ارشيف من : 2005-2008
جيش العدو يئن تحت وطأة تداعيات هزيمته
يمكن الجزم بأن مفاعيل اقرار الجيش الاسرائيلي بالهزيمة بشكل مباشر وحاد وواضح، اشد واخطر على الكيان الاسرائيلي من الهزيمة نفسها في ارض الميدان، ويعود ذلك الى طبيعة تركيبته وكونه كيانا غاصبا ومفروضا في المنطقة. ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن تجاهل وتجاوز التداعيات التي شملت الجيش وتمثلت بحالات متعددة.
وتزداد خطورة هذه التداعيات، كونها تتصل بالمؤسسة الحاضنة والحامية للكيان، واليد التي يبطش بها لإخضاع المحيط العربي والإسلامي، والذراع التي تلجأ إليها الإدارة الأميركية بعدما تُستنفد وسائلها الدبلوماسية والسياسية لتحقيق أهداف معينة في المنطقة.
ولعل من ابرز الظواهر التي عكست شعور الجيش بالهزيمة هو رؤوس قادته التي تدحرجت في اعقاب انتهاء الحرب بدءا من رئيس الأركان دان حالوتس وقائد المنطقة الشمالية اللواء اودي ادم ونائبه اللواء ايال بن رؤوبين، ومرورا بقائد فرقة الجليل، العميد غال هيرش وقائد الفرقة التي كانت تعمل في القطاع الشرقي، العميد ايرز تسوكرمان، وليس اخيرا قائد سلاح البحرية اللواء ديفيد بن بعشاط.
تجاوزت استقالة حالوتس ابعادها المتصلة بشخصه من خلال كونه قائدا لاركان الجيش، وشكل الصدمة الكبرى والاعلان الاهم والابرز والاكثر تعبيرا عن اعتراف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بالفشل والهزيمة. حيث كانت المرة الاولى التي يستقيل فيها قائد اركان جيش العدو في اعقاب حرب يشنها الكيان الاسرائيلي. ومن ابرز لوازم سقوط حالوتس هو ان كل النظريات القتالية التي التصقت باسمه (مع انها لم تكن وليدة تفكيره الشخصي، وانما عززها فقط) والتي كانت ترتكز على ان إسرائيل تستطيع عبر تفوقها التكنولوجي وخاصة على مستوى سلاح الطيران الحاق الهزيمة بأعدائها، قد تهاوت وانتهت الى الابد. وغدت اسرائيل امام تحول استراتيجي يعيد النظر في مفهوم موازين القوى في المنطقة كونه اسقط معايير واظهر معايير مغايرة تؤدي الى نتائج مختلفة.
اما استقالة ادم فقد كانت بمثابة استقالة للقائد الميداني الاعلى والمسؤول المباشر عن العدوان كونه كان يتولى منصب قائد المنطقة الشمالية. ويمكن القول ان استقالته لم تكن مفاجئة حيث بدت مؤشراتها خلال العدوان عندما "اسقطت" قيادة الاركان نفسها عبر نائب حالوتس اللواء موشيه كابلنسكي ليقود المعركة بدلا منه. ولا يخفى ان هذا الاسقاط من الاعلى لكابلنسكي شكل اقرارا مبكرا من قيادة الجيش بالفشل والهزيمة، ولكن هذا التغيير في قيادة المعركة انذاك لم يترك اثرا يذكر في الميدان، لمصلحة العدو. ويمكن اعتبار استقالة نائب ادم، ايال بن رؤوبين في نفس هذا السياق لكونهما كانا يتقاسمان المسؤولية عن ادارة الحرب.
اما قائد فرقة الجليل (91)، هيرش، فقد شعر انه حُمل المسؤولية عن الكثير مما جرى في الحرب بدءاً من اصل نجاح حزب الله في اسر الجنديين ومقتل ثمانية آخرين، باعتباره المسؤول المباشر عن المنطقة التي تم فيها اسر الجنديين وتفجير دبابة الميركافا، وعن الضربات القاسية والفشل المدوي الذي لحق بوحدات النخبة في الجيش عندما حاولت احتلال مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب.
اما تسوكرمان، فقد كان اكثر وضوحا وجرأة من القادة العسكريين الذين سبقوه في الاستقالة، عندما اقر بلسانه وبشكل مباشر انه يستقيل لأنه يتحمل مسؤولية فشل الفرقة التي يقودها. وفي هذا السياق وصفت صحيفة هآرتس (12/10/2006) الانتقادات التي وُجهت الى فرقته جراء فشلها في القطاع الشرقي، بـ"القاتلة". ومن الجدير ذكره في هذا السياق ان صور الدبابات التي شاهدها العالم وهي تحترق في سهل الخيام، تعود لهذه الفرقة، كما تعود اليها الكتائب التي حاولت اقتحام البلدات الواقعة على خط مرجعيون ـ دبين وفشلت، ومن اشهرها تلك القوة التي لجأت الى ثكنة مرجعيون هربا من مجاهدي المقاومة وصواريخها.
اما قائد سلاح البحرية فقد اتت استقالته بعد سيل الانتقادات التي وجهت اليه جراء بقائه في منصبه برغم الضربة القاسية التي وجهت لسلاح البحرية من خلال ضرب حزب الله للبارجة الحربية "حانيت ـ ساعر 5"، التي تشكل القطعة البحرية الاحدث لدى اسرائيل، والتي تحمل على متنها احدث الاجهزة في العالم. ووفقا لما نُشر في وسائل الاعلام الاسرائيلية، فإن استقالة بعشاط اتت استباقا لما سيوجه اليه في تقرير فينوغراد النهائي.
الهروب من الترقية في الجيش
برزت في اعقاب الحرب على لبنان ظاهرة لافتة ومثيرة للتساؤلات تمثلت بهروب مقاتلي الجيش من الترقيات لرتبة ضابط، فقد ذكرت صحيفة معاريف (عامير ربابورت 26/12/2006) انه بعد الحرب في لبنان ابلغ عدد كبير من مقاتلي الجيش، في الوحدات القتالية، الذين كانوا على وشك البدء بدورة ضباط، قادتهم انهم يريدون التوقيع على استقالاتهم وهم غير مهتمين بأن يصبحوا ضباطا. واضافت الصحيفة انه "منذ حرب لبنان الثانية، وعلى ضوء التجربة المظلمة للجيش الإسرائيلي من الأيام التي تلت حرب لبنان الأولى، تابعت شعبة القوة البشرية بحذر المؤشرات التي تشير إلى انخفاض استعداد الشبان للخدمة الدائمة وان يكونوا ضباطا... اما في سلاح الهندسة فقد كان الوضع خطيراً جدا. فمن اصل أربعين شاباً بدأوا مرحلة الإعداد، رفض ما لا يقل عن أحد عشر منهم مواصلة مسار الإعداد للوصول إلى رتبة ضابط. ووقَّع عدد من شبان سلاح المدرعات، الذين كانوا على وشك البدء بالدورة، على استقالتهم. وقرر شبان من أسلحة أخرى العودة إلى صفوف الجنود، حتى لو بأعداد صغيرة جدا". واكدت معاريف في هذا السياق ان الجيش الاسرائيلي "لم يعرف ظاهرة كهذه من قبل، على الأقل وسط الجيل الحالي من القادة. ففي السابق كان عدد الموقعين على الاستقالة خلال مسار الإعداد لرتبة ضابط صغيرا جدا".
كيف ظهَّرت الحرب على لبنان الوضع القيمي للجيش؟
اشار رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية الاسبق شلومو غازيت (معاريف 16/7/2007) الى ان رئيس شعبة القدرات البشرية في هيئة الأركان اللواء اليعازير شتيرن واللواء احتياط يورام يئير، اجريا فحصا لواقع الجيش من جهة القيم الاساسية التي يتحلى بها، وكيف تمثلت في الحرب على لبنان. ولفت غازيت الى ان النتائج كانت محبطة للغاية بالنسبة للقيادة الإسرائيلية إذ "كشفت اللجنة عن أفول مقلق للقيم، التي كان يتمتع بها منذ حرب الاستقلال (1948)" حيث "طرأ تدهور مقلق" على مستوى "تقديم القدوة الشخصية، الذي اختفى من القادة على مستويات مختلفة". كما كشف الفحص عن "حالة مقلقة" تمثلت بـ"عدم تحمل المسؤولية في المستويات القيادية، بالإضافة إلى ما اعتبراه أمرا لا يقل خطورة وهو "تقلص حالة الزمالة وأخوة السلاح" بين الجنود، حيث برز بشكل خاص في الحرب مبدأ "التفضيل التام للحفاظ على حياة الإنسان على حساب التمسك بالمهمة".
ويقر غازيت ان التربية على القيم في الجيش الإسرائيلي، والترويج والترشيح للقوى البشرية يمكنها، في أفضل الأحوال أن تمنحا الجيش تفوقا معينا على المجتمع المدني الذي يعاني من تآكل المعايير، إلى فقدان القيم، إلى انعدام الدافعية للعمل والخدمة العامة، بنسبة لا تتجاوز، في احسن الأحوال 5% فقط، ويعود ذلك بحسب غازيت الى ان "الجيش الإسرائيلي ليس جيشا مهنيا يقوم على اساس ضابطية مهنية اختارت الخدمة العسكرية كطريقة حياة، بل هو جزء لا يتجزأ من المجتمع الاسرائيلي، من الناحيتين الايجابية والسلبية".
من هنا رأى غازيت ان "المفتاح" لفهم الواقع القائم "ليس موجودا في التغييرات التي طرأت على الجيش الإسرائيلي، بل في التغييرات التي مر بها عموم الجمهور في إسرائيل". وعليه "ليس بيد الجيش القدرة على اصلاح الواقع، فلا زيادة الموازنة ولا التزود بالمعدات أو زيادة التدريب أو المناورات تساهم في اصلاح ذلك. بل يتم ذلك عبر اصلاح المجتمع وتغيير قيمه".
وتوقف المراقبون الاسرائيليون ايضا عند ظواهر متعددة بدءا من التهرب المتصاعد من الخدمة العسكرية، إلى ظاهرة "الشماليين" الذين يتهربون من الخدمة ضمن إطار الوحدات القتالية ومحاولتهم الابتعاد عما له صلة بالميدان، إلى ظاهرة الذين ينهون الخدمة من دون أن يُستدعوا إلى الخدمة الاحتياطية وغيرها.
فقد كشف تقرير شعبة القوى البشرية في هيئة الاركان العامة (صحيفة هآرتس/18/7/2007) بشكل واضح وقاطع ان واحدا من كل أربعة شبان ملزمين بالتجند لا يتجند هذا العام في الجيش الإسرائيلي. وأكثر من 40% من البنين لا يكملون خدمة كاملة (لأن 17.5% من المتجندين يتسرحون قبل انتهاء الخدمة) و42% من البنات لا يتجندون مطلقا. مع التأكيد على ان النسبة العالية للذين يتهربون من التجنيد تعود الى نسبة الحريديم (الذين يرفضون التجند في الجيش لاسباب دينية) المتزايدة في المجتمع الاسرائيلي. ولكن الامر اللافت والمطلوب ذكره ايضا هو ان الحديث عن نسب المتهربين من التجنيد كان امرا غير مسموح في الجيش، وفي هذا السياق ذكرت هآرتس "عندما كان يتسرب، في السنوات التي خلت، أي معطى يشير إلى تراجع في الدافعية أو التجند أو الرغبة في الخدمة بالوحدات القتالية بين اوساط المتجندين انفسهم، كان ينفيه بشكل قاطع المسؤولون في هيئة اركان الجيش وفي شعبة القوى البشرية. الا ان الرئيس الحالي للقوى البشرية اللواء اليعيزر شتيرن يعتبر انه من الضروري طرح هذه الأزمة الخطيرة على الملأ من اجل جعلها على رأس جدول الأعمال وحلها".
جهاد حيدر
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007