ارشيف من : 2005-2008
الحج: الاقتراب من الله بقَدْر الاقتراب من الناس
الحج فريضة عبادية تُهيّء للمسلم فرصة العودة إلى الله عسى أن تكون حياته كلها من بعد مضماراً لامتثال إرادته تعالى. وذلك عبر جملة أعمال ومناسك يقوم بها تمثلاً واقتداءً بأبي الأنبياء وأول المسلمين لرب العالمين إبراهيم(ع).
العودة إلى الله تعني أن تجعل من الله مرجعك في كل ما يعود إلى حياتك فتأخذ بما يأمرك وتنتهي عما ينهاك. أي أن تذيب إرادتك في إرادته تعالى فيما جلّ أو دقّ من شؤونك.
بداية هذه الرحلة تنطلق من هجرة المسلم لعالمه الخاص، أهله أولاده، خلانه، مقتنياته، منزلـه، ممتلكاته، كذلك يتحرر من خطاياه، وموبقاته، ونوازع الشر، والأهواء في نفسه، ويتطهر من الأحقاد، والأغلال، والكراهية. لابد ان يوفي كافة ديونه، والديون هنا لا تقتصر على الأموال المقترضة، وانما تتجاوزها الى انتهاكات حقوق الناس ومظالمهم، وهي الديون الأهم في عنق الانسان.
أما تجلي هذه العودة فيرمز إليه الطواف حول البيت الذي يرمز لطواف الانسان حول الله وانجذابه إليه متخذاً منه تعالى محوراً لحركة حياته منه يصدر وإليه يعود.
وانجذاب الانسان إلى هذا المحور، أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإِنسان، والأنا وحب الذات هو الذي يحجز الإِنسان عن هذه الجاذبية الإلهية، فإذا تحرر عن حاجز الأنا فانّه لا محالة واقع في دائرتها.
والتحرر من الانا وتجاوز الذات بكل ما تعني الذات من هوى وفردانية ومصالح خاصة ما هو في الواقع إلا العودة إلى "الجماعة" والانخراط في سلكها والانصهار فيها باعتباره جزءاً من أجزائها وعضواً من أعضاء جسمها الواحد.
إذاً العودة إلى الله تعالى، وهي الغاية من الحج، لا يمكن الوصول إليها إلا عبر العودة إلى "جماعة الناس" والانصهار فيهم.
وعندما نستعرض آيات الحج والكعبة والبيت، في القرآن، نجد اهتماماً كبيراً بحضور "الناس" في هذا البيت. وأبلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنه بيت الناس: "إن أولَ بيت وضع للناس للّذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين".
وأيضا قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً".
فالبيت مثابة للناس يعودون إليه ويجتمعون حوله من كل حدب وصوب. وفي آية آخرى البيت هو قيام للناس: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس". والحاج يؤدّي مناسكه من طواف وسعي ووقوف عند المشعر وعرفات والذبح يؤدّيها جماعة مع الآخرين. وعند الإفاضة يأمر الله تعالى عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإِفاضة، وإنما يفيض كلُّ منهم حيث أفاض الناس "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله".
إذاً انصهار الفرد في الناس أي في "الجماعة" داخل البيت والحرم، هو جسر العبور في طريق حركته إلى الله تعالى.
تصبح معادلة الحج إلى بيت الله الكعبة الحرام كالتالي: الحج هو العودة إلى الله وتسليم الأمر إليه. والعودة إليه تعالى لا تكون إلا بالعودة إلى "الجماعة"؛ إلى الناس. والعودة إلى الجماعة تقتضي تجاوز الذات ومختصات الذات أو تجاوز الفرد لأنانيته وتعاليه على ذاتيته وتخليه عن خصائص الفردانية وسمات الشخصانية.
والمنطلق الذي ينطلق منه الحاج في هذا المسار يبدأ مع لباس الاحرام في الميقات. في الميقات يخلع الحاج لباسه، ويرتدي ثيابا هي بمثابة الكفن، في لونها ومواصفاتها: قطعتان من قماشٍ أبيض غير مخيطتين. واللباس في حياة الإنسان لا يقتصر دوره على الستر، والزينة، وحماية الانسان من المؤثرات المناخية، كالحر والبرد والرياح، وانما ترمز أزياء الناس في ألوانها، وتشكيلاتها، وتصاميمها المتنوعة الى مكانتهم، وطبقتهم، وموقعهم، وتشير الى وجهة تفكيرهم، وما يميزهم عن سواهم، في معظم المجتمعات. اللباس يكرس "الانا" بكل سمات الاختلاف عن الآخرين. فإذا خلع الحاج في الميقات ملابسه، ولبس ثياب الإِحرام، فإنما يخلع عن نفسه ذاته وأهواءه، وخصائصه التي تفرزه وتفرده عن الآخرين؛ واستتباعاً تحجزه عن الانصهار في "جماعة الناس".
إنّ الميقات حدّ فاصل، بين الأنا وبين الجماعة المؤمنة. فقبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائر الناس الأنا تمييزاً وتشخيصاً. فإذا دخل الميقات تضاءل "الأنا" وضعفت معالمه.
فإذا تجرد الإِنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلى الحج؛ إلى لقاء الله. ولكن عبر الذوبان في الجماعة حيث يجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرق بينهم شيء. الأمر الذي يحرّك فيه الشعور بالانتماء إليهم، وبأنه عضو من جسم واحد، وبأنه وحده لا يستطيع أن يتحرك إلى الله على خطى إبراهيم(ع)، إلاّ أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلى الله. ومن أجل أن ينمو هذا الشعور ويتصاعد من مجرّد الانتماء إلى ذوبان فعلي في الجماعة لا بدّ من تحصينه من توثّب وتحفّز الأنا وبروزه مجدّدا على سطح الذات وذلك بسدّ المنافذ عليه بصيانتها من كل ما من شأنه أن يستدعيه. بكلمة، لا بد من تحصين الذات من منابع العدوان على الآخرين. وبتعبير القرآن الكريم لا بدّ من توفير "الأمن" فيما بين أفراد الجماعة. وقد تكرر هذا المصطلح أكثر من مرة في آيات الحج تدليلاً على اهميته البالغة فيما نحن بصدده: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً". "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً". "إن أولَ بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً". وحفظاً لهذا الأمن من أن يمسّه أدنى شيء فقد حرّم الله تعالى على الحجيج حتى "الجدال": "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج". فإن الجدال منفذ للعدوان بين الناس، وكثير من العدوان يبدأ بين الناس من الجدال الذي يسعى فيه كل من الطرفين المتجادلين إلى إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر.
إنّ الناس إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم مع بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا وتحابوا.
الأمن يعد الناس ليكونوا كياناً واحداً كما الجسد الواحد. الأمر الذي يقربهم من الله تعالى فينالون رحمته وبركاته. والأمن يعطي للناس هذه الفرصة.
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد 1245 ـ 14 كانون الاول/ ديسمبر 2007