ارشيف من : 2005-2008
روسيا بوتين: أكثر من فوز انتخابي!
حوالى سبعين مليون روسي أدلوا بأصواتهم في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم الأحد الماضي (2/12/2007) وحملت إلى البرلمان (450) نائباً، بينهم أكثر من (300) عن حزب روسيا الموحدة الذي يقوده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. نصر كاسح وفوز مؤزر لا نظير له على ما رددته وكالات الأنباء العالمية في تعليقاتها على تنامي قوة بوتين الذي بات يحظى بتأييد (384) نائباً، إذا ما أضفنا الـ(84) مقعداً التي حصل عليها حلفاؤه في الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي يقوده اليميني فلاديمير جيرونوفسكي وحزب روسيا العادلة الذي يقوده اليساري سيرغي مينوروف. أما الحزب الشيوعي المعارض بقيادة غينادي زيوغانوف فقد حصل على 11.7 في المئة من المقاعد، وهي نسبة لا تسمح له بلعب دور مؤثر في مجريات الحياة البرلمانية الروسية.
وتعكس هذه النتائج تعاظم قوة حزب روسيا الموحدة وزعيمه بوتين قياسا إلى انتخابات العام 2003، حيث كان قد حصل على تأييد 37.57 في المئة من أصوات المقترعين، وهي النسبة التي ارتفعت إلى 79.4 في المئة في الانتخابات الحالية. كما أن نسبة المشاركة التي ارتفعت من 55.75 في المئة عام 2003 إلى 62 في المئة في الانتخابات الحالية، هي مؤشر آخر على ازدياد تأييد الشعب الروسي لسياسات بوتين وتمسكه بضرورة استمرارها بعد ولايته الثانية التي تنتهي في أيار/ مايو المقبل. والسؤال المطروح هو عن إمكانية وكيفية استمرار هذه السياسة بعد رحيل بوتين الذي حكم روسيا ولايتين متتاليتين، في وقت لا يسمح له الدستور بالترشح لولاية ثالثة. الانتخابات الأخيرة وما أسفرت عنه من فوز روسيا الموحدة بأكثرية ساحقة في الدوما هي ضمانة أولى لذلك الاستمرار.. والضمانة الثانية هي ما بات يُعرف باسم "الحق المعنوي" الذي اكتسبه بوتين، والذي يسمح له بالاحتفاظ بدور مؤثر أو حتى حاسم في توجيه السياسات الروسية. وهنالك مجال للحديث عن ضمانة ثالثة تتمثل بإعادة انتخاب بوتين بعد إجراء تعديل دستوري. والواقع أن هذا التعديل ممكن إذا ما وافق عليه ثلثا أعضاء الدوما + واحد. وإذا كان حزب بوتين قد أوصل (300) نائب إلى المجلس، فإن حلفاءه مستعدون لتقديم أكثر بكثير من الصوت الواحد المتبقي للتصويت على التعديل. وعلى كل حال فإن مسألة التعديل لم تطرح بشكل مباشر، ولكن مجرد الحديث عنها يوحي باحتمال طرحها، خصوصاً أن مظاهرات شعبية كانت قد استبقت الانتخابات الأخيرة وبدأت بالخروج في مختلف المناطق الروسية للمطالبة بتعديل الدستور وإعادة انتخاب بوتين. لكن إعلان حزب روسيا الموحدة أنه سيقدم في 17 كانون الأول/ ديسمبر اسم مرشحه للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 2 آذار/ مارس 2008، يذهب بالأمور في اتجاه مختلف، اللهم إلا إذا حدثت ـ من الآن حتى موعد الإعلان عن اسم المرشح، أو حتى بعد هذا الموعد ـ تطورات من نوع تعديل الدستور والإعلان عن فلاديمير بوتين مرشحا للرئاسة عن حزب روسيا الموحدة. وإذا لم يحدث ذلك فمن المؤكد أن الرئيس بوتين لن يكون بعيداً عن اختيار الرئيس الجديد، وأن هذا الرئيس لن يكون بوسعه أن يحكم روسيا دون تأييد الدوما الذي يسيطر عليه حزب بوتين. وعلى ذلك تصبح الإجراءات الدستورية ـ بما فيها انتخاب الرئيس ـ مجرد شكليات ما دام كل من الشارع والبرلمان الروسيين متمسكا بضرورة استمرار سياسات بوتين. وعلى ذلك أيضاً تصبح تلك السياسات هي مدار الاهتمام، بغض النظر عن الأشخاص الذين يقودون تلك السياسات. وهنا يطرح السؤال عن طبيعة تلك السياسات.. إنها إجمالا شيء مختلف عن سياسات التسيب والاهتراء والفساد والبيروقراطية والاستقالة في مجال السياسة الخارجية التي مورست خلال العقدين الأخيرين من الحكم السوفياتي، وأفضت إلى انهيار هذا الحكم بالصورة المعروفة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.. وهي شيء مختلف عن السياسات التي اعتمدت في روسيا خلال فترة حكم يلتسين، والتي كانت عبارة عن عملية إدارة لحملات النهب المنظم لثروات روسيا من قبل موظفين تحولوا خلال أشهر قليلة إلى أباطرة ماليين لا عمل لهم غير تكديس المنهوبات في مصارف أوروبا وأميركا، بالتوازي مع الإذلال والإفقار المنظمين اللذين تعرض لهما الشعب الروسي، في وقت صارت فيه "جزرة" المساعدات المالية الخارجية هي العنصر الحاسم في رسم السياسات الروسية.
نهب منظم وارتخاء سياسي أمام الغرب رافقه إصرار رسمي على تدمير الاقتصاد الروسي، وخصوصاً على "كسر" الآلة الحربية الروسية وإذلال قيادات وأفراد الجيش الروسي عن طريق إفقارهم واضطهادهم، في وقت كانت فيه حدود الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تقترب فيه من موسكو بعد تدمير الاتحاد اليوغوسلافي واجتذاب جميع بلدان حلف وارسو السابق ومعظم بلدان أسرة الجمهوريات المستقلة إلى الحظيرة الغربية. ومنذ وصوله إلى الحكم عمل بوتين بحنكة وتصميم على قلب الطاولة في وجه الجهات الداخلية والخارجية التي كانت تأخذ كامل حريتها في تخريب روسيا. وبعد ولايتين أمضاهما في الحكم، قطع بوتين شوطاً واسعاً على طريق إعادة التوازن إلى الاقتصاد الروسي، ما سمح بتسجيل زيادات مهمة في مستويات الدخل، وحوّل النفط والغاز الروسيين إلى سلاح ناجع في المعترك السياسي الدولي، وأعاد الحياة إلى الجيش الروسي وأسلحته، وألغى اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا بعد يوم واحد من الانتخابات الأخيرة، وعارض الدرع الصاروخية الأميركية، وأربك التمدد الأطلسي في أوكرانيا وجورجيا وكوسوفو، ودخل في تحالفات دولية عسكرية وسياسية مناهضة للغرب، واعتمد سياسة خارجية تذكر بالسياسات السوفياتية في عز احتدام الحرب الباردة. كل ذلك يفسر التأييد الواسع الذي تحظى به سياسات بوتين من قبل الشارع الروسي، كما تفسر الغيظ الأميركي والغربي الذي تمثل بحملة الانتقادات التي وجهت من واشنطن وسائر العواصم الغربية إلى سير العمليات الانتخابية في روسيا، وهي الحملات التي لم تتوقف خلال السنوات الأخيرة تحت عناوين حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية.. حملات تذهب أدراج الرياح، لأن السفير الأميركي في موسكو لم يعد يتمتع بصفة المندوب السامي والحاكم الفعلي.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1244 ـ 7 كانون الاول/ ديسمبر2007