ارشيف من : 2005-2008
تجارة رقيق فرنسية بشعارات إنسانية
وطائرات وشاحنات وجمعيات إنسانية ودول تحمل الناس بأعداد لا تُحصى لـ"إنقاذهم" من الموت والفقر، في أعمال تطرح نفسها على أنها شبيهة بأعمال كبار الأنبياء. ومن هذه السفن "سفينة زوح" ـ سفينة بالمعنى المجازي ـ هي عبارة عن منظمة إنسانية فرنسية تطلق على نفسها أيضاً اسم جمعية "إغاثة أطفال تشاد". تسعة فرنسيين، ستة من أعضاء الجمعية المذكورة، وثلاثة صحافيين، أُلقي عليهم القبض مؤخراً في تشاد مع طيار بلجيكي وستة ملاحين إسبان كانوا بصدد تنفيذ عملية تهدف إلى نقل 103 أطفال من تشاد إلى فرنسا، تتراوح أعمارهم بين عام واحد واثني عشر عاماً، وذلك لكي يصار إلى تسليمهم لأسر فرنسية تعهدت باستقبالهم أو تبنيهم وتوفير الحياة السعيدة الرغيدة لهم!! إنقاذ أطفال يتامى من الموت في حرب دارفور لتأمين حياة أفضل لهم في فرنسا، على ما يقوله العاملون في الجمعية الإنسانية الفرنسية.. لكن الرئيس التشادي إدريس ديبي إنطو له رأي مختلف، فقد قال ان هذه العملية ما كان ينبغي لها أن تحدث، وهو الأمر الذي وافقت عليه السلطات الفرنسية بلا تحفظ. لكن الانزعاج بدا واضحاً على مستوى السلطات من الاتصالات التي أجراها والتصريحات التي أطلقها مسؤولون كبار كوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ووزيرة الدولة الفرنسية لشؤون الخارجية وحقوق الإنسان راما ياد، وخصوصاً على مستوى وسائل الإعلام، التي أظهرت بشكل أو بآخر عدم اتفاقها مع وجهة نظر الرئيس التشادي الذي وصف العملية بأوصاف تراوحت بين "الخطف" و"دعارة الأطفال" و"تجارة الأعضاء" و"الاسترقاق"، إضافة إلى قوله إن الأطفال المعنيين ليسوا أيتاماً. والدليل على الاستياء أن الصحافة الفرنسية نشرت أقوال الرئيس التشادي وذكرت على الفور بـ"فضل" فرنسا عليه، حيث انها تدخلت عسكرياً العام الماضي لحماية النظام القائم في نجامينا من جماعات المتمردين التي تعبر المناطق المحاذية لدارفور في شرق تشاد وشمال شرق أفريقيا الوسطى. واضح ان فرنسا كانت ترغب في سماع كلام آخر من فم الرئيس التشادي، ربما من نوع الكلام الذي تقوله المنظمات الإنسانية التي يرمي أعضاؤها أنفسهم على جبهات الحروب لشدة ما تجيش في نفوسهم مشاعر الإشفاق على أطفال دارفور وغير دارفور!
ولكن ما الذي كان يمكن للرئيس التشادي أن يقوله بعد أن طبقت الآفاق تصريحات الأطفال أنفسهم. منهم من قال انه كان يلعب مع رفاقه عندما جاءت سيارة فيها رجلان أبيضا البشرة برفقة أسود يتكلم العربية وأعطوهم الحلوى ووعدوهم بأكثر من ذلك إذا ما صعدوا معهم في السيارة! طفلة من هؤلاء الأطفال قالت إنهم أعطوها حبوباً بيضاء مع أنها لم تكن مريضة! أطفال آخرون قالوا إنهم استُدرجوا من قبل أشخاص وعدوهم بأنهم سيفتحون مدرسة لتعليمهم، ثم نقلوا إلى مأوى للأيتام في تشاد حيث أُخبروا بأنهم لن يعودوا إلى أهلهم! وأكثرهم قالوا إن أهلهم أحياء يُرزقون وإنهم يريدون العودة إلى ذويهم. من الواضح إذاً أن العملية هي عملية خطف أو استدراج، ومن غير المعقول أن يكون الدافع إنسانياً، حتى لو كانت هنالك أسر فرنسية سبق أن تعهدت باستقبال الأطفال وتأمين الحياة السعيدة الرغيدة لهم.. إذ لو كان الأمر عملية إنقاذ فعلاً لكان ينبغي للأمر أن يحصل عبر قنوات رسمية معترف بها ومن خلال إجراءات شفافة ومتفق عليها من قبل جميع المعنيين. وربما يكون من المقبول أن تسهم تلك الأسر بتغطية التكاليف المالية للعملية، لكن العملية أخذت شكل صفقة تجارية، ولا شيء يؤكد برغم تعهد الأسر أن هذه الأسر ستكون الوجهة الحقيقية التي كان سيحط هؤلاء الأطفال رحالهم عندها. فالحقيقة أن الصحف تتحدث يومياً عن خطف الأطفال وغير الأطفال واستغلالهم في أقبية العمل السري أو في شبكات الدعارة أو لـ"تقصيبهم" وبيع أعضائهم بالجملة أو بالمفرق. وكثير من ذلك يجري تحت عنواني الإغاثة والعمل الإنساني الذي تضطلع به منظمات تطلق على نفسها أسماء لامعة.
السلطات الفرنسية أدانت العمل ووصفته بأنه غير مشروع.. ولكن! أظهرت تصريحات وزيرة الدولة الفرنسية لشؤون الخارجية وحقوق الإنسان راما ياد، أن سلوك الدولة الفرنسية لم يتسم بالتقصير وحسب، بل وبالتراخي إلى حد التواطؤ، عن العمل الجاد من أجل منع تنفيذ هذه العملية، بالشكل الذي يُلجأ إليه عادة عندما يتعلق الأمر مثلاً بمنع الإرهابيين من تنفيذ عملية إرهابية. هاكم ما قالته وزيرة الدولة: "هل تريدوننا أن نقوم بتكبيل يدي رئيس الجمعية بالقيود؟ على أي أساس؟ عملنا كل شيء لكي لا يقوم بتنفيذ العملية.. حذرنا وأخطرنا ونبهنا ووضعنا الوزارات الأخرى ومراكزنا في الخارج والسلطات القضائية والأسر الفرنسية المعنية في جو الموضوع.. فعلنا كل شيء لمنع هذه العملية.. وبرغم ذلك، أي برغم علم السلطات الفرنسية بما يجري، شُرع بتنفيذ العملية لأن القائمين بها كانوا مطمئنين ـ فيما يبدو ـ إلى وجود فسحة تسمح لهم بقيادة "السفينة" إلى حيث يبتغون. لكن رياحاً غير ملائمة هبت على "السفينة" واكتُشفت من قبل السلطات التشادية التي لا يبدو أنها حُذرت وأخطرت ونبهت فيمن حُذّر ونُبّه وأُخطر من قبل السلطات الفرنسية! ولا ندري كم من السفن المشابهة تصل إلى بر الأمان في بلاد الغرب محملة بهذه "السلع" البشرية التي يتزايد عليها الطلب في تلك البلاد! ولا ندري كم من الجمعيات والمنظمات تمارس هذه التجارة تحت أسماء الإنسانية والحقوق! ولا ندري كم من الحروب تفتعل هنا وهناك من أجل أغراض منها خلق الظروف الملائمة لهذا النوع من الخدمات! ولا ندري كم من الميليشيات وشركات الأمن الخاصة تعمل في خدمة تلك المنظمات والجمعيات! فضيحة انكشفت بين فضائح لم تنكشف.. وبدلاً من عمل اللازم ليس فقط عبر ملاحقة المتورطين في "سفينة زوح"، بل عبر سد المنافذ أمام السفن المشابهة، يبدو ان السلطات الفرنسية أكثر اهتماماً بالعمل الدبلوماسي لتجاوز هذا "القطوع" على مستوى العلاقات مع تشاد، حيث أبدى كل من كوشنير وياد استعدادهما للسفر إلى نجامينا. كما يبدو أنها بدأت بالعمل من أجل تمييع المشكلة و"إنقاذ" المجرمين: ذلك يبدو واضحاً من خلال طرح إشكاليات من نوع الأمل بإجراء تحقيق منفصل مع الصحافيين، على اعتبار أنهم "شاركوا في العملية في إطار عملهم" (الإعلامي المقدس)! أو من نوع نية فرنسا أو عدم نيتها في طلب استعادة الفرنسيين المتورطين لمحاكمتهم (إنسانياً) وفق أحكام القانون الفرنسي، في أجواء بدأت تفوح منها روائح مشابهة لتلك الروائح التي تفوح في كل مرة يتعرض فيها أوروبيون أو أميركيون للملاحقة، في هذا أو ذاك من بلدان العالم الثالث، في قضايا المخدرات أو حقن الناس عمداً بفيروس الإيدز أو ارتكاب جرائم الحرب.
عقيل الشيخ حسين