ارشيف من : 2005-2008
الحج الى بيت الله الحرام: استعباد الخلق اختباراً لطاعتهم
تتميز فريضة الحج ـ أحد أركان الدين الخمسة ـ عن غيرها من الفرائض الواجبة بشعائرها الخاصة التي تتعدد عناوينها وتتفاوت في تطبيقاتها بين شعيرة وأخرى، وهي جميعاً لها مدلولاتها وأبعادها الغيبية التي فُرضت على الناس بناءً عليها، وما على المكلف إلا امتثالها كما جاء بها النبي الخاتم محمد(ص) وتطبيقها، سواء اتضحت له علتها من خلال سبيل من السبل، أم لم تتضح، فهي ـ شأنها شأن غيرها من العبادات ـ عبادة وقفية، يندرج امتثالها بكيفيتها المقررة ضمن المنظومة المتكاملة من العبادات المفروضة على المكلفين، التي تبدأ بالصلاة، العبادة اليومية المتكررة خمس مرات في كل يوم، لتمر بالصوم، العبادة السنوية، التي تجب شهراً كاملاً من كل عام، وصولاً الى الحج، العبادة الموسمية التي تجب على المكلف مرة واحدة في حياته، إضافة الى العبادات الأخرى التي تجب بتحقق شروطها مثل الزكاة وغيرها.
شعائر الحج
وبالعودة الى "الشعائر الخاصة والمميزة" التي انفردت بها فريضة الحج، مثل الطواف والسعي والحلق والرجم والتضحية وما سوى ذلك من شعائر أوجبها المولى تعالى على المكلفين أثناء أدائهم لهذه العبادة، نجد أن أئمة الهدى من أهل بيت النبوة كانوا يوضحون للناس ابتداءً، أو إذا سُئلوا، غايات هذه الأفعال، ومدلولاتها الغيبية، وارتباطاتها المادية والمعنوية، بما يفسر ما هو مبهم منها، ويوضح بعض الجوانب الخافية على الناس فيها.
وفي هذا السياق حديث طويل للإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) مع بعض أصحابه يفصِّل فيه أفعال وتروك الحج من أولها الى آخرها، ويوضح فيه معانيها الغيبية التي يجب على المكلف امتثالها من خلال نيته وعزمه على فعلها أو تركها، ليتحقق له الحج الصحيح الذي يخرج منه كيوم ولدته أمه.
الحج عبادة الاختبار
كانت أعمال الحج التي هي مدعاة افتخار المسلمين من خلال التقائهم في المكان الذي يتوجهون اليه أثناء صلاتهم، وهو الكعبة المشرفة، حيث تلتقي عليها قلوبهم، وتتوحد أفكارهم، وتجتمع كلمتهم، تثير في نفوس أهل الكفر والنفاق غريزة الكراهية والحقد على المسلمين، وكانوا يحاولون التعرض لهم بالانتقاص من أفعالهم في الحج وإعابتها عليهم، وروي في هذا المجال أن بعض الزنادقة وفيهم ابن أبي العوجا، اجتمعوا في المسجد الحرام، في الموسم (الحج)، والإمام الصادق(ع) فيه يوم ذاك، وقد اجتمع عليه الناس يفتيهم، ويجيب عن مسائلهم بالحجج والبراهين، فقال القوم لابن أبي العوجا: هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فأجابهم ابن أبي العوجا الى ذلك، وتقدم نحو الإمام الصادق(ع) وقال له: يا أبا عبدالله أفتأذن لي بالسؤال؟ فقال له الإمام الصادق(ع): سل إن شئت. فقال له: الى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟! من فكَّر في هذا وقدَّر علم أنه فعلُ غيرِ حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أساسه ونظامه؟! فقال له الإمام الصادق(ع): إن من أضلَّه الله وأعمى قلبه استوخم الحق ولم يستعذبه، وصار الشيطان وليَّه وربَّه، يورده مناهل الهلكة ولا يُصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي الى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض، فأحقُّ مَن أُطيع فيما أمر والانتهاء عما زجر هو الله المنشئ للأرواح والصور. فقال له ابن أبي العوجا: ذكرتَ فأحلتَ على غائب؟! فقال له الإمام الصادق(ع): كيف يكون يا ويلكَ غائباً من هو مع خلقه شاهد، وهو أقرب اليهم من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، ولا يكون الى مكان أقرب منه الى مكان، تشهد بذلك آثاره، وتدل عليه أفعاله، والذي بعث بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمدَ بنَ عبدالله، الذي جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضحه لك. فسكت ابن أبي العوجا ولم يدر ما يقول، وانصرف من بين يديه وقال لأصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة. فقالوا له: اسكت فوالله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه. فقال: ألي تقولون هذا؟ إنه ابن من حلق رؤوس من ترون... وأومأ بيده الى أهل الموسم.
لقد اختبر الله تعالى نبيه إبراهيم(ع) في طاعته بأن أمره بذبح ولده إسماعيل، فأطاع الله تعالى في ما أمره، ولما حاول تنفيذ الأمر فدا الله تعالى إسماعيل بذبح عظيم، وقد أمرنا الله تعالى بالحج الى بيته الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل(ع)، ليختبر طاعتنا له في إتيانه، وتنفيذ أوامره ونواهيه، أفلا نكون له طائعين.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد1244 ـ 7 كانون الاول/ ديسمبر2007