ارشيف من : 2005-2008

التهيّؤ والاستعداد للوفادة على الله

التهيّؤ والاستعداد للوفادة على الله

بقلم الشيخ مصطفى قصير العاملي

قد يتصور البعض بأن الاستعداد والتهيؤ للحجّ ينحصر في انجاز المعاملات الرسميّة وتحضير المستلزمات الماديّة والحوائج الشخصية.. مع أنها أمور ضروريّة إلا أنّها مشتركة بين كل الأسفار والرحلات تقريباً.. مهما اختلف فيها المقصد وتنوّعت الغايات..
لكنّ رحلة الحجّ الى بيت الله الحرام تحتاج إلى نوع آخر من الاستعداد والتهيّؤ تقتضيه طبيعة هذا السفر والغاية المرجوة منه، فهو سفر إلى الله تعالى، لحجّ بيته الحرام، وتلبية دعوته، والاستجابة لندائه، والفوز بمغفرته ورضوانه..
"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران: 97)
"وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 27)
فقصد بيت الله سفرٌ عباديٌ وروحيٌّ وتربويٌ وعاطفيٌ.. وهذه الأبعاد تفترض نوعاً من الاستعداد يتناسب معها، ومع حلول هذا الموسم العبادي الخاص يحسن التذكير بأمور ينبغي لمن ينوي التشرّف بحجّ بيت الله الحرام أن يلتفت إليها ويعمل على تحقيقها قبل أن تدقّ ساعة الرحيل، وتنطلق قوافل الحجيج..
أوّلاً: الاستعداد والتهيؤ المعرفي:
تحت هذا العنوان تندرج مجموعة من الأمور التي ينبغي التعرف اليها قبل الحجّ من خلال مطالعة الكتب المرتبطة بالموضوع وحضور الدروس الخاصة والاستماع الى ذوي المعرفة والخبرة والاختصاص، وأهم ما في هذا الباب:
1. تعلم أحكام الطهارة والصلاة والخمس بالمقدار الذي يمكنه من الوثوق بصحة أعماله، فقد يقع الحاجّ في مشكلات شرعيّة في أعمال حجه نتيجة أخطاء في غسله أو وضوئه أو صلاته، حيث أنّ بعض مناسك الحج كالطواف وصلاته يشترط في صحتها صحة الطهارة وصحة الصلاة، كما أن طهارة مال الحج أمر له مدخلية في مقبوليّته، والوقت يضيق عادة عن تعلمها أثناء رحلة الحج وقد لا تسمح الفرصة بذلك.
2. تعلم أحكام الحج ومناسكه، وكيفية أدائها، وعدم الاتكال على أنه يسافر في حملة يرافقها مبلّغون، فهو لا يعفي الحاجّ من تعلم الأحكام والمناسك. العديد من الأخطاء التي يقع فيها الحجّاج أثناء أداء المناسك تنشأ عادةً من الجهل وقلة الالتفات إلى تعليمات المرشدين، ونتيجة تقليد الآخرين بشكل خاطئ.
3. التعرف الى الأعمال المستحبة في هذه الرحلة العبادية، والاستعداد للقيام بأكبر قدر ممكن من الطاعات والمستحبات، فهي فرصة قد لا تتكرر، فينبغي أن تستغلّ بالكامل للتزود والحصول على رضوان الله، فالوقت ليس للتلهّي والعبث والتسلية.
4. التعرف الى معاني الحج وأهدافه، وأبعاده، وقدسية البيت الحرام والأماكن المباركة المحيطة به، ليعرف الى أين هو ذاهب وأهمية الموقف وقيمة العمل. 
ثانياً: الاستعداد والتهيؤ الروحي:
الوافد على سلطان من سلاطين الدنيا لطلب شيء مما لديه، يحرص على تحسين ظاهره وتجميل شكله واختيار عباراته وتنسيق طلباته بما يليق بالمقام ويساعد على بلوغ المرام. أما الوافد على سلطان الدنيا والآخرة والممسك بملكوتهما وجبّار السماوات والأرض، المطّلع على السرائر، والذي لا تخفى عليه خافية، فعليه الاهتمام بالباطن قبل الظاهر وبالقلب قبل الجوارح، وبالنيّة قبل الأقوال والأفعال. ولذا كانت رحلة الحجّ رحلة الروح قبل الجسد، فلو حجّ بجسده دون روحه  لما نفعه الحج شيئاً.
التهيؤ الروحي يتحقق بالخطوات التالية:
1. التوبة والرجوع الى الله والندم على كل ذنب أو معصية، ثم معاهدة الله تعالى على عدم العودة الى المعصية أو الذنب، لأن الوافد على الله يجب أن يفد عليه بقلب نظيف، طاهر، بيّضته التوبة، وغسلت أدرانه، كي يكتب في عداد المقبولين في ضيافة الله.
تصوّر أيّها الحاج كيف سيكون موقف المذنب صاحب القلب الملوّث بالمعاصي وارتكاب المحرمات عند دخوله الى بيت الله على هذه الحالة، وهو يعلم أنّ صاحب البيت مطلع على ما في نفسه، عالم بحاله؟! فما نفع جمال المظهر في هذا الموقف إذا كان العبد قبيح السريرة، وما نفع نظافة الظاهر إذا كان العبد ملوّث الباطن ومسود القلب والعياذ بالله!!
2. التحلل من حقوق الناس المادية والمعنوية، بأدائها إليهم والتسامح منهم، والتوصية بما يعجز عن أدائه. في وصية الامام الصادق(ع) لمن أراد الحجّ: ..وودّع الدنيا والراحة والخلق واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين..
3. المبادرة الى قضاء حقوق الله العبادية والحقوق الشرعية التي قصّر في أدائها، والتوصية بما يعجز عن أدائه، ففي وصية الامام الصادق(ع) لمن أراد الحجّ: ..فاستعدّ استعداد من لا يرجو الرجوع..
4. تهذيب النفس وتطهيرها من كل عيب ومن كل خُلُقٍ وسجيّةٍ لا يحبها الله، كالأنانيّة وحبّ الذات والتعلّق بالدنيا واستشعار الكراهية لأحد من المؤمنين... ثمّ التحلّي بالصفات الباطنية التي يحبها الله، كالرحمة والعفو والجود واللطف ومحبّة الناس وخاصة المؤمنين منهم، والمبادرة إلى إعانة الضعيف والمحتاج ونصرة الحق والإخلاص وطيب السريرة..الخ.
إذ كيف يرجو الحاجّ أن يُدخله الله عزّ وجلّ في رحمته وأن يمنّ عليه بعفوه ومغفرته، وأن يشمله بجوده وكرمه، وأن يستجيب له دعاءه، ويعطيه سؤله، وقلبه خالٍ من الرحمة والشفقة، لا يعفو ولا يتجاوز عن سيئة، ولا يبسط يده بعطاء، ولا يبادر لعمل خير، ولا لقضاء حاجة مضطرّ..!!
الرحمة الإلهية مبذولة غير ممنوعة لكنها تحتاج الى من يستحقها ومن هو أهل ومحل لها..
ثالثاً: الاستعداد والتهيؤ العاطفي:
عندما يمتلئ قلب المؤمن بحبّ الله عزّ وجلّ لا شكّ أنّه يلتهب شوقاً إلى لقائه، ولا شكّ أنّ الدخول الى حرمه وإلى بيته هو أحد مراتب لقائه، فيتجسد الشوق اليه شوقاً الى بيته وحرمه، ولذلك نجد أنّ النظرة الأولى إلى الكعبة المشرفة لها تأثير عاطفي لا يوصف، هذه الكعبة التي طالما استقبلها المؤمن في صلاته وارتبطت بها عباداته ها هو يراها بعينه، ويقترب منها بجسده بعد ان كان يتوجه اليها بقلبه، فيلمسها ويشعر بأنه في عالم ثانٍ، فالتهيّؤ العاطفي أن يعيش الحاج فترة من التأمّل والتذكر بأنّه وافد على الله، قادم على لقاء الحبيب، الغفور الرحيم، الجواد الكريم.
وأن يتذكر أنه سوف يطأ الأرض التي وطئها آدم(ع)، والتي أسكن فيها ابراهيم(ع) من ذريّته، وسعت فيها هاجر بحثاً عن الماء لتروي عطش ولدها اسماعيل ففجر الله لهم بئر زمزم، وفيها امتحن الله ابراهيم(ع) فأمره بذبح ولده اسماعيل، ولما ظهر منهما التسليم لأمر الله، والرضا بقضائه، وعجز الشيطان عن ثنيهما عن طاعة ربهما، فداه الله بكبش عظيم.
وأن يتذكر أنه سوف يحل في مواطن هبوط الوحي، ونزول جبرائيل، والبيت العتيق، الذي وصفه بأنه أوّل بيت وضع للناس، البيت الذي دحيت الأرض من تحته، وطاف الأنبياء والرسل فيه منذ آدم(ع) حتى نبيّنا محمّد (ص)، وحج اليه الأئمة الأطهار(ع) وكبروا وهللوا وعبدوا الله فيه، وفيه حطّم علي(ع) اللات والعزّى وهُبل، وكل أصنام الجاهلية الجهلاء، فكل حجر فيه له قصة مع نبيّ أو وصيّ، وكل زاوية تحكي عبرة، الحاجّ هناك إذا استحضر كل هذا التاريخ وجد للحجّ معنىً آخر وطعماً خاصّاً ولذّة لا تشبهها لذّة، وشعر أنه يقتفي مواطئ أقدام الأنبياء والأوصياء، ويسير في أثرهم، فيعيش حالة اطمئنان لأنّه معهم، ومعهم لا يضلّ الطريق، ولا يخطئ الهدف.
واذا هاج بالانسان الشوق الى لقاء الله، سيطر ذلك على كل مشاعره وأحاسيسه، ورقّ قلبه، الأمر الذي يظهر في تعامله مع الناس وعلاقته بهم، بل يظهر حباً لهم، ورحمة بهم ولطفاً، فمن أحب الله أحب أهله وعياله، والخلق كلهم عيال الله، خاصة رفقاء الطريق، الشركاء في الهدف والمقصد، ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام اذا حجّ يرافق من لا يعرفونه ليقوم بخدمتهم في الطريق، تواضعاً وحرصاً على خدمة المؤمنين، وتقرباً إلى الله.
في الرواية عن الإمام الصادق(ع): ما يعبأ بمن يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمن صحبه.
رابعاً: سلامة الهدف والوسيلة:
روي عن أهل البيت(ع): إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمعة.
الباحث عن لقاء الله والمهاجر اليه لن يجده إلاّ إذا أخلص نيته وأخلص في مسعاه وهجر الأغيار وأزال العوائق التي كانت تحول بينه وبين التوجه إلى الله.
نسأله تعالى أن يكتبنا من وفده ومن حجاج بيته الحرام المقبول حجّهم المغفور ذنبهم المكفّر عنهم سيئاتهم.

الانتقاد/ العدد 1244 ـ 7 كانون الاول/ديسمبر2007

2007-12-07