ارشيف من : 2005-2008

معاهدة برشلونة: إلى الأمام أم إلى الوراء؟

معاهدة برشلونة: إلى الأمام أم إلى الوراء؟

بعد أن نفض الاتحاد الأوروبي يده من طموحه إلى أن يكون له دستور موحد، نتيجة لوقف عمليات التصويت على مشروع الدستور في أعقاب فشل الاستفتاء عليه في كل من فرنسا وهولندا، عام 2005، تم استبدال المشروع بمشروع اتفاقية مصغرة أو مخففة اقترحها نيكولا ساركوزي قبل أشهر من انتخابه للرئاسة في فرنسا، وتمت الموافقة عليها بعد مفاوضات مجهدة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي يوم الخميس الماضي ( 13122007) عرض مشروع الاتفاقية على القادة الأوروبيين، وتم التصويت عليه بالإجماع فحظي بتأكيد الموافقة ووضع الزعماء تواقيعهم على ما بات يعرف، منذ تلك اللحظة، باسم "معاهدة ليشبونة" حيث تمت تلك الإجراءات في العاصمة البرتغالية قبل أيام على انتهاء تولي البرتغال لرئاسة الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة المنصرمة.
وتجدر الإشارة إلى أن التوقيع تم بواسطة أقلام من فضة قدمها خوسيه مانويل باروزو للقادة الأوروبيين، كتعويض ربما عن أقلام الذهب التي كان من الممكن لهم أن يستخدموها فيما لو أن الأمر كان متعلقاً بالدستور الذي مات قبل أن يرى النور. لكن توقيع القادة على المعاهدة ليس خاتمة المطاف، إذ يبقى عليها أن تجتاز الطريق الوعر الذي تعثّر عليه الدستور: لا بد لها من أن تحظى بموافقة كل بلد على حدة عبر تصويت كان من المفترض أن يتم على شكل استفتاء عام، لكنه استبدل بتصويت برلماني خوفاً من استفتاء قد يأخذ شكل الاستفتاءين المشؤومين الفرنسي والهولندي. وحدها إيرلندا ستخضع المعاهدة للاستفتاء، ما يعني أنها ستحظى من قبل الأوروبيين، من الآن وحتى موعد الاستحقاق، بما يلزم من تبجيل ومداراة لكي لا تعرض المعاهدة لمصير شبيه بمصير الدستور. وإذا تم الاستحقاق بالصورة التي يتمناها الاتحاد، وبدأ العمل بالمعاهدة في الأول من كانون الثاني/ يناير 2009، فإن هذا العمل لا يبدو باعثاً على الكثير من التفاؤل بقدرتها على جعل الاتحاد الأوروبي شيئاً ذا أهمية أكبر مما هو عليه الآن. فهي تقدم نفسها على أنها لا تهدف إلى أكثر من تسهيل اتخاذ القرارات، وتتضمن مقاطع كبيرة لا يفهمها غير الحقوقيين، ووعوداً خطابية بأوروبا أكثر قدرة على رفع مستواها الاقتصادي والدفاع عن قيم المساواة والحرية. من هنا تفهم تأويلات ساركوزي، صاحب المبادرة، بهدف إعطاء المشروع الأوروبي مضموناً فعلياً في مجال سياسات الهجرة والبيئة والدفاع.
والأكيد أن ساركوزي يرغب أيضاً في أن يشتمل المضمون على سياسات توسيع الاتحاد. لكن الخوف من التطرق إلى مسألة توسيع الاتحاد وحدوده بسبب الإشكال الذي يطرحه مشروع الانضمام التركي حال بين ساركوزي وبين المضي في عبارته إلى النهاية، وذلك بضغط من الجميع الذين عادوا وقبلوا مع ساركوزي، على مضض، فكرة تشكيل لجنة ملحقة بالمعاهدة مهمتها "التفكير" بمستقبل الاتحاد في حدود الفترة الواقعة بين العام 2020 والعام 2030 التي يفترض أن ينتهي الاتحاد خلالها من النظر في أمر الانضمام التركي. لكن لجنة التفكير هذه لا يمكنها أن تقدم أكثر من استنتاجات غير ملزمة ولا شأن لها بحدود الاتحاد وتوسيعه، كما لا يمكنها البدء بالتفكير إلا بعد الانتهاء من عمليات طرح المعاهدة على التصويت في كل بلد على حدة. وفي هذا المجال، كان ساركوزي وراء حذف كلمة "انضمام" من النصوص المتعلقة بتركيا، ما أثار حفيظة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، الذي هاجم ساركوزي واتهمه أمام حشد من السفراء الأوروبيين في أنقرة بالتدليس والازدواج.
والمعروف أن ساركوزي لا يرغب في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خوفاً من أن تصبح بلدان مثل سوريا وإيران جارات للاتحاد، على ما ورد في بعض تصريحاته. وهو يقترح، بدلاً من ذلك، صيغة مشاركة مميزة ترفضها تركيا بإصرار لا يقل عن إصرارها على السير في طريق الاتحاد مع التأكيد على أن فرنسا وبعض الأوروبيين يخطئون إذا ما ظنوا بأنهم يستطيعون منعها من ذلك. ومهما يكن من أمر فإن مسألة انضمام تركيا موضوعة على نار شديدة البرودة، حيث لم تتم، منذ العام 2005، مناقشة غير أربعة من البنود الخمسة والثلاثين التي يفترض أن ينظر فيها قبل إطلاق مفاوضات الانضمام التي قد تتطلب سنوات من الأخذ والرد.
وبالإضافة إلى الإشكال التركي المستجد، هنالك الإشكال الدائم المتعلق بالهم الذي شكلته بريطانيا ولا تزال منذ انضمامها المتردد والمربك إلى الاتحاد. فالمعروف في هذا المجال أن بريطانيا هي جزيرة سياسية أميركية على بعد أمتار من القارة الأوروبية! وقد عبر الهم عن نفسه أثناء التوقيع من خلال التصرف "الإزدواجي" لرئيس الوزراء البريطاني، غوردون براون. فهو لم يحضر حفل التوقيع، وعندما وصل إلى ليشبونة بعد ثلاث ساعات على التوقيع، وقع منفرداً بعد أن كان أكثر الزعماء قد غادروا إلى بروكسيل لحضور قمة الاتحاد الأخيرة خلال هذا العام. وعندما لحق بهم، لم يدل بكلمة واحدة حول الهموم الأوروبية الحالية وفي مقدمتها الهم المتعلق بكوسوفو، مكتفياً بالكلام عن موضوع العولمة وما يحمله من إيجابيات وسلبيات. وقد أثار تأخره عن ليشبونة، بحجة اجتماع مع لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني، تساؤلات العديد من القادة وخصوصاً أن التوقيع كان مقرراً منذ أكثر من شهرين. لكن القادة لم يتعبوا أنفسهم في التساؤل حول الأسباب الحقيقية لموقف براون لأنهم يعلمون بأنها تعود إلى الضغوطات التي يمارسها عليه البريطانيون غير المقتنعين بأوروبية بلدهم، والذين نجحوا حتى الآن في كبح العديد من خطوات التقارب، وفي مقدمتها إبقاء بريطانيا المتمسكة بجنيهها الاسترليني خارج دائرة اليورو.
بريطانيا وتركيا ومعضلات أخرى تنتظر مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي قلص طموحاته من دستور موحد إلى مشروع معاهدة مخففة قابلة للتعثر أو للمزيد من التخفيف. والسبب خوف الشوارع الأوروبية من ضياع هوياتها القومية داخل إطار ولايات متحدة أوروبية في وقت تشرئب فيه نوازع الاستقلال ليس فقط في كوسوفو بل في جميع البلدان الأوروبية. فهل يكون التحريض الأميركي ـ الأوروبي لكوسوفو على الاستقلال عنصراً فاعلاً في انبثاق أشكال من التفكك قد تصيب الاتحاد بعد كل هذه الجهود المضنية خلال ستين عاماً على طريق أول اتحاد أوروبي يحاول أن يفرض نفسه، بعد نابليون وهتلر، بغير القوة المسلحة؟ 
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007

2007-12-19