ارشيف من : 2005-2008
عيد الأضحى المبارك: التضحية اتباعاً للسنة الإبراهيمية
ما بين البعثة النبوية الشريفة في العام الثالث عشر قبل الهجرة وفرض الحج على المسلمين في العام الثامن للهجرة، واحد وعشرون عاماً كانت زاخرة بالتشريعات البنيوية الأساسية التي قامت عليها الدعوة النبوية الخاتمة للأديان السماوية، والتي كان الحج الى بيت الله الحرام أحد أركانها الخمسة، إضافة الى كونه أحد عناوينها الأخيرة، إذ إنه فُرض قبل ارتحال النبي الأكرم الى بارئه بعامين. ويوم عيد الأضحى المبارك جزء داخل في صميم أعمال الحج (يجب فيه عدد من المناسك) حيث يعمد حجاج بيت الله الحرام في صبيحة هذا اليوم بعد صلاة العيد الى التضحية الواجبة عليهم (أداءً أو نيابة)، ذبحاً أو نحراً، امتثالاً للتكليف الإلهي واقتداءً بفعل أبي الأنبياء إبراهيم (ع)، الذي جاءه الأمر الإلهي بذبح ولده إسماعيل، فامتثل طائعاً، وشجعه على الفعل ولده المأمور بذبحه: "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين". ومع تحقق الامتثال والمبادرة الى الفعل تجلت الرحمة الإلهية التي فدت إسماعيل (ع) بذبح عظيم: "فلما أسلما وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم"، لتنجلي بذلك محنة قاسية عن قلب أبي الأنبياء إبراهيم (ع) بتدبير من الله تعالى، الذي شاء أن يمتحن نبيه بامتحان عظيم نجح فيه.. وعلى كل حاج أن يتمثَّل هذا الفعل في حجه، مع عزمه ونيته أنه يذبح تعلقه بهذه الدنيا كما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) عندما عاد من الحج واستقبله أحد أصحابه، الشبلي، فقال له: أحججت يا شبلي؟ فقال: نعم.. فسأله الإمام (ع) إن كان قد نوى في كل منسك من مناسك الحج ما فيه حقيقة الحج، حتى وصل الى الذبح فقال له: فعندما ذبحت هَدْيَكَ هل نويتَ أنك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسكت به من حقيقة الورع، وأنك اتبعت سنة إبراهيم (ع) بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه.
الأضحى في اللغة والاصطلاح
كلمة "الأضحى" المضافة اليها كلمة "عيد" لها معنيان: أحدهما لغوي والثاني اصطلاحي. والمعنى اللغوي هو الأصل، أما الاصطلاحي فله علاقة وثيقة بالمعنى اللغوي الذي يعود الى الجذر: ضَحَا، ومنه الضَّحْوُ والضَّحْوَةُ والضَّحِيَّةُ. وأَضْحى يفعلُ ذلك، أَي صار فاعِلاً له وقتَ الضُّحى. ويقال: ضَحَّى بالشاةِ: ذَبَحها ضُحَى النَّحْر.. هذا هو الأَصل، وقد تُسْتَعمَل التَّضْحِيةُ في جميع أَوقات أَيام النَّحْر (في اليومين التاليين لعيد الأضحى). ويقال: ضحَّى بشاة من الأُضْحِية، وهي شاة تُذبح يومَ الأَضْحى. والضحية: ما ضحَّيت به، وهي الأَضْحاةُ، وجمعُها أَضْحىً، يُذكَّر ويؤَنَّث، فمن ذكَّرَ ذهَبَ إِلى اليومِ الذي يُسمى أَضْحىً، ولا يبعد أن يكون المعنى مشتركاً بين الزمان الذي هو وقت الضحى، والمضحى به الذي هو الأضحية.. وتَولُّد اسم العيد منهما معاً اصطلاحاً.
أعمال عيد الأضحى
يختص يوم عيد الأضحى بجملة من الأفعال المستحبة التي هي سنن مؤكدة، منها الغسل الذي أوجبه بعض العلماء في هذا اليوم، وأداء صلاة العيد، وقراءة الأدعية التي تختص بهذا اليوم، والتضحية استحباباً على غير الحجاج، فهي عليهم واجبة، وعلى غيرهم سنة مؤكدة، وتستحب عن النفس وعن الغير من الأحياء والأموات، ويستحب أن يفطر المضحِّي على لحم الأضحية.. ومن المستحبات في هذا اليوم المبارك التكبير بعد الفرائض، وهو يبدأ لغير الحجاج من فريضة ظهر العيد ويستمر الى فريضة فجر اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة، وبذلك يكبر غير الحجاج عقب عشر فرائض، أما الحجاج فيكبرون من فريضة ظهر العيد أيضاً، ولكن يستمرون في التكبير الى فريضة الفجر من اليوم الثالث عشر، وبذلك يكبرون عقب خمس عشرة فريضة. والتكبير المنصوص عليه هو: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا".. (أي قبل عُذرنا)، ويظهر من مضمون هذه التكبيرات حمد المولى تعالى على رزقه لنا من بهيمة الأنعام التي نمتثل أمره تعالى بالتضحية بها فداء عن نفوسنا التي تُفدى بالذبائح أسوة بما فعل المولى تعالى مع إسماعيل (ع)، حيث فداه بذبح عظيم.
دعاء السجاد(ع) يوم الأضحى
من جملة الأدعية المأثورة التي ورد استحباب قراءتها في يوم عيد الأضحى الدعاء المذكور في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع)، الذي خص هذا اليوم المبارك بدعاء جليل ركز فيه في أكثر من موضع على ذكر "هذا اليوم"، حيث بدأه بقوله: "اللهم هذا يوم مبارك ميمون، والمسلمون فيه مجتمعون في أقطار أرضك يشهد السائل منهم والطالب والراغب والراهب، وأنت الناظر في حوائجهم، فأسألك بجودك وكرمك وهوان ما سألتك عليك، أن تصلي على محمد وآله(...)"، ثم يصل الى قوله: "وأن تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم من عبادك المؤمنين يا رب العالمين، وأن تغفر لنا ولهم إنك على كل شيء قدير".. ويضيف في الفقرة ذاتها: "اللهم إليك تعمدت بحاجتي وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي"، ثم يقول: "اللهم من تهيأ وتعبأ وأعدَّ واستعدَّ لوفادة الى مخلوق رجاءَ رفدِه ونوافلِه وطلبَ نيلِه وجائزتِه، فإليك يا مولاي كانت اليوم تهيئتي وتعبئتي وإعدادي واستعدادي رجاءَ عفوِك ورفدِك وطلبَ نيلِك وجائزتِك".. ثم يردف بقوله: "اللهم فصلِّ على محمد وآل محمد ولا تخيِّب اليوم ذلك من رجائي"، ثم يختم دعاءه بذكر هذا اليوم مرتين فيقول (ع): "فقد ترى ضعفي وقلة حيلتي وتضرعي اليك، أعوذ بك اللهم اليوم من غضبك، فصلِّ على محمد وآله وأعذني، وأستجير بك اليوم من سخطك، فصلِّ على محمد وآله وأجرني" (...) الى آخر الدعاء الذي ربطه ضمناً بذكر هذا اليوم المبارك لما له من فضل كبير عند الله تبارك وتعالى.
إن يوم الأضحى المبارك الذي نقتدي فيه بفعل أبي الأنبياء إبراهيم (ع) بذبح تعلقنا بالدنيا وقطع أوداج الطمع فيها، هو يوم مبارك وميمون شاء المولى تعالى أن يجعله للمسلمين عيداً وذخراً، تفرح به قلوبهم في الدنيا وتقر بفضله أعينهم في الآخرة.. فـ"الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا".
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد 1245 ـ 14 كانون الاول/ ديسمبر 2007