ارشيف من : 2005-2008
جاذبية المريخ
الرحلة التي سوف تستغرق في خط المرور الأمثل 350 يوما ذهابا ونفس هذه الفترة إيابا بالإضافة إلى 20 أو 30 يوما من وجود رواد الفضاء على سطح المريخ. ولكن يصعب علينا أن نقول متى سينفذ هذا المشروع.
ويعتبر رئيس دائرة المجمع الدفاعي - الصناعي في وزارة الصناعة والطاقة الروسية يوري كوبتيف أنه "يمكن السفر ولو غدا لأن كل الإمكانيات الفنية متوفرة. إذ تجري دراسة نظرية لمثل هذه البعثة في روسيا منذ عام 1960، وقد تم إنجاز الشيء الكثير في هذا الاتجاه".
ويرى الرئيس السابق لشركة "أنيرغيا" لصناعة الصواريخ الفضائية نيكولاي سيفاستيانوف إمكانية تنفيذ مشروع البعثة إلى المريخ بعد عام 2025 على ثلاث مراحل: اختبار المركبة المخصصة للرحلات إلى الكواكب أثناء التحليق حول القمر تليه رحلة مأهولة إلى المريخ تتضمن الطواف حول هذا الكوكب والعودة إلى الأرض وأخيرا، البعثة المأهولة مع نزول الإنسان إلى سطح المريخ.
وقال مدير وكالة الفضاء الروسية اناتولي بيرمينوف: "نخطط للقيام بالبعثة إلى المريخ بعد عام 2035". وسوف يرد القرار النهائي بهذا الشأن، على ما يبدو، في "برنامج تطوير قطاع الفضاء الروسي لغاية عام 2040" الذي يرتقب اعتماده من قبل الحكومة قبل حلول نهاية العام الجاري. ومع ذلك فإن العمل على "المسار المريخي" جار منذ الآن في إطار برنامج الفضاء الفدرالي النافذ حاليا.
وجدير بالذكر أن فكرة السفر إلى المريخ تحظى بالجاذبية في العديد من البلدان. فيريد الأمريكان، مثلا، الانطلاق إلى المريخ من سطح القمر. وهو مشروع مكلف من ناحية إنفاق الطاقة إذ يتطلب إيصال مكونات المركبة المريخية إلى القمر وإنزالها بحذر إلى سطحه وتجميعها هناك ثم الانطلاق إلى المريخ بالتغلب على جاذبية القمر. وخلافا لذلك يقتضي المشروع الروسي الانطلاقة من المدار الأرضي. أما وقت تنفيذ المشروعين فيتطابق - بعد عام 2035. ويعقد أول أوروبي العزم على الوصول إلى سطح "الكوكب الأحمر" عام 2024 مما يبدو ضئيل الاحتمال. كما أن الصين ألتي أطلقت أول رائد فضاء لها في عام 2003 فقط لم تلبث أن أعلنت مخططاتها الوثابة المتعلقة بالقيام برحلة إلى المريخ.
وقد هيأ الخبراء الروس عام 2005 مشروعا عنوانه "البعثة المأهولة إلى المريخ". ويرى أحد واضعي المشروع فيتالي سيميونوف أن العمل على تطوير المركبة المريخية كشف عن حقيقة هامة مؤداها أن النفقات المالية والزمنية المترتبة على تحقيق البعثة إلى المريخ تتحدد أساسا بنوع المحرك.
وتتمثل إحدى أهم المواصفات لكل محرك في قوة دفعه النوعية أي النسبة بين قوة الدفع وكمية الوقود المحترق في الثانية. فكلما زادت سرعة انبعاث الغاز تزداد قوة الدفع في ظل احتراق نفس الكمية من الوقود وتزداد بالتالي اقتصادية المحرك. ولكن على الرغم من التقدم الفائق لتكنولوجيا تصنيع المحركات العاملة على الوقود الكيميائي فإن كلها تصطدم بحاجز مانع هو السرعة القصوى لانبعاث الغاز عبر فوهاتها. إنه حاجز لا يمكن تجاوزه... ولكن يمكن الالتفاف عليه.
فبما، يا ترى، يمكن تبديل المحركات الصاروخية العادية؟ يمكن، مثلا، تسخين الغازات الخفيفة للغاية (مثل الهيدروجين والهليوم والميثان) إلى درجات حرارة عالية تجعلها تندفع عبر الفوهة بسرعة أكبر ضعفين أو ضعفين ونصف الضعف مما في المحركات الصاروخية العاملة على الوقود الكيميائي. ويمكن القيام بهذه المهمة بواسطة مفاعل نووي محجم أو عنصر حراري يعمل على البطاريات الشمسية. وكان العلماء في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة يعكفون في الستينات والسبعينات من القرن الماضي على تطوير المحركات النووية من أجل البعثة إلى المريخ إلا أن جهودهم توقفت عند حد التجارب الأرضية.
هذا، وتتصف المحركات العاملة على البلازما والأيونات حتى بقدر أكبر من الاقتصادية وسرعة تيار مخلفات الاشتعال. ففيها يعجل الحقل المغناطيسي تيارا من الجزيئات المشحونة إلى سرعة عالية جدا. وتتحدد قوة الدفع في هذه المحركات بقدرة محطة توليد الطاقة التي تخلق هذا الحقل وتعجل الجزيئات.
وتتمتع روسيا بخبرة فريدة من نوعها فيما يتعلق بتصنيع المفاعلات النووية المحجمة واستخدامها في الفضاء الكوني. ففي الفترة من 1970 إلى 1988 جرى إجمالا إطلاق 32 قمرا صناعيا ركبت عليها مفاعلات نووية مقرونة بمحولات الحرارة إلى الكهرباء بقدرة 3 و5 كيلوواط. وخصص معظم هذه الأقمار لأغراض الاستطلاع وظلت ناشطة في المدارات الأرضية الواطئة فترة عدة شهور. وعلى سبيل المقارنة أطلق القمر الصناعي الأمريكي الوحيد المزود بالمفاعل النووي ومحول الحرارة إلى الكهرباء بقدرة 5ر0 كيلوواط عام 1965 ودام فترة 43 يوما فقط ثم تحول إلى قمامة فضائية مازالت تبرم في المدار حتى الآن. وبعدها انحصر العمل على استخدام مصادر الطاقة النووية في الفضاء الكوني في أمريكا في البحث النظري الصرف ولم يرجع إلى المضمار التطبيقي إلا عام 2002.
كما يجيد الخبراء الروس صنع ما يسمى بـ"المحركات البلازمية الثابتة" التي تتمتع بقوة دفع تتفوق عشرات الأضعاف عليها في المحركات الكيميائية التقليدية. وقد اجتازت المحركات البلازمية الثابتة أول امتحان فضائي لها عام 1972 على متن قمر الأرصاد الجوية السوفيتي "ميتيور"، وبدأ استخدامها الاعتيادي اعتبارا من عام 1982 على متون الأقمار الصناعية في المدار الثابت بالنسبة للأرض وذلك لغرض تعديل موضعها في المدار.
ونرى في الوقت الراهن جميع البلدان تقريبا بما فيها القوى الفضائية الرائدة تستعمل في أقمارها الصناعية على نطاق واسع محركات كهرونفاثة روسية الصنع على اختلاف أنواعها. وتتيح قدرة هذه المحركات تعديل المدار من حيث خط الطول أو زاوية الانحناء على السواء. والأدهى من ذلك أن هذه المحركات تستطيع أن تؤمن التنقل بين المدارات في خطوط مرور لولبية متعددة اللفات، مثلا، من المدار الواطئ إلى المدار الثابت بالنسبة للأرض كما يمكن أن تكون وسيلة لنقل الشحنات من كوكب إلى آخر.
وفي غضون إعداد مشروع "البعثة المأهولة إلى المريخ" درس المصممون المحركات الصاروخية العاملة على الأكسجين والهيدروجين والمحركات الصاروخية النووية التي تستخدم الهيدروجين السائل كمادة تشغيل، وكذلك محطات توليد الطاقة باستخدام المفاعلات النووية والبطاريات الشمسية من أجل تغذية المحركات الكهرونفاثة. وفي النتيجة وقع الاختيار على المحطة العاملة على بطاريات شمسية من غشاء السليكون اللابلوري الرقيق.
ويستمر في الوقت نفسه بحث إمكانية استخدام المفاعلات النووية بقدر تطويرها مستقبلا. فالمشكلة الرئيسية المتعلقة باستعمالها هي الأمن الإشعاعي في كل مراحل تشغيلها بما فيها حالات الطوارئ مما يتطلب مواصلة البحث.
ولا تقتصر المصاعب التي تواجه الرحلات الكونية البعيدة على صنع المركبة نفسها ومحركاتها فهناك كثير غيرها من القضايا بما فيها مسائل وظائف أعضاء جسم الإنسان والمشاكل النفسية التي لا بد من حلها قبل القيام بالرحلة المأهولة إلى الكواكب الأخرى. ولكن ذلك موضوع لمقالة أخرى.
لا تزيد البعثة إلى المريخ تعقيدا في ضوء التطور الراهن لتقنيات الملاحة الكونية عن الرحلة إلى القمر حينها. ويرى خبراء أن الآليات الفضائية جاهزة اليوم عمليا للقيام بأول بعثة إلى الكوكب الأحمر. ولكن يمثل أمام العلماء كثير من المشاكل الطبية والبيولوجية التي يتعذر تنفيذ البعثة بدون إيجاد حلول لها. بل وبات جليا الآن أن العامل البشري سيبرز إلى مركز الصدارة عند صياغة إستراتيجية بعيدة المدى لتطبيق "المشروع المريخي". ذلك أن إمكانية تنفيذ هذا المشروع بعينها مرهونة بالإنسان الذي يشكل نقطة ضعف رئيسية فيه.
يطرح مشروع الرحلة المأهولة إلى المريخ أمام علماء الطب والأحياء مهمة جديدة نوعيا. لأن مبادئ وأساليب تأمين سلامة رواد الفضاء الصحية والبيولوجية أثناء التحليقات المدارية الاعتيادية لا تصلح للبعثة إلى المريخ التي تتميز، خاصة، بشروط مغايرة للاتصالات بالأرض وتقلبات في تأثير قوة الجاذبية ومحدودية فترة الزمن المتوفرة لتكيف رواد الفضاء مع قوة جاذبية المريخ قبل الشروع بالعمل على سطحه ومستوى الإشعاع المرتفع وغياب الحقل المغناطيسي هناك.
وقد بين تحليق رائد الفضاء الطبيب فاليري بولياكوف في أواخر القرن العشرين على متن محطة "مير" المدارية والذي دام 438 يوما غياب العوامل الصحية والحيوية التي تحول دون القيام بالبعثات الكونية الطويلة الأمد. ويؤكد الأكاديمي أناتولي غريغورييف مدير معهد القضايا الطبية والبيولوجية الروسي أنه لم يتم حتى الآن اكتشاف أي تغييرات خطيرة في جسم الإنسان تمنع زيادة مدة الرحلات الكونية بالتدريج والقيام بالبعثة إلى المريخ.
لكن ثمة مشكلة خطيرة أخرى هي وقاية طاقم المركبة الفضائية من الإشعاع الشمسي والكوني الذي تتضاعف شدته خارج غلاف الأرض المغناطيسي، وقد تزيد جرعة الإشعاع المتراكمة خلال الرحلة مرتين على المعدل المقبول صحيا. ويميل المصممون اليوم إلى اعتماد أسلوب وقاية رواد الفضاء من الإشعاع بواسطة تركيب خزانات الوقود والماء وغيرهما من الاحتياطات حول المقسم السكني.
كما يتعرض رواد الفضاء لخطر الإشعاع المفرط على سطح المريخ. إذ تبين القياسات التي أجراها جهاز "هاند" الروسي المركب على مركبة "Mars Odyssey" الآلية الأمريكية أن كثافة تيار النيوترونات المنعكس عن سطح الكوكب قد ترتفع عدة مئات من المرات إثناء الانفجارات الشمسية لتبلغ مستويات مميتة بالنسبة للبشر. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون الهبوط إلى سطح المريخ إلا في أوقات "هدوء" الشمس.
المشكلة الأخرى هي تموين رواد الفضاء بالغذاء. يبدو للوهلة الأولى وكأنها محلولة اليوم لأن أعضاء طاقم المركبة المريخية سوف يأكلون نفس الطعام المجفف الذي يتناوله رواد الفضاء الآن فيكفي حل هذه المأكولات المجففة بالماء وتسخينها وها هي جاهزة للأكل. لكن رغم جودة هذه المأكولات ولذتها لا بد من تنويع قائمة أطعمة الطاقم وإضافة بعض المأكولات العادية إليها. وقد بينت التجارب بطلان فكرة إطعام رواد الفضاء ببيض دجاج لأن الفروخ التي فقست في الفضاء الكوني لم تتحمل ظروف غياب الجاذبية فماتت. ومن المرجح ألا يستطيع الرحالة في الفضاء الكوني أيضا الاستمتاع بمذاقة السمك والرخويات لسبب بطء نموها. ولكن ثمة إمكانية تزويدهم بالخضار والحشائش الطازجة التي يمكن زراعتها على متن المركبة، ويعكف خبراء معهد القضايا الطبية والبيولوجية حاليا على تصميم "حاكورة" كونية.
كما تمثل أيضا مشكلة الماء. يحتاج رجل الفضاء في المتوسط إلى 5ر2 لتر من الماء في اليوم تقريبا. وينبغي بالتالي تحميل المركبة بعدة أطنان منه. وسوف يعاد استعمال جزء من الماء المستهلك بعد تنقيته وتجديده. ولكن الهدف المنشود هو إيجاد منظومة فيزيائية - كيميائية تؤمن الدورة المغلقة الكاملة للمواد على متن المركبة الكونية غير أنه هدف بعيد المنال.
أضف إلى ذلك المسائل النفسية. فبسبب البعد الفائق بين المريخ والأرض لن تقطع الإشارة اللاسلكية المسافة بين المركبة والأرض إلا خلال 20 أو 30 دقيقة ذهابا فقط. وهذا يعني أن مركز قيادة التحليق لن يتمكن من التدخل السريع في حالات طارئة قد تحدث أثناء التحليق وسيتعين على طاقم البعثة أن يتخذ القرار بنفسه.
ويعلق العلماء الأمل على حل معظم المسائل النفسية بواسطة تجربة تنظمها روسيا تحت تسمية "المريخ - 500". وتتلخص هذه التجربة في محاكاة دقيقة لظروف الرحلة الكونية التي يقوم بها طاقم من ستة أفراد مدة 520 يوما.
ومما له دلالته أنه فور إعلان روسيا عن قيامها بتجربة "المريخ - 500" صارت الولايات المتحدة إلى اختيار متطوعين للمشاركة في تجربة مماثلة بفرق أنها ستستغرق أربعة شهور فقط.
"الحاكورة" الكونية
يتمثل النموذج الأولي للمزرعة الكونية في أسطوانة فارغة يرصع جداره الداخلي بمئات مصادر الضوء الأزرق والأحمر التي تلعب دور أشعة الشمس. وتركب داخل هذه الأسطوانة ربطة من أسطوانات ذات قطر أصغر ومشبعة بالسماد. وبقدر نمو النباتات تدور الاسطوانات الداخلية مقربة قمم النباتات إلى الضوء. ففي حين تشطل فيه النباتات في بعض الاسطوانات تصبح النباتات في بعضها الآخر ناضجة للحصاد. ويتيح النموذج التجريبي لهذه المزرعة جمع نحو 200 غرام من الخضار كل أربعة أيام. ويزداد مردود المزرعة، بالطبع، بقدر زيادة عدد الأسطوانات الداخلية ومصادر الضوء. ومن المهم أيضا أن "الزراعة الفضائية" تتيح إلى جانب مهمتها الرئيسية تجديد الجو في غرف المركبة الكونية.
تجربة "المريخ - 500"
سوف يمضي الطاقم المتألف من ستة أفراد (رغم أن طاقم البعثة الفعلية سيتكون من 4 أشخاص) فترة 520 يوما في مجمع أرضي مغلق يتكون من خمسة مقاسم تربط بينها ممرات ويحاكي أحدها سطح المريخ. ويزود المجمع بشتى أنواع الأجهزة والعدد والمعدات الطبية التي تسجل مختلف مواصفات الوضع الداخلي والأحوال الصحية للمشاركين في التجربة. ويهم العلماء أن يفهموا كيف يتعامل الناس ضمن فريق في الظروف المشابهة لظروف البعثة إلى المريخ. وسوف تخضع كل المعلومات التي سيجري تسجيلها خلال هذه التجربة - بدءا بتطور العلاقات الشخصية بين أفراد الجماعة وانتهاء بتركيبة المأكولات - لتحليل دقيق من قبل الخبراء بغية التحوط إزاء أكبر قدر ممكن من الأوضاع المحتملة التي قد تنشأ إبان التحليق الفعلي والعثور على حلول مسبقة لها.
وهناك عدد كبير من المتطوعين للمشاركة في هذه التجربة معظمهم رجال، وهذا مفهوم لأن الخصائص الفيزيولوجية والنفسية للمرأة، كما تبين التجربة، تستبعد فرص انضمامها إلى البعثة الأولى إلى المريخ.
المصدر : خاص نوفوستي