "دولة إسرائيل الديمقراطية". صحيفة "لوكورييه إنترناسيونال" الفرنسية قالت في عددها الصادر 9/8/2006: "إسرائيل مُنيت إعلاميا بفشل ذريع.. فبدلاً من ضرب أهداف عسكرية لحزب الله استهدفت آلاف المدنيين وقطاعا كبيراً من البنية التحتية".
السيد نصر الله وانتصار الرمز
وكمثال على أهمية حضور السيد نصر الله على مستوى الرمز، ما تناولته الصحف البريطانية التي ركّزت على "رمز المقاومة ضد إسرائيل في ربوع العالم الإسلامي" بحسب صحيفة "الإندبندنت" الصادرة في الثاني من آب 2006، التي رأت أن "نصر الله غدا بطلاً في طول العالم العربي وعرضه". ونشرت "دايلي تلغراف" تقريراً تحت عنوان "نجم الشاشة نصر الله يؤثر في الناس من كل الأطياف في لبنان"، قالت "إن نصر الله أصبح أحد أكثر القادة إثارة للإعجاب في الشرق الأوسط".
وقد وصف الدكتور أودي ليفل الخبير الإسرائيلي المتخصص في علم النفس السياسي السيد نصر الله بـ"أبي الحرب النفسية"، ورأى في مقال نشرته "معاريف" "أن قدرة نصر الله كأنه خبير نفسي رفيع بالمجتمع الإسرائيلي، تتمثل في متابعته لانهيار الإجماع الإسرائيلي، وهي متابعة تعكس فاعلية الحرب النفسية لحزب الله".
خطاب المصداقية والتضليل
واجهت الدعاية الإسرائيلية إخفاقاً كبيراً على غرار الإخفاق العسكري، ورافق التقهقرَ الميداني تقهقرٌ موازٍٍ في تعليقات ومقالات ومواقف معلقي الصحف ومحطات التلفزة الإسرائيلية. وكانت قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي تعتمد على تقارير حزب الله وتثق ببيانات حزب الله وخطاب الأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله أكثر من ثقتها بصدقية المتحدثين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين. وقد أظهر بحث حول أداء الإعلام الإسرائيلي خلال الحرب أن ظهور السيد نصر الله أثبت صدقية خطاب المقاومة، في مقابل سقوط صدقية القيادات السياسية في كيان العدو، التي دأبت على "تضليل" أفراد المجتمع الصهيوني.. فلا الجيش استطاع منع استمرار "هطول" صواريخ المقاومة، ولا استطاعت القنابل الأميركية "الذكية" أن تنال من قيادة المقاومة.
ولعل أحد أبلغ التوصيفات لنتيجة الحرب الإعلامية بين المقاومة و"إسرائيل"، ما قاله المعلق العسكري للقناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة ألون بن دافيد: "كانت تلك حرباً غير ناجحة.. وأقول إن الإعلام عَكَسَ حرباً لم تكن جيدة.. إسرائيل واجهت في هذه الحرب خصماً إعلامياً ذكياً ومتطوراً ذا قدرات إعلامية وبنية تحتية إعلامية لم تعرف إسرائيل مثيلاً لها في تاريخها.. حزب الله كان خصماً أشدّ ذكاءً من جميع الخصوم.. لقد كانت الحرب الأشدّ في الناحية الإعلامية من أي حرب سابقة في تاريخ إسرائيل".
محمد الحسيني
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007