ارشيف من : 2005-2008
لبنان بلا ماروني أوّل، أيّ إشكاليّة؟
للمرة الأولى منذ انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية اللبنانية، في 21 أيلول 1943، يجد لبنان نفسه من دون مسؤول ماروني ما، على رأس أيّ من سلطاته الدستورية ومؤسساته الدولتية الأولى والأساسية. علماً أنه ليس الفراغ الرئاسي الأول في الدولة اللبنانية، بل الثالث. غير أنه في المرة الأولى، عند استقالة بشارة الخوري من سدّة الرئاسة في 18 أيلول 1952، خرج ماروني رئيس للجمهورية من قصر القنطاري، ليدخله في شكل متزامن ماروني آخر رئيس للحكومة الانتقالية، لم يكن غير قائد الجيش آنذاك، فؤاد شهاب. وفي المرة الثانية، عند انتهاء ولاية أمين الجميل، خرج أيضاً ماروني رئيس للجمهورية من قصر بعبدا قبل منتصف الليل بدقائق، ليكون فيه ماروني آخر رئيس لحكومة انتقالية أخرى، لم يكن غير قائد الجيش في حينه أيضاً، ميشال عون.
للمرة الثالثة في تاريخ لبنان، يخرج ماروني من رئاسته، ولا يكون محلّه ماروني آخر، وهو ما يطرح السؤال عن دلالات الحدث، وعن نتائجه، من باب السؤال: هل تكون الثالثة ثابتة، ولا يعود ماروني على رأس الدولة اللبنانية؟
ليس السؤال بسيطاً، ولا تبسيطياً. والأهمّ أنه ليس مرتبطاً بآنيّات الأحداث الراهنة، بل بخلفيات أكثر بعداً وعمقاً. فصحيح أن الأزمة القائمة اليوم ناتجة من تزاوج وضعيتين مأزومتين في الداخل والخارج، بين توازن القوى اللبنانية الموالية والمعارضة، وبين الجمود الانتظاري الحربي البارد على مستوى المنطقة. لكن بعض الناظرين خلف سطح الأحداث يعتقدون أن للمأزق الحالي سبباً آخر، عنوانه عطوبية نظام الطائف الداخلية من جهة، وعدم التناغم بين النظام ومكوّناته من جهة أخرى. وبكلام أبسط يرى البعض أن جزءاً أساسياً وبنيوياً من أسباب الأزمة، يتمثّل في أن الطائف لم يعد ينسجم مع أدوار الجماعات اللبنانية وأحجامها، وفي أن المسيحيين أنفسهم لم يعودوا يشبهون مسيحيي الجمهورية الأولى طبعاً، لا بل لم يعودوا يشبهون مسيحيي جمهورية الطائف حتى.
وقد يكون الرئيس أمين الجميل أكثر من عبّر بصراحة عن هذه المخاوف أمس. فأعلن أن الفراغ الرئاسي سنة 1988 جاءنا بالطائف الأول الذي أطاح غالبية صلاحيات الرئاسة الأولى. فمَن يدري أيّ طائفٍ ثانٍ قد يستدرجه الفراغ الرئاسي سنة 2007، وأيّ صلاحيات سيبقيها الطائف الثاني، أو رئاسة قد تبقى بعده.
غير أن الجواب العملي الأول على هذا الجانب البنيوي من الأزمة، يأتي للمفارقة من الجهة السياسية. والجواب الفعلي الوحيد عن هذا التحدي، يحمل اسم ميشال عون. فبمعزل عن الجانب العاطفي أو الديماغوجي لتطورات الأيام القليلة الماضية، ثبت بمقاييس علوم التواصل واستطلاع الرأي العام، أن عون انتقل في اللحظة الراهنة من موقع الزعيم المسيحي الأول، إلى مرجعية الزعيم المسيحي الأوحد. وقد حقق عون أخيراً في أذهان المسيحيين وانطباعاتهم إنجازات أساسية عدة، أبرزها الآتي:
ـ أولاً: إنجاز ميثاقي تشاركي، تمثّله عملية استعادة القرار السياسي المتعلق بالمنصب المسيحي الأول في النظام، من الجانب غير المسيحي، وجعله حصراً لدى المرجعية المسيحية الأولى. وصار هذا الإنجاز الميثاقي أكثر بروزاً وتجليّاً، نتيجة عاملين مساعدين: انهيار مسيحيي الموالاة سياسياً وإعلامياً وفعلياً من جهة، وذهاب عون في مبادرته إلى طرح التكافؤ المسيحي ـ الإسلامي الدقيق والكامل، عبر التوازي بين دوره في اختيار رئيس الجمهورية، ودور الزعيم السني في اختيار رئيس الحكومة. هذه الصورة بكل تشعباتها، رسمت إحساساً لدى المسيحيين بأن عون وحده أعاد إليهم كرامتهم الميثاقية وعنفوانهم الشراكي، من دون افتئات على سواهم، ومن دون انتقاص من كرامة أي شريك آخر أو عنفوانه.
ـ ثانياً، إنجاز سيادي استقلالي، عنوانه صمود عون في وجه التدخلات غير اللبنانية في موضوع الرئاسة اللبنانية. ذلك أنه بمعزل عن هوية المتدخلين، وبعيداً عن توصيفهم بين صديق أو حليف أو عدو، تظل مسألة التدخل الخارجي في الاستحقاق الرئاسي، مقرونة في وجدان اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، بإحساس بانتقاص ما من سيادتهم واستقلالهم. وهو ما نجح عون في تعويضه، بعدما بدا أن ثمّة كوناً كاملاً قد تجمَّع للضغط على لبنان، وأن ثمّة طبقة كاملة، سياسية وروحية، وقعت تحت هذا الضغط، إلاّ ميشال عون.
ـ ثالثاً، إنجاز شخصي ـ وجداني وشعبي في آن واحد، تقدمه صورة التضحية الموضوعية الكبرى التي قدّمها عون في مبادرته، عبر تنازله عن حق ديموقراطي في أن ترفعه أكثريته الشعبية إلى موقع السلطة، وذلك لمصلحة الخير اللبناني العام، ومن أجل مصلحة وطنية عامة. هذه الصورة الدقيقة إلى حد كبير، أعادت وسم عون بسِمة الضحية وبإطار المصاب بظلم كبير، استهدفه كشخص، وقبله بتحدٍّ رفعه عن الجماعة والوطن.
ماذا يمكن هذه الإنجازات «العونية» الثلاثة أن تعني، في مواجهة الواقع السياسي والدستوري العنوانه: لا مارونيّ في الموقع اللبناني الأول؟ وكيف لموقع ميشال عون المرجعي هذا، أن يجيب عن الخشية ـ التحدي، من أن يكون الفراغ الرئاسي الثالث، ثابتاً هذه المرة؟
إنها المسألة التي تقع مسؤوليتها الدقيقة والتاريخية، لا على عون، بل على الموارنة والمسيحيين واللبنانيين الآخرين، من بكركي إلى مسيحيي الموالاة، إلى كل الموالين والمعارضين الآخرين. فالتمسك بالطائف والميثاق والكيان والدولة اليوم، باتت له ترجمة واحدة هي التمسّك بميشال عون. أمّا رفضه فممكن، لكن معناه واضح وحتمي، وهو رفض الدولة والكيان والميثاق والطائف.
المصدر: صحيفة "الأخبار" اللبنانية