ارشيف من : 2005-2008
... ولا رجع الحمار!
تستطيع الاحتفاظ بموقعها في النظام دون وجود للدولة ودون وجود لرئيس جمهورية يحمل وجوده أو عدمه معنى وجود الدولة أو عدمها. لقد كانت الوفود العربية والدولية أكثر غيرة على الدولة وأكثر إحساساً بعذابات المجتمع من هذه الطبقة السياسية التي اعتادت على أن تكون الدولة مجرد حَكَم بين الطوائف، واعتبرت أن الطوائف يمكن أن تتعايش دون الدولة. والحديث المتكرر عن «مكونات» المجتمع اللبناني يقود الى الاستنتاج الخاطئ بأن المكوّنات يمكن أن تتجاور «بهدوء» دون ما يجمعها. أرادت أن يكون اللبنانيون مجرد رعايا للطوائف لا مواطنين مشاركين في الجمهورية، فاستغنت عن الدولة حتى لا يرتقي الرعايا الى مستوى المواطنية.
حتى لو انتُخِبَ رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري، حتى ولو تشكلت حكومة من أكثر الناس كفاءة ومقدرة، فإن ما لا تدركه هذه الطبقة هو مدى الأعباء التي تترتب على الحكومة والرئيس والمجتمع بسبب المشاكل المتراكمة. ما لا تدركه هذه الطبقة السياسية أن المعيشة أصبحت عبئاً على الناس، والعيش أصبح ضيقاً، والودائع المتراكمة في المصارف أصبحت عبئاً بسبب ضيق مجال الإنتاج وازدياد المضاربات العقارية وتحكم الريع بالاقتصاد... إلخ. ناهيك عن تراكم الدين العام وتفشي البطالة الظاهرة والمستترة (ولا يخفف من ذلك أن الكثيرين من العاطلين عن العمل والمتقاعدين أصبحوا مستخدمين لدى الشركات الأمنية وشبيهاتها) وازدياد الهجرة حتى ليكاد البلد يتحول الى نظام دون مجتمع بعد أن صار اقتصاداً دون إنتاج ومالاً دون استثمار مجدٍ ومنتج.
تفاقمت التشنجات الطائفية والمذهبية. انتشر الحديث عن السلاح والتدريب. لا يمر نهار وليل دون حادثة أو حوادث أمنية. لا تقع حادثة إلا ويضع اللبنانيون أيديهم على قلوبهم خوفاً من أن يتعمّم العنف. أن تعيش على حافة الهاوية كأنك تسقط فيها. يتزايد استهلاك المسكنات والمهدئات، الذي لم يتوقف منذ الحرب الأهلية الماضية. لكن الطبقة السياسية مستمرة في الصراع على السلطة، وكأنها تدير حرباً أهلية غير معلنة، بانتظار أن ينتصر فريق على آخر. كأنهم لم يتعلموا من التاريخ القريب أن الحرب الأهلية، في لبنان وغيره من البلدان، لا ينتصر فيها احد، ولا يكسب منها إلا الجناة. يمكن أن يحرز بعض الزعماء بعض المكاسب، لكن المجتمع كله يدفع الثمن.
تقول بعض مراجع السلطة إن تراجع النمو الاقتصادي سببه الظروف الأمنية. يحجبون عن الناس حقيقة أن تراجع النمو وهذه الظروف الأمنية هي من صنع أيديهم، من صنع أيدي هذه الطبقة السياسية التي تَسقط وتُسقِط معها الهيكل. هم الفاعلون، والناس يحصدون النتائج خراباً ودماراً.
جعلوا لبنان مسرحاً للصراعات العربية والدولية على السلطة في المنطقة. ننتظر الوفود الخارجية. نتابع كل تغيير في برنامج زيارة وفد. نقرأ لائحة الطعام لكل وجبة، نراقب كل همسة لأحدهم علّنا نستقرئ منها خبراً يقيناً عما يخبئه لنا المستقبل. تلاشت إرادة اللبنانيين أمام الإملاءات الخارجية. صار معيار الحكم على نفوذ كل «زعيم» من أهل السياسة هو مدى علاقته بالخارج وعدد الزيارات والمكالمات الهاتفية التي يتلقاها من الوفود الخارجية وزعماء العالم. تفاقمت الخلافات بين فرق الطبقة السياسية. طغى الخارج على الداخل. صار الداخل مجرد وعاء يتلقى ما يرمى فيه من الخارج.
لسنا نعيش ظروفاً عادية لنأتي بسلطة عادية. المشاكل كبيرة والحاجة اكبر لدولة تأخذ خيارات كبرى لبناء المستقبل. صنعت هذه الطبقة السياسية أزمات كبرى يكفي كل منها، لو بقي دون حل، لتدمير أي دولة ومجتمع، فكيف اذا كانت الأزمات متعددة ومتراكمة ومتزامنة؟ الخيارات الكبرى مطلوبة على صعيد الاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلاقات الخارجية. الخيارات الكبرى لا تأتي نتيجة نقاش دستوري ولا نتيجة إجراءات إصلاحية (للمؤسسات) ولا نتيجة إملاءات خارجية ومؤتمرات إعلامية يعقدها الموفدون.
الخيارات الكبرى تأخذها سلطة (رئيس، حكومة، مجلس نواب) تعتبر نفسها مسؤولة أمام مجتمعها. أن تعتبر نفسها مسؤولة، فهذا أمر يتطلب حداً أدنى من الجدية التي لا توجد إلا لدى من يحمل همّ الناس، يفرح لفرحهم ويأسى لمآسيهم. لم يبقَ لدينا إلا المآسي، فهل يتعظ أهل السياسة بعد فوات الأوان؟ لا يلام الناس على شعورهم بأن الأوان قد فات.
لا نضع شروطاً على أهل السلطة القادمة، إن أتت. لكن من يراقب التطورات ويرصد الأوضاع لا بد من أن يحذّر من أمرين:
أولهما، فقدان الوعي لدى النخبة السياسية والثقافية بضرورة الدولة. ربما أدرك البعض معنى الدولة، لكن ضرورة الدولة شيء آخر. الحديث عن ضرورة الدولة يشمل القبول بالدولة التي لا تُرْضي الطموحات وتَقْصُرُ عن التطلعات والقبول بدولة ظالمة خوفاً من الأسوأ.
ثانيهما، ضرورة سلطة قادرة على اخذ خيارات كبرى في هذه الظروف، إذ تفاقمت الأزمات المتراكمة والمتزامنة.
لقد مضى الزمن الذي خلنا فيه أننا نستطيع أن نعيش حياة عادية رغم الحاجة الى سلطة ذات كفاءة غير عادية وقدرة استثنائية. إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين للقبول بما هو مطمئن، خوفاً من السقوط في الهاوية، الهاوية التي سوف تجعلنا نأسف على الحمار الذي ذهب بأم عمروٍ.
المصدر : صحيفة السفير اللبنانية