ارشيف من : 2005-2008
صحيفة السفير ـ ميشال سليمان رئيساً: ديموقراطية الطوائف في حمى الجيش
تسابقت إلى تبني العماد ميشال سليمان مرشحاً مفرداً لرئاسة الجمهورية. لا هو شامت بمن كان «ضد» لأسباب مبدئية، فانقلب إلى «مع» لأسباب عملية، ولا هو مبهور بمن كان يتمسك «بمرشح معركة» أول ضحاياها الدستور والديموقراطية(!!) إلى داعية للتوافق، «حماية للوحدة الوطنية والنظام الديموقراطي».
لقد «اختار» المواطن البسيط هذا «المرشح» قبل القوى السياسية، متغلباً على انحيازاته الحزبية وعصبيته الفئوية.
كذلك فقد اختار رجال المال والأعمال والهيئات الاقتصادية عموماً هذا «المرشح»، متغلبين على انحيازهم البديهي المفترض إلى حاكم مصرف لبنان، الذي يتخذونه عنواناً للنجاح.
اختارته العائلات التي صار الخوف مسكنها، تحتمي داخل قوقعته من طموحها إلى حياة طبيعية لا مطامح فيها أكثر من أن تطمئن إلى أن معيلها سيجد عملاً، أو سيبقى في مؤسسة يبرّر نجاحها استمرارها، وأن تلميذها سيذهب إلى مدرسته ويرجع منها سالماً، وإلى أن أبناءها وبناتها المؤهلين والمؤهلات حملة الشهادات من جامعات محترمة، سيجدون ـ بعد عناء البحث المضني ـ مصدر رزق مشروع.
لعل أكثرية اللبنانيين قد اختارت العماد سليمان بالحاجة أكثر مما بالرغبة، على ما يمتلكه من مؤهلات مطمئنة... ولعلها قد اختارته «نكاية» بالسياسيين المحترفين الذين عجزوا وأعجزوها عن مواجهة حقها في حياة طبيعية، فأخذوها إلى الانشقاق الذي يصعب فهمه بالسياسة (كما هي السياسة في بلاد الناس) وإلى احتقار تحرير الأرض بدماء أبنائهم الشهداء، وإلى مزيد من التورط في تسليم القياد إلى السفارات و«الدول»، والاكتفاء بتلقي التعليمات والتوجيهات، شفهية أو مكتوبة، على أنغام أناشيد الديموقراطية والحرية والسيادة والاستقلال، ناهيك بالعنفوان (وهو امتياز لبناني فريد، كما نظامه)...
***
لا بد من بعض الكلام الصريح:
أولاً ـ ليس تبني ترشيح العماد سليمان اليوم شهادة براءة لهؤلاء الذين جعلوا اختياره ضرورة تتجاوز القتال لفرض مرشحهم أو مرشحيهم. وليس فعل تبرؤ مما وقع وكان من أحداث كادت تذهب بلبنان، دولة وشعباً ونظاماً فريداً.
ثانياً ـ من الأمور اللافتة والتي لا بد من التوقف أمامها أن هذا الجيش قد ظل خارج المستنقع الطائفي، برغم كل المحاولات لرميه في ذلك المستنقع، ربما للخلاص منه كقوة ضامنة للتوازن الوطني العام، استعصت على الانقسام الطائفي والمذهبي، كما استعصت على التدجين والتسليم بالاحتلال الإسرائيلي بوصفه قدراً، واستطراداً على اعتبارها «قوة حليفة» للاحتلال الأميركي في العراق، أو «قوة محايدة» في مواجهة ما تدبره إسرائيل ضد شعب فلسطين، وفيه ما يهدد لبنان في نظامه بل وفي وجوده.
ثالثاً ـ إذا كان «الجندي» ـ ومن باب أولى الضابط ـ هو «النموذج الخام» للمواطن اللبناني فهذا يعني أن هذا «المخلوق» لا
يولد طائفياً أو مذهبياً وقد شهر سلاحه لقتال أخيه، صهره، جاره، وإجمالاً مواطنه «الآخر».
لعل هذا بين أسباب كثيرة تفسر بقاء الجيش خارج هذا المستنقع الطائفي وبريئاً من آثامه، برغم المجهود الهائل الذي بذلته التيارات والقوى الطائفية ذات الشعار السياسي لاستمالته، البعض إليها، والبعض الآخر ضد «القوى المعادية».
... ولعل هذا أيضاً يفسّر كيف لم ينشطر الجيش وهو يواجه الانشطار في الشارع، الذي بلغ في بعض اللحظات حافة الاقتتال الأهلي.
رابعاً ـ وهذا مكمن السر: كيف استطاع هذا الجيش أن يبقى، دائماً، الحل الذي يمكن اللجوء إليه لإنقاذ الديموقراطية الطائفية من نفسها؟!
لسوف يكون العماد ميشال سليمان ثالث رئيس للجمهورية يفرضه عجز أهل السياسة عن مواجهة الأزمات التي يستولدونها بقصر نظرهم أو بمجافاتهم للجوامع الوطنية، بغض النظر عن الادعاءات، أو لقصورهم عن قراءة التحولات الهائلة التي تشهدها المنطقة وضرورة حماية لبنان من آثارها المدمرة عليه، بالاحتماء بطبيعته، أي بهويته وجغرافيته وأساساً بوحدة شعبه.
لقد جاء اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية كفعل ضرورة لحماية لبنان من انحياز بعض أركان نظامه إلى أحلاف وارتباطات أجنبية تجعله في مواجهة مفتوحة ليس فقط مع محيطه، بل أساساً بين أبنائه.
وأنه لمن «المبهج» أن نسمع الآن، وبعد نصف قرن من الاستنجاد بفؤاد شهاب والمؤسسة العسكرية لحماية النظام، الشهادات في خطورة الدور الذي قام به «القائد» في استنقاذ الديموقراطية ونظامها الطوائفي!
كذلك فقد جاء العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية كفعل ضرورة لاستبقاء النظام الديموقراطي الطوائفي... أو هكذا قدم إلى اللبنانيين.
وها هو العماد ميشال سليمان يتقدم إلى منصب الرئاسة بأصوات تداني الإجماع لإنقاذ النظام الذي كادت تذهب به حمى الطوائفيات والمذهبيات، والأخطر: افتضاح مجافاة هذا النظام لأي مفهوم ديموقراطي وإلغاء دور «المواطن» فيه.
لكأنما الجيش هو الملجأ الأخير لحماية النظام من الديموقراطية الطوائفية... مع أن كثيرين ينظرون إلى مؤسسة الجيش على أنها النموذج لهذه الديموقراطية الفريدة في بابها، ولهذا النظام الذي لا نظير له ولا شبيه في أربع رياح الأرض.
الجيش يحمي الديمـــوقراطية، بينما الأصل أن تحمي الديموقراطية النظام ودولته، والجيش واحدة من مؤسساتها لا أكثر.
ولأن الأمن والأمان والاطمئنان إلى أن «الطريق آمنة وسالكة» فقد أرجأ اللبنانيون النقاش الفقهي حول الديموقراطية الطوائفية إلى ما بعد إنجاز التعديل الرابع أو الخامس لدستور هذه «الجمهورية» التي لا مثيل لها في الكون أجمع!
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية