ارشيف من : 2005-2008

حزب الله عقبة كأداء في وجه المشروع الأميركي في المنطقة: التدخل الأميركي في لبنان بوابة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى

حزب الله عقبة كأداء في وجه المشروع الأميركي في المنطقة: التدخل الأميركي في لبنان بوابة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى

منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم ولبنان في دائرة الاستهداف الأميركي، وعنصر بارز ضمن بنود الخطط الأميركية المرسومة للمنطقة. وفي كل حقبة من الحقبات تتغير الأسماء وتتغيّر عناوين هذا الاستهداف، إلا أن الأصابع الأميركية ما انفكّت تنسج خيوط الأزمة وتحيك خطط الحل على قياس مصالحها، ولا تتردد في النزول بثقلها لو اضطرها الأمر، وتتدخل بشكل مباشر في صياغة مسار الأحداث، كما حصل في عام 1958 إبّان حكم الرئيس كميل شمعون، وفي عام 1983 حين أنزلت الولايات المتحدة قواتها العسكرية على السواحل اللبنانية.
ما هي أسباب الاهتمام المتعاظم للإدارة الأميركية بلبنان؟ وما هي الأهمية التي يشكلها هذا البلد الضئيل بمساحته وعدد سكانه لدى أصحاب مشروع "الشرق الأوسط الكبير"؟ وما هي الأهداف التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها وتعمل من أجل ذلك على إرساء نفوذها المباشر وغير المباشر على الساحة اللبنانية؟.. هناك مسائل وأسئلة كثيرة تُطرح في هذا المجال، ولا بد للإجابة عنها، خصوصاً من الزاوية اللبنانية، من الإضاءة عليها في لمحة عامة لتوضيح الصورة.
استبدال وجهة الصراع
لم يكفّ الاميركيون عن التدخل مباشرة أو بالوكالة في الملف اللبناني، وقد سخّروا لذلك سيطرتهم على مواقع القرار في الدول العربية، ولعل سياسة "الفوضى البناّءة" لازمت أداء الإدارة الأميركية في التعاطي بشؤون الدول الأخرى، فكانت هذه الإدارة تعمل، ولا سيما في لبنان، على استحضار مناخات التخريب الداخلي، وتوفير عناصر تفجير الأزمة، ومن ثم المبادرة إلى التدخل لإعادة صوغ النظام السياسي في هذا البلد، ورسم علاقاته في الداخل ومع المحيط بما يؤمن تحقيق أهدافها المرحلية والاستراتيجية.
ونظراً لأهمية العلاقة اللبنانية ـ السورية وترابط مواقف بيروت ودمشق، خصوصاً في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، عملت واشنطن دوماً على فك هذا الارتباط منذ مؤتمر مدريد دون جدوى، إلى أن تم التمديد للرئيس إميل لحود واغتيال الرئيس رفيق الحريري، فسارعت الولايات المتحدة ومن يتبعها من الدول والأنظمة الدولية والعربية والأطراف اللبنانية إلى اتهام سوريا بالوقوف وراء هذه الجريمة، وغطّت هذا الاتهام بمظلة دولية من خلال استصدار سلسلة قرارات دولية أبرزها 1559 و1644 و1636، ولا نغفل في هذا المجال المحاولات الأميركية لإضعاف الحكم في سوريا خصوصاً عقب الغزو الأميركي للعراق، والعمل على تكبيله دولياً وفرط علاقته مع كل من لبنان وإيران.
وتندرج في هذا الإطار النغمة "الفاقعة" التي أطنبت الأدوات الأميركية في لبنان على عزفها على وتر ما يسمى "الحلف الإيراني ـ السوري"، والتي لم تقتصر فقط على الساحة اللبنانية، بل تجاوزتها إلى الساحة العربية، حيث انعكس هذا الخطاب، ضمن سياق مخطط العزل، في أدبيات سياسة بعض الدول العربية ولا سيما في الأردن والسعودية ومصر والسلطة الفلسطينية، وهو ما تأمل الإدارة الأميركية أن ينعكس إيجاباً لمصلحة إسقاط جدار الممانعة، وتحويل وجهة الصراع، لتصبح "إسرائيل" بالتالي هي الشريك، وسوريا وإيران هما العدو.
مظلة المجتمع الدولي
اعتمدت الإدارة الأميركية على أسلوبين في تغطية خططها الخارجية وفرض هيمنتها العسكرية والسياسية على الشعوب. أولهما تأمين "غطاء دولي"، وثانيهما أخذ المبادرة مما يسمّى "المجتمع الدولي" في التحرك نحو تحقيق أهدافها في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط والمنطقة العربية والاسلامية، بدءاً من أفغانستان وإيران وصولاً إلى فلسطين وسوريا ولبنان.
ونجحت واشنطن في توظيف مجلس الأمن الدولي وقراراته لتنفيذ سياستها المصاغة في أروقة الاستخبارات المركزية، محولة مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى شرعية دولية جديدة، تطبّق قراراتها وفق القوانين الأميركية دون سواها.
وكانت كل من فرنسا وبريطانيا، في عهديهما القديم والجديد، مثالاً ساطعاً على تبعية هذا "المجتمع" للهيمنة الأميركية، وآخر تجليات هذه التبعية في ما خص الشأن اللبناني، طرح باريس مسوّدة بيان رئاسي على مجلس الأمن الدولي، بالتشاور مع الولايات المتحدة وبريطانيا، يدعو إلى "الدعم التام للحكومة اللبنانية في إدارة شؤون الدولة والقوات المسلحة من أجل حماية أمن لبنان خلال هذه الفترة إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية".
تعزيز الأدوات الداخلية
ركن الأميركيون إلى نجاحهم في عزل الخطاب السياسي للطبقة الحاكمة في لبنان عن الموقف السوري، الذي وصل إلى حد استعداء دمشق، على خلفية اتهام سوريا بالوقوف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأمكن لواشنطن القول إنها أفلحت أخيراً في بناء تشكيل سياسي موالٍ لها وفي قبضتها، وأصبحت قادرة على التحكم به وتسييره لتحقيق أهدافها. وقد أمّن خروج القوات السورية من لبنان، والأجواء التي سادت بعد اغتيال الحريري، فرصة ثمينة للإدارة الأميركية التي دعمت القوى الشباطية تحت لواء ما يسمّى "ثورة الأرز" وحركة "الاستقلال الثاني"، وأماطت اللثام عن تحركات سفيرها ومواقفه والاملاءات التي كان يتلوها على أركان "السياديين الجدد"، خصوصاً بعد أن أفرزت التطوّرات أحلافاً جديدة تبلورت قولاً وفعلاً، شكلاً ومضموناً، خلال مناقشات طاولة الحوار الوطني، وقبيل وخلال وبعد العدوان الإسرائيلي في تموز 2006.
لقد دأبت الادارة الأميركية في كل مناسبة، وعلى فترات متلاحقة حتى اليوم، على إعلان دعمها لحكومة فؤاد السنيورة الفاقدة للشرعية، فأصبح السنيورة رجل أميركا القوي في لبنان بدون منازع، ونال الاهتمام والرعاية من رأس الهرم الأميركي، وكان المقصد الأول لكل الشخصيات السياسية والرسمية الأميركية التي قصدت بيروت، وكان الهدف الأساسي تقوية هذه الحكومة على حساب إضعاف موقع رئيس الجمهورية المؤيد للمقاومة، وتهميش دور رئيس مجلس النواب الرافض للسير في ركب السياسة الأميركية، وضرب الأطراف اللبنانية الأخرى المعارضة، والعمل على إثارة الفتنة المذهبية بين أبناء البلد الواحد والطائفة الواحدة، وصولاً إلى إسقاط حالة الاستقرار الداخلي ورهن القرار اللبناني للمشيئة الخارجية ولا سيما الأميركية.
استهداف حزب الله والمقاومة
لم ولا تخفي واشنطن عداءها لحزب الله والمقاومة، وهي عملت ولا زالت على توفير كل المستلزمات التي تمكّنها من ضربها أو محاصرتها، وكانت ذروة الفعل الأميركي خلال الحرب العدوانية الشاملة على لبنان في تموز 2006، التي كانت في الواقع حرباً أميركية بأدوات إسرائيلية. ويعتبر الأميركيون أن حزب الله هو عقبة كأداء أمام تحقيق مشروعها في لبنان ضمن خارطة المنطقة، ولذلك مدّت جيش الاحتلال على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً بمخزونها من الأسلحة القديم منها والمتطور، وأخضعت ما يسمّى المجتمع الدولي لنفوذها لإطالة أمد الحرب وإعطاء حكومة العدو فرصة لاستكمال تدمير لبنان ومحاولة تحقيق نجاح ولو في حده الأدنى.
لقد كان الهدف الأميركي إخضاع لبنان عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وكانت حرب تموز جزءاً من الحرب الشاملة التي أعلنتها واشنطن منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر، لأسر لبنان على غرار ما جرى في أفغانستان والعراق. وكانت حرب تموز أقصى ما أمكن لواشنطن القيام به على المستوى العسكري للتخلص من عقبة حزب الله، خصوصاً بعد أن فشلت في نزع سلاح المقاومة بالطرق الدبلوماسية من خلال الضغط الداخلي، وبدل أن تسقط هالة هذا السلاح، كانت النتيجة أن أصبح أحد ثوابت الصمود القومي والاسلامي والعربي، على الرغم من الموقف الداخلي والعربي المتواطئ مع الأميركيين في هذا المجال. وما أكد حتمية وجود هذا السلاح حكمة قيادة المقاومة في عدم زجّه في الحروب الصغيرة، على الرغم من محاولات السلطة، بإملاءات أميركية، إقحامه في الحوادث الداخلية فضلاً عن تماهي هذا السلاح مع سلاح الجيش اللبناني، وتلاحم المقاومين مع جنوده.
مواجهة تتخطى لبنان
سعت الولايات المتحدة إلى إنشاء كيانات سياسية "ديمقراطية" نموذجية، وزرعت حكاماً في البلدان التي ترى أنها تخدم تحقيق أهدافها في المنطقة، وكلهم تخرجوا من المدرسة الأميركية نفسها، وأطلقت سياسة المحاور، وأعلنت حرباً عالمية أحادية الجانب، وصاغت محوراً مواجهاً لها يضم كلاً من سوريا وإيران وحزب الله وحركة حماس. ويشكل لبنان ساحة لـ"تصفية الحساب" الأميركي تحت ذريعة محاربة "الإرهاب" ونشر الديمقراطية، وقد اعتبر الرئيس الأميركي جورج بوش هذه المواجهة "جزءاً من صراع أكبر وأوسع بين قوى الحرية وقوى الإرهاب في الشرق الأوسط".
وفي المقابل، يؤكد الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله أن المعركة الراهنة "تتخطّى لبنان.. إنها معركة الأمة"، وبالتالي فإن تداعياتها لن تطال الأهداف الأميركية فحسب، بل ستشمل الأهداف الإسرائيلية نظراً لارتباطها بعضها ببعض، في حين أن بعض الساسة اللبنانيين الذين ساروا "خبط عشواء" في الركب الأميركي، حاول ولا زال يعمل على إرساء ثقافة الضعف والمساومة تحت ذريعة عدم مواجهة المجتمع الدولي، سعياً لتحييد لبنان من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ولعل كثيراً من هؤلاء لم يتعظوا من التجربة والتاريخ، وسيسقط السيد الأميركي هؤلاء من حساباته ويستبدلهم بآخرين، فالأميركيون لا يقيمون اعتباراً لأي "وطنية" أو "سيادة" ما دام أنها لا تؤمن مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة.
محمد الحسيني
الانتقاد/ العدد 1245 ـ 14 كانون الاول/ ديسمبر 2007

2007-12-14