ارشيف من : 2005-2008

نحن المجرمون

نحن المجرمون

الحال. إن كنا لا ندرك حقيقة ما نفعل فنواصل السير على الطريق سادرين فالمصيبة فظيعة، وإن كنا ندرك حقيقة ما نفعل ومع ذلك نمضي قدماً في هذا السبيل فالمصيبة أفظع.‏

هذا ما نحن فاعلون إذ نقتل وطننا. فالوطن بمثابة الوالدين، إنه الأم والأب. نحن أبناء هذا الوطن. ليس بيننا من ينكر ذلك، وكلنا يدّعي الاعتزاز بانتمائه الوطني. والوطن بمثابة الولد. الوطن هو الأرض والشعب والدولة. فهو وليد إرادتنا إذ حررناه وحققنا استقلاله، وإذ تبنيناه موئلاً وملاذاً وموطناً نقيم فيه، وإذ آلينا على أنفسنا أن نتمسّك به ونرعاه ونذود عنه وننميه ونرفع علمه عالياً بين أعلام الأمم. فهو ابن إرادتنا وأحلامنا وتطلعاتنا وهو أعزّ ما نورثه أطفالنا وأحفادنا.‏

هذا الوطن الذي هو بمثابة الأم والأب، وبمثابة الولد والحفيد، نغتاله كل يوم بسلوكنا وممارساتنا وسياساتنا وعصبياتنا ونزاعاتنا. هكذا نقتله كل يوم. نحن إذاً في منزلة القتلة. عفوك يا رب.‏

والأدهى أننا نقتل وطناً لا لذنب اقترفه بل في حمأة سجال عقيم بين أهله حول جنس الملائكة. كلٌّ يفسّر القانون والدستور والنهج الديموقراطي والمصالح الوطنية على هواه.‏

الكل مجمع على أن لبنان عليل، بفعل جراثيم ضخها أبناؤه في جسمه على امتداد أكثر من ثلاث سنوات، أي منذ انفجار الأزمة الوطنية التي تعود إلى صدور القرار ,1559 وفي اليوم التالي تمديد ولاية الرئيس العماد إميل لحود. ولبنان سقيم بفعل أورام في جسمه من جراء لكمات تعرّض لها من الداخل والخارج، شرقاً وغرباً، ولا ننسى أن عدواً غاشماً يربض على حدود الوطن الجنوبية، وهو حليف لدولة عظمى تتدخل في شؤون بلدنا المصيرية فيما هي تهيب بقوى العالم أجمع عدم التدخل في شؤونه الداخلية.‏

السجال القاتل حول جنس الملائكة يُسمى ديموقراطية. وليس في بلدنا من مقومات الديموقراطية سوى صندوقة اقتراع تشهد، في ظل قانون للانتخاب غير فاعل وغير عادل، أن نظامنا عاجز عن إنتاج تمثيل شعبي صادق. هكذا باسم الديموقراطية تُرتكب المعاصي في حق الوحدة الوطنية، وتالياً في حق المصير الوطني تحت لافتات حقوق المذاهب والطوائف ومكانتها وكرامتها.‏

نتفق على مرشح إجماعي لرئاسة الجمهورية ونحول دون انتخابه بنَصب الأفخاخ في طريقه متذرعين بالتقنيات القانونية والدستورية وكذلك بتعليلات تنظيرية من مثل المطالبة بالتوافق على قضايا كثيرة هي من اختصاص الرئيس المقبل للبلاد والحكومة التي ستتشكّل في مستهلّ عهده. كأنما يراد صوغ قرارات الرئيس المقبل قبل انتخابه، وكذلك قرارات مجلس الوزراء قبل تأليف الحكومة العتيدة. ونوهم أنفسنا أن في استباق الاستحقاقات منتهى الحكمة والدراية والمصلحة.‏

هكذا، بعد فتح كوة انفراج بالتوافق على الرئيس المقبل للبلاد، نسارع إلى زرع ألغام سيكون من جرائها تمديد حال التأزم المستحكم في البلاد وتجديدها.‏

انتهى عهد الرئيس السابق للجمهورية من دون انتخاب رئيس يخلفه. وخلافاً لما كان متوقعاً لم ينفجر الوضع الأمني. فخدعنا أنفسنا بأن الاستقرار مستتب وأن لا غضاضة في استمرار الأزمة إلى ما شاء الله. فعلامَ استعجال الحلول؟ إن من يؤخذ بهذا الضرب من التفكير الساذج إنما يتناسى أن الوضع العام، في غياب السلطة الفاعلة، مرشح للاهتراء يوماً بعد يوم على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وفي نهاية المطاف على الصعيد الأمني. فإذا كان الاستقرار مستتباً اليوم فهو رخص ومرشح للتلاشي مع الوقت، والعاقبة ستكون والعياذ بالله وخيمة. لذا الإصرار على تجاوز الاستحقاقات الماثلة سريعاً، وتحديداً تعديل الدستور وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ثم تأليف الحكومة الأولى في العهد الجديد الموعود.‏

إن استمرار الأزمة بفعل الاشتراطات والاشتراطات المضادة، من شأنه أن يُبقي بلدنا الصغير منكشفاً على كل ألوان التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية، وعلى احتمالات تآكل الاستقرار الظاهري والرخص الذي يرين على الساحة الداخلية، وفي هذا ما فيه من خطر على الوحدة الوطنية وبالتالي على الوطن في وجوده.‏

إن من يحول دون الحل بافتعال التعقيدات بلا هوادة إنما يرتكب، من حيث يدري أو لا يدري، ومن حيث يقصد أو لا يقصد، جريمة في حق المصير الوطني.‏

نحن في إغضائنا عمّا يدور ويحاك، كما في الانتصار لهذا الفريق أو ذاك في ما يطرح من عقبات، شركاء في الجريمة. فلا غرو في القول، نحن مجرمون. نحن أهل السياسة ومن يناصرنا على غير هدى فيحملنا على التمادي في غيّنا. وفي غيّنا جعلنا المفاهيم الوطنية على قياس مصالحنا، وجعلنا القانون والدستور وجهة نظر. وجعلنا الفئوية، الطائفية والمذهبية، مطيّة في خدمة أغراض ذاتية. وفي غيّنا بدّدنا مفهوم الشعب فجعلنا من الشعب قبائل، وقبائل العصر تسمى طوائف. وفي غيّنا جعلنا المال معيار الجاه والسطوة، وجعلنا الرأي والصوت سلعة تشرى وتباع. وفي غيّنا قضينا على وجود سلطة قادرة وعادلة فصارت الساحة مسرحاً للاغتيال والتفجير والتسيّب. وفي غيّنا عبثنا بالقيم فجعلنا من العناد في غير الحق فضيلة، لا بل آية من آيات القوة والسطوة ووسيلة للتحكّم بالمصير.‏

أجل نحن قتلة. ضحيتنا هي مجتمعنا ووطننا. ومن يفتت مجتمعاً ويغتَل وطناً فإنما يستهدف الإنسان البريء على هذه الأرض الطيبة. وما أكثر الأبرياء بين المواطنين في هذا البلد. والإنقاذ لا يكون إلا على أيدي هؤلاء، عندما يستفيقون إلى واقعهم فيجعلون من إرادتهم الجماعية الحرّة قوة لا تقاوَم. من يدري، لعلنا سنُدفَنُ يوماً في جدثٍ واحدٍ وعلى اللحدِ عبارة: هنا يرقد أهل المآثر غير الحميدة.‏

المصدر : صحيفة السفير اللبنانية‏

2007-12-12