ارشيف من : 2005-2008

الجيش: موقع ودور عصيّان على الانقسام

الجيش: موقع ودور عصيّان على الانقسام

بعد أيام قليلة جداً من تحرك المعارضة في الشارع في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي وبعد ما صار يعرف بأحداث الجامعة العربية صدرت صحيفة "السياسة" الكويتية، وهي تتضمن لائحة باسم 18 ضابطاً  من كبار ضباط الجيش اللبناني، يطالب فريق 14 شباط بإقالتهم ومحاكمتهم، وفي مقدم هذه اللائحة اسم العميد فرنسوا الحاج.
كان واضحاً أن هذه الصحيفة "الصفراء" التي اتخذها فريق السلطة لساناً له وموقعاً رئيسياً لدسائسه وعمليات التحريض والحقد والشحن التي مارسها، إنما تعبر بشكل أو بآخر عن معاداة هذا الفريق المتسلط للمؤسسة العسكرية، والتعاطي معها على أساس أنها ليست من نسيجه ولا يمكن أن تواليه، أو تخدم توجهاته التسلطية والاستثئثارية، وأكثر من ذلك بدا واضحاً أن هذا الفريق وضع نصب عينيه وفي رأس قائمة استهدافاته محاصرة المؤسسة العسكرية ودورها والعمل على تغيير عقيدتها وتوجهاتها.
ولم يطل الأمر، فقد ظهر في فلتات لسان قائد القوات اللبنانية سمير جعجع دعوات إلى السعي لتغيير العقيدة الوطنية التي تربت عليها هذه المؤسسة، وتحديداً بعد اعادة بناء الدولة مجدداً على أساس وثيقة الوفاق الوطني.
لقد أدرك فريق 14 شباط أنه لا يمكن له استكمال "انقلابه" واستكمال رحلته الرامية لتغيير هوية البلاد بشكل جذري، إذا لم تنجح استهلالاً في السيطرة على عقل المؤسسة العسكرية، ومن ثم على أطرافها وأذرعتها الضاربة.
وعندما شرع هذا الفريق بالبحث عن السبل التي تكفل له بلوغ هذا الهدف المرتجى، تبين له أنه لامس غاية في الصعوبة، وبمعنى آخر وجد أن هذه المؤسسة العسكرية أصبحت ذات شخصية متميزة وذات عقيدة صلبة في إمكانها التمييز بين العدو والصديق.
فلقد أتيح لهذه المؤسسة منذ اعادة لملمة ألويتها وإعادتها في عام 1990 على يد العماد اميل لحود ان تتربى في مناخات مختلفة تماماً، وبمعنى أوضح قيض لهذه المؤسسة أن تترعرع على أساس أنها صاحبة دور، وانها وُجدت لمهمة وطنية غاية في النبل والسمو، وهي الدفاع عن الوطن في وجه الأعداء والطامعين والغزاة، لا أن تكون ذراعاً لحماية النظام وأصحاب الامتيازات كما كانت في نشأتها الأولى، وهو الأمر الذي جعلها تتشرذم وتذهب فرقاً وألوية طائفية ومذهبية في كل مرة تعصف بالوطن الرياح الناجمة عن انفجار التناقضات الداخلية.
وطوال تولي الرئيس لحود قيادة هذه المؤسسة (من عام 1990 حتى عام 1999) كانت المؤسسة العسكرية تنهل من ينابيع فكرية وعقائدية مختلفة، تحدد العدو بلا لبس والتباس وتشير إلى الصديق والحليف مباشرة بلا لف أو دوران.
والى جانب المقاومة التي كانت تنمو وتتجذر وتحقق النصر تلو الآخر في الجنوب المحتل، كان الجيش اللبناني ينمو، ويشتد ساعده على أساس أنه صنو هذه المقاومة ورديفها، وأنه شريك لها في المواجهة ورحلة الجهاد  ما دام يحمي ظهرها وينسق معها وتنجح أجهزته الاستخباراتية على سبيل المثال، في الدخول إلى عمق المناطق الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي وتسحب منها العميل أحمد الحلاق الذي كان قد اغتال قبيل فترة  واحداً من كوادر المقاومة في الضاحية الجنوبية، ومن ثم تقدمه للمحاكمة فيُعدم لاحقاً جزاء فعلته، في هذا المناخ الوطني النظيف والمفعم بالانتصارات على العدو وفي هذا التأصيل لصورة العدو ولاتجاه الحليف النصير كان الجيش اللبناني يشعر بأنه صار صاحب قضية وموقف، وأنه وُجد لدور وطني؟ وليس ليكون واجهة أمنية للوقوف في وجه التظاهرات الشعبية أو التحركات الداخلية حصراً لأن ثمة من رباه في السابق على أساس أن قوته وقوة الوطن هي في ضعفه، وأنه ما وُجد ليقف في وجه القوة الغاشمة.
ولأنها تربت على هذا الأساس وضمن هذا المناخ الوطني صارت المؤسسة العسكرية عصية على عوامل الانقسام، ونجحت في امتحانات الأعوام الثلاثة العجاف الماضية، واجتازت الكثير من المنعطفات الخطيرة والبالغة التعقيد والحساسية.
لعل أول امتحان واجهته هذه المؤسسة في العهد السياسي الحالي تمثل في محاولة الاستتباع والهيمنة التي حاولت المجموعة الحاكمة حالياً تطبيقها على هذه المؤسسة وما زال أركان هذه المؤسسة يذكرون كيف أن هذه المجموعة الحاكمة، فرضت عليهم حركة تبديلات ومناقلات واسعة النطاق، وكيف أقصي ضباط، وأبعد آخرون، بحجة الشك في ولائهم والريبة في مسلكيتهم.
ولم يكن رموز في هذه المجموعة الحاكمة تخفي أن هذه المناقلات انما هي بداية رحلة لإعادة صوغ هذه  المؤسسة على أسس وتوجهات جديدة، تفارق المرحلة الماضية.
وفي عدوان تموز عام 2006 بذلت هذه المجموعة محاولة أخرى لجعل هذه المؤسسة على الطرف النقيض مع المقاومة التي كانت يومذاك مستغرقة في مواجهة أعتى هجمة عدوانية على الوطن، وتجلت هذه المحاولة من خلال الايعاز إلى بعض الضباط، بمصادرة بعض شحنات الصواريخ والذخائر والأسلحة التي كانت في طريقها إلى المقاومين في الجنوب ونجح الأمر مرة أو اثنتين، ولكن في المرة الثالثة وعت قيادة الجيش خطورة ما يدفعها اليه الفريق الحاكم فسلمت شحنة ثالثة مصادرة لأصحابها، وعادت إلى التنسيق مع المقاومة لاحقاً.
وفي مرحلة تحرك المعارضة في الشارع واعتصامها قبل سنة و15 يوماً، قام الجيش بدور مشهود له في حماية المتظاهرين والمعتصمين ولم يتجاوب مع كل الأوامر التي وجهتها اليه حكومة السنيورة لمواجهة المتظاهرين والمعتصمين.
وعندما حاول أنصار حكومة السنيورة، أن يجذبوا المعترضين عليها والرافضين لنهجها، بين متاهات الفتن الداخلية خصوصاً بعد أحداث الجامعة العربية التي ثبت أنها مدبرة في ليل، كان الجيش بالمرصاد لضبط الموقف والحيلولة دون بلوغ الأوضاع خط الانهيار والتصادم.
وفي أحداث مخيم نهر البارد شعرت المؤسسة العسكرية أنها تركت لوحدها في مجابهة "الإرهاب" الذي تبين لاحقاً أنه ليس عدواً سهلاً، تركت منفردة مع قوة محترفة لمدة أكثر من مئة يوم بلا دعم كافٍ، وحملها "الحاكمون" ضمناً مسؤولية تأخر حسم الموقف، مع ادراكهم المسبق أن ثمة أوامر تقضي بألا يزود هذا الجيش بأسلحة استراتيجية متطورة.
وعندما حقق هذا الجيش إنجازه العزيز جداً وجد نفسه أمام عدوين شرسين، الأول الإرهاب الذي أعلن أنه لن يسكت اطلاقاً على الهزيمة التي ألمّت به، والطبقة الحاكمة التي استنفر صغارها فور تناهى إلى علمهم أن قائد الجيش يطمح لدور سياسي يساهم فيه في اخراج البلاد من أزمتها، فصار هذا القائد مجرد موظف لا يحق له الادلاء بتصريحات، ولا يحق له أن يحدد الجهة الحقيقية التي أرسلت "فتح الاسلام" وسهلت دخولها إلى مخيم نهر البارد.
وعندما اختير قائد الجيش بتوافق اقليمي وبرضى داخلي، أن يكون رئيس التسوية لملء الفراغ الرئاسي الحاصل سارعت السلطة الحاكمة لأمرين، الأول الزعم أنها هي التي بادرت إلى تزكيته لهذا المنصب، والثاني أن تكرر معه تجربتها المرة مع الرئيس السابق إميل لحود، عندما حاصرته على مدى عامين ونصف العام. فتقبل به رئيساً للجمهورية على أن يكون لها حق القبض على زمام الحكومة المقبلة وقيادة الجيش والأجهزة الأمنية والإدارة، فتأخر انتخاب العماد ميشال سليمان، ثم كانت الضربة الكبرى للمؤسسة العسكرية باغتيال أحد أركانها العميد الركن فرنسوا الحاج، لتضع المؤسسة نفسها أمام تحدّ كبير، ولتضع قائدها وتجربته السياسية الوشيكة أمام مصاعب بالغة.
وهكذا فإن المؤسسة العسكرية نجحت خلال الفترة الماضية في تأدية مهمات وطنية متعددة، إذ جسدت في ذاتها الوحدة الوطنية وشرعت تتصرف بوحي من عقيدة صلبة وراسخة تحدد سريعاً وجهة العدو واتجاه الصديق، وصارت متماسكة لدرجة أن بإمكانها الحفاظ على السلم الأهلي الداخلي في وجه الارهاب الوافد.
وأكثر من ذلك كادت تكون المؤسسة الوحيدة التي نأت بنفسها عن الصراع السياسي الذي يعصف بالبلاد منذ أكثر من عام ويطاول بالانقسام كل المؤسسات، وحافظت كأقصى ما يكون على السلم والأمن والأمان بعدما فرض سلوك السلطة المستأثرة بالحكم على المعارضة اختيار الشارع للتعبير عن رأيها وإسماع صوتها بعدما ضربت هذه السلطة عرض الحائط بكل الدعوات التي رفعتها أطياف المعارضة، وما تمثله من جمهور عريض يتجاوز نصف الشعب اللبناني للمشاركة في القرار الوطني والاصلاح السياسي.
ومما لا ريب فيه أن من وجّه لهذه المؤسسة الضربة الكبرى المتمثلة باغتيال أحد أبرز عقولها الخلاّقة والمبادرة، أي العميد الحاج، إنما أراد أن يوجه لهذه المؤسسة رسالة فحواها أن عليها أن تواصل طريقها نحو الصدارة السياسية، وأن تتخلى عن مهمة الانقاذ التي نكبتها لحظة وافق قائدها على أن يكون رئيس تسوية بعد الفراغ الذي حصل بسبب رغبة الفريق الحاكم بالإمساك عنوة بأحد أبرز مفاصل السلطة.
وأراد أيضاً أن يوجه ضربة لأركان وضباط هذه المؤسسة لأنه يدرك تمام الإدراك أن غالبيتهم العظمى انما تربت على أساس انتماء وطني أصيل، يستحيل أن تغادره.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007

2007-12-19