ارشيف من : 2005-2008

وثيقة الطروحات المسيحية اللبنانية

وثيقة الطروحات المسيحية اللبنانية

التالي:‏

مقدمة الوثيقة:‏

لأنّ لبنان من دون مسيحييه ليس وطناً، تماماً كما هي حاله من دون مسلميه، ولأن لبنان الرسالة هو مسؤولية مسيحية ـ إسلامية مشتركة، ولأن لبنان هو محفّز حوار الحضارات ومهماد صراعها، ولأن استهداف المسيحيين قد أدخل لبنان في مسار إنحداري تتوجب معه معالجة مكامن الخلل والتعامل مع جذور المشكلة وليس مع ظاهرها، ولأن من رفض قيام لبنان مسيحي منعزل عن محيطه، له على الشريك الآخر أن يرفض معه قيام لبنان مسلم متنكر لصيغتة، ولأنه لا بديل للمسيحيين عن الاندماج في محيطهم والتآخي ضمن مجتمعهم، مع الحفاظ على شخصيتهم وهويتهم الحضارية المتجذرة في الشرق والمنفتحة على حضارة الغرب، ولأن الحياة المشتركة الواحدة هي أكثر من عملية تلاصق قسري، إنما هي مدخل الى المواطنية ومنظومة حقوق وواجبات، تلجها الجماعات الروحية اللبنانية طوعاً عندما تطمئن الى استقرارها ومستقبلها، وبعد قراءة هادئة في الواقع الوطني والمسيحي، واستنتاج العبر والدروس من التجربة التاريخية، وبعد مشاورات أجريت مع العماد ميشال عون إثر أزمة فراغ الرئاسة، نعلن الطروحات المسيحية اللبنانية التالية:‏

1 - في المسألة الكيانيّة:‏

إن المسيحيين يستوحون أداءهم من الإرشاد الرسولي ونداء السينودس والتعاليم المسيحية، ولهم في لبنان وجودٌ مؤسس ونهائي، كما أن الحرية والتعددية وقبول الآخر هي من ميزات لبنان الحضارية، ومن ثوابته الأساسية أنه لا يحكم "تحت رحمة أيديولوجية الأكثرية" بل بصيغة الشراكة والتوازن والديمقراطية التوافقية.‏

وبما أنهم ينشدون التآخي والتعاضد داخل مجتمعهم فإنهم يسعون إلى الانفتاح والتواصل مع المجتمعات الأخرى، نابذين كل أشكال الدونية والذمية والتبعية، توّاقين دائماً الى تمتين الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، رافضين سياسة المحاور الاقليمية والدولية، ساعين الى صداقة كافة الشعوب والدول.‏

إن الدور الفاعل هو الذي يثبّت الوجود ويحافظ عليه، وما المسيحيون في العراق وفلسطين إلاّ البرهان الساطع على أن الوجود للوجود فقط هو طريق الزوال. وعليه فإن اللبنانيين عمومًا، والمسيحيين خصوصاً، مدعوون دعوة صادقة إلى قراءة متأنية لوثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله.‏

2- في أزمة المسيحيين وواقعهم الراهن:‏

انطلاقاً من أن استهداف المسيحيين في حضورهم ودورهم وحقوقهم هو استهدافٌ للبنان في وحدته وفرادته، ينصب اهتمامنا على ما يصيبهم من تهميش، متوقفين بشكل خاص عند الخلل الديمغرافي الناجم عن مرسوم التجنيس والهجرة والتهجير والحؤول دون استعادة الجنسية لبعضهم وسوء تمثيلهم النيابي جرّاء قوانين الانتخاب الجائرة، ناهيك عن مشاركتهم الشكلية في الحكومة والإدارة العامة والقضاء والمؤسسات الأمنية، إضافةً الى ما تعرضوا له من اضطهاد وانتهاك لحرياتهم، وما نالهم على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية.‏

وأزمة الوجود المسيحي في لبنان وإن تفاقمت راهناً مع الفراغ الحاصل في سدة الرئاسة الفارغة في المضمون منذ عقدين، فهي تعود بالزمن الى العام 1969 مع بدء عملية تقويض لبنان الوطن والنظام والدولة.‏

والأزمة الراهنة ما هي إلا امتداد لما كان في زمن الوصاية السورية التي شكّل المسيحيون رأس حربة في مناهضتها، ودفعوا الثمن الأغلى لاستعادة السيادة والاستقلال، وفي ذهنهم أن زوالها سيكون المدخل لتحقيق المشاركة من جهة وبناء الدولة من جهة أخرى. غير أن شيئاً من هذا لم يحصل، فكان إمعانٌ في تزوير ارادتهم بفعل انتخابات العام 2005، وتعطيل المجلس الدستوري لمنعه من بت الطعون الانتخابية المحقة، وعند تشكيل الحكومة غُيّب عنها ممثلوهم الحقيقيون ليستكمل المشهد بفقدان الحكومة لشرعيتها الميثاقية مع خروج الوزراء الشيعة منها.‏

وفي حين تبوّأت الزعامتان الشيعية والسنية منصبي رئاسة مجلس النواب والحكومة، كان للخارج مع بعض الداخل دورٌ كبير في إنكار هذا الحق على المسيحيين، تمهيداً لتمرير سياسات وأهداف خارجية تضرب مواقع الممانعة والرفض ولا تقيم وزناً للمصلحة الوطنية اللبنانية، الأمر الذي يشكل حاضراً جوهر أزمة الاستحقاق الرئاسي، ويُخشى معه ألا يعي الشعب اللبناني خطورتها إلا بعد فوات الأوان.‏

3- قواعد وأصول الديمقراطية في الوسط المسيحي:‏

إن الفكر الآحادي الذي سقط في العالم أجمع، وبخلاف ما ينظر إليه البعض على أنه مصدر قوة لهم، يبقى الخطر الأكبر عليهم.‏

من هنا فإن مبدأين وركيزتين ومرجعية واحدة يجب أن ترعى علاقة الأطراف المسيحية في ما بينها:‏

المبدأ الأول هو التعامل مع التنوع الفكري والسياسي والتعدد الحزبي وغير الحزبي على أنه ميزة يتوجب الحفاظ عليها.‏

والمبدأ الثاني هو الاعتراف بالآخر وبوجود أكثرية وأقلية، كلاهما ملتزمتان عدم الانقلاب على الديمقراطية وتداول القيادة السياسية.‏

أما الركيزة الأولى فهي للأكثرية التي لها حق القيادة السياسية، والركيزة الثانية هي للأقلية التي لها إما الخيار بالانضمام إلى الأكثرية وفقاً لحجمها التمثيلي وإما تشكيل معارضة ترصد أخطاء الأكثرية وتطرح البديل عنها في التداول الديمقراطي.‏

أما المرجعية فهي بكركي التي تبقى الضامنة والساهرة على احترام هذه القواعد؛ فالكنيسة "سلطة عليا" وبكركي كانت وستكون المرجعية الروحية والوطنية التي لا نزاع عليها. ولكي تبقى كذلك يجب أن لا يُسمح لأحد باستخدامها كسلطة موازية أو منافسة للسلطة السياسية، وأن تنأى بنفسها عن التجاذبات السياسية إقتداءً وعملاً بالإرشاد الرسولي الذي جاء في فقرته 112 ما حرفيته : " ... فليس لها اذن أن تلتزم مباشرة الحياة السياسية لأنه ليس عندها في الواقع حلولاً تقنية... ولا تقترح أنظمة ولا برامج اقتصادية وسياسية ولا تبدي إيثاراً لهذه أو تلك... بيد أنه من واجب الكنيسة أن تذكر بلا ملل بالمبادىء التي هي وحدها تستطيع أن تؤمّن حياة اجتماعية متناسقة..."‏

إن أي كلام، في ظل هذه المعادلة، عن انقسام ما بين المسيحيين هو تهديم ذاتي لهم ولبنيتهم السياسية.‏

4- قواعد وأصول الديمقراطية في التركيبة اللبنانية:‏

في الوقت الذي نطمح فيه الى مجتمع تكون فيه المواطنية قاعدة الانتماء الى الدولة لا الطائفية والمذهبية، فان واقع النظام السياسي اللبناني القائم على الاعتراف بحقوق كل طائفة، يفترض بديهياً وحكماً أن يصار الى احترام أصول الديمقراطية التنافسية البسيطة ضمن الجماعة الواحدة المتجانسة طائفياً، والديمقراطية المركبة التوافقية ضمن المجتمع الأكبر غير المتجانس والمتنوع طائفياً. الأمر الذي يجعل من رئيس الجمهورية على سبيل المثال انتاجاً مسيحياً يحظى بقبولٍ وطني، تماماً كما هي الحال في الدول التعددية كسويسرا وبلجيكا وسواها. وفي الحالتين لا تجوز محاسبة أو معاقبة المسيحيين، كجماعة سياسية، على اختيارهم لقياداتهم إنما تجوز مناقشة قياداتهم على خياراتها السياسية وعلى أدائها.‏

5- في هيكليّة المجتمع والاقتصاد:‏

لأن إعادة انتاج وتكوين الطبقة المتوسطة هو في أساس استنهاض لبنان والمسيحيين، يتوجب توجيه الطاقات وبذل أقصى الجهد وإظهار المزيد من التضامن والتآخي المجتمعي في قطاعات التربية والتعليم والصحة والسكن، وبما يحقق المزيد من العدالة الاجتماعية. كما يتوجب إيلاء اللامركزية الموسّعة والتنمية المتوازية والمستدامة وهجرة الأدمغة ما تستحقه من اهتمام وأولوية وايجاد الحلول العصرية الملائمة لها.‏

6- في بناء الدولة:‏

يبقى الإصلاح ومحاربة الفساد "حجر الزاوية" في عملية بناء الدولة القوية القادرة والعادلة التي تُرسي حكم القانون وتطمئن مواطنيها وتفيد من مكامن القوة وميزات كل مكوّن من مكوّناتها.‏

يرفض المسيحيون كل مقولات الأمن الذاتي الذي يحمل في طياته سمات التقسيم والتفتيت مقابل إرساء منظومة دفاعية وطنية تكسب لبنان المناعة والاستقرار وتشكل قوة رادعة بوجه الأعداء، كما تسمح ببسط سلطة الدولة على كامل التراب اللبناني وتصون سيادة لبنان واستقلاله من أي تدخل خارجي.‏

7- في الأخطار المحدقة:‏

خطران داهمان يتهددان لبنان ومسيحييه: خطر التوطين الذي من شأنه أن يغيّر المعادلة الديمغرافية القائمة على توازن حساس ودقيق أصلاً، والذي يسعى لبنان، المفتقر الى الموارد، وذو الكثافة السكانية السادسة في العالم، إلى تحقيقه بهجرة أبنائه إلى الخارج، الأمر الذي لا يحتمل استيعاب أي فائض بشري. وخطر الفائض المالي الذي يستعمل في شراء الأراضي وتبديل هويتها، وهذا ما يضع لبنان مرة أخرى في دائرة وصاية جديدة ويضرب فلسفة السيادة والقرار الوطني الحر. أضف إلى ذلك حال المديونية العامة التي فاقت قدرة لبنان على الايفاء بالتزاماته والتي يخشى معها أن تفرض عليه مقايضتها بالتوطين أو سواه من الأخطار التي لا تمت الى المصلحة الوطنية بصلة.‏

8- في بعض المطالب الآنية:‏

أولاً ـ إعتماد مبدأ التعامل بالمثل وتحقيق العدالة السياسية كقاعدة أساسية لتوازن السلطات.‏

ثانياً ـ إعادة الاعتبار الى موقع الرئاسة الأولى بضمان وجود مواصفات ذاتية وتمثيلية في شخص الرئيس‏

وتوضيح بعض صلاحياته.‏

ثالثاً ـ إقرار قانون عادل للانتخابات النيابية (يعتمد الدائرة الصغرى) ليؤمّن صحة التمثيل ويضمن المشاركة المتساوية.‏

رابعاً ـ تصحيح الخلل الحاصل في تمثيل المسيحيين في الحكومة والادارة والمؤسسات الأمنية والقضاء.‏

خامساً - إنهاء ملف المهجرين المسيحيين في الجبل واللاجئين الى اسرائيل والمفقودين في سوريا.‏

9- رسالة المسيحيين في لبنان:‏

إن جزءاً من أزمة المسيحيين يعود الى انطباع تكوّن لديهم ولدى محيطهم ولدى الغرب بأن وجودهم ورسالتهم قد انتفيا علةً وسبباً في زمن العولمة ولقاء الغرب بالشرق مباشرة. غير أن الواقع هو عكس ذلك، فلقاء نصفي العالم على الضفة الشرقية للمتوسط قد جاء صدامياً لا حوارياً، عنفياً لا حضارياً، الغائياً لا تسامحياً ولا تفاعلياً، ومن المؤكّد أن هذه الصورة الصدامية تخفي علّتين إثنتين: أولاً عدم ايجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية، وثانياً الفشل في نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذه المنطقة من العالم.‏

إن الوجود والرسالة المسيحيتين في لبنان يشكلان الجواب الوحيد على هذين التحديين، إذ وحده هذا الحضور الحر المتآلف والمتناغم مع الجماعات الروحية الأخرى يقدّم النموذج العملي والثقافي والمجتمعي والحضاري المطلوب.‏

10- طريق الخلاص:‏

على المسيحيين أن يتذكّروا أن الانتظار هو موت بطيء، وأن الشهادة للحق والتمسّك بالرجاء هما من صلب إيمانهم وأن السبيل لتحويل مسارهم الإنحداري التفككي إلى مسار تصحيحي استنهاضي هو في الانتقال من مرحلة الاعتراض والممانعة إلى فعل المقاومة السياسية الكفيلة وحدها المحافظة على وجودهم ودورهم.‏

وإذا كان الوجود الحر هو مسألة مطروحة على المسيحيين أنفسهم، فهو أيضاً وبالمقدار عينه تحدٍ كبير وتاريخي مطروحٌ على شركائهم المسلمين إن أرادوا لهذا الوطن أن يبقى مطرحاً للتلاقي والتنوع والحوار مثبتين بذلك أن الإسلام دين رحمة وتسامحٍ وقبولٍ للآخر.‏

2007-12-03