ارشيف من : 2005-2008
الحوار الأميركي الايراني حول العراق: بين عجلة واشنطن وتأني طهران
والدوليين. ومنذ ان احتلته تفردت بإدارته بالمطلق ومنعت حتى حلفاءها الذين ذهبوا معها الى الحرب من المساهمة ولو بشق بسيط في اتخاذ القرارات المتعلقة بالملف العراقي، لا بل عملت على توفير غطاء لها من بعض الدول التي عارضت الحرب كفرنسا، ومن الامم المتحدة ايضاً.
اليوم ومع اقتراب الذكرى السنوية الخامسة للغزو تبدو واشنطن في وضع لا تحسد عليه. فقد تحول العراق الى مأزق استراتيجي ابتلع في جانب كبير منه هيبة الامبراطورية الاميركية وأحاديتها العالمية، وشكل مختبرا تطبيقيا لفشل سياستها الخارجية في مجالاتها المختلفة: العسكرية والامنية والديبلوماسية، الى درجة ان الهدف الوحيد لهذه السياسة بات البحث المضني عن صيغة تخفف من الخسائر في هذا البلد وتحفظ ماء الوجه لما تبقى من نفوذ اميركي في العراق، وما اتصل به من ملفات اقليمية، وتؤخر نعي الولايات المتحدة كقوة عظمى متفردة باللعب في الشرق الاوسط وجواره الجغرافي، وتحولها الى واحدة من القوى اللاعبة في هذا المسرح وربما الاكثر اثخانا بالجراح والاقل قدرة على التأثير مع مرور الزمن.
الاكثر تراجيدية في هذا المشهد هو ان الولايات المتحدة التي ارادت من العراق محطة في طريقها للنيل من اخطر اضلع "محور الشر"، ايران، عبر التمركز على حدودها عسكريا وامنياً تجد نفسها اليوم تستجدي الجمهورية الاسلامية من اجل مساعدتها على الخروج من هذا المأزق. وهذا بقدر ما شكل فشلا ذريعا للادارة الاميركية لصراعاتها فإنه شكل نجاحا باهرا للادارة الايرانية في مواجهة هذه الصراعات.
فمنذ اللحظة الاولى تعاطت ايران مع الاحتلال الاميركي للعراق على انه جزء اساسي من خطة "الحرب الوقائية" التي تنوي واشنطن شنها ضد طهران في مرحلة لاحقة وفق استراتيجية افصحت عنها صراحة، واتخذت من البرنامج النووي الايراني ذريعة لبناء منظومة حجج وأدلة تتيح لها الانطلاق في ضربة عسكرية بعد ان تسبقها بعقوبات دولية من الدرجة الاولى بدعوى ان ايران تسعى لتصنيع وامتلاك السلاح النووي عبر تحويل برنامجها من مدني الى عسكري، وبالتالي تشكيلها خطرا وجوديا على منظومة المصالح الاميركية، بدءا من اسرائيل مرورا بالانتشار العسكري الاميركي في المنطقة، وصولا الى المصالح المباشرة وغير المباشرة، السياسية والاقتصادية التي تعد من مصادر القوة الاميركية.
وعليه فإن الهجوم الاستباقي الذي مارسته الجمهورية الاسلامية تمثل بالسعي الحميم لتحويل احتلال العراق الى مأزق لا يمكن للولايات المتحدة ان تخرج منه سالمة، واذا ارادت ان تخفف خسائرها فإنها لا يمكنها ان تخطو خطوة دون المساعدة الايرانية. وبحكم علاقاتها التاريخية الثقافية والسياسية وغيرها عمقت ايران حضورها في العراق واقامت شبكة علاقات اضافية معززة مصادر قوتها وتأثيرها في هذا البلد، الى الحد الذي اعلنت الولايات المتحدة رسميا ايران بلدا موازيا لها في العراق عبر استجدائها فتح قنوات اتصال مباشرة معها برغم القطيعة بين طهران وواشنطن المستمرة منذ العام 1979، واقرارها بحتمية اللجوء الى المساعدة الايرانية لاخراجها من هذا المأزق.
وباختصار قلبت الادارة الايرانية الطاولة على رأس الاميركيين ووصلت الى حد التعاطي معهم بإذلالهم، من خلال وضع سلة شروط لاي حوار مباشر حول العراق، ومنها ان يكون الامر بناءً على طلب من الحكومة العراقية، وان تتقدم واشنطن بطلب رسمي بهذا الشأن الى طهران، وان تحدد الاخيرة جدول اعمال اللقاءات ومستواها، ثم تجيب طهران اذا كانت توافق او لا. وهذا ما حصل حتى الان، اذ سجل الايرانيون ممانعة ازاء كل المحاولات التي قامت بها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس للتحادث مع نظيرها الايراني منوشهر متكي مباشرة، وحصر الايرانيون الجولات الثلاث التي عقدت حتى الان باثنتين على مستوى السفيرين في بغداد، الاميركي رايان كروكر والايراني حسين كاظمي (28 ايار/ مايو و24 تموز/ يوليو) وواحدة على مستوى الخبراء (6آب/ اغسطس)، اما الجولة الرابعة التي كانت محددة الثلاثاء الماضي في الثامن عشر من الجاري وعلى مستوى الخبراء في المجالات الامنية والعسكرية والسياسية ومخصصة للبحث في المسائل الامنية، فإنها ارجئت الى موعد غير محدد حتى الان ومن قبل الايرانيين حسب اتهام المتحدث باسم الخارجية الاميركية شون ماكورماك الذي عزا الامر الى مشكلة تتعلق بترتيب المواعيد لدى الايرانيين، مبديا استعداد بلاده للقاء في أي وقت.
وبذلك يكون الايرانيون كرسوا تفوقهم في ادارة هذه الجولات عبر عدم استعجالهم ما دام انهم مرتاحون لوضعهم، خصوصا بعد تقرير اجهزة الاستخبارات الاميركية حول البرنامج النووي الايراني الذي شكل نقطة ضعف اضافية في ادارة السياسة الخارجية الاميركية عبر نزع المبرر النووي من يد ادارة بوش بعدما نزعته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما اعطى نقطة قوة جديدة للجمهورية الاسلامية في رفع سقف شروطها التفاوضية.
لكن وان اعتبرت طهران ان التقرير شكل انتصارا تاريخيا لوجهة نظرها، فإن احتمال العدوان العسكري عليها لم يتراجع كثيراً، فضلا عن ان الملف العراقي يمكن ان يشكل مبررا لهكذا عدوان على خلفية الاتهامات المستمرة لايران بالوقوف وراء العمليات الاساسية التي تتعرض لها قوات الاحتلال الاميركي في العراق وتكبيدها خسائر بشرية فادحة، مع ان الاعلانات الرسمية العراقية تتحدث عن ابداء ايران زيادة في مستوى التعاون مع بغداد لخفض العنف.
على أي حال فإن التحادث الايراني الاميركي حول العراق وعلى أي مستوى يشير الى طبيعة المرحلة المقبلة لجهة امكانيات الولايات المتحدة وخياراتها العراقية والايرانية، وأيضاً في الوقت نفسه الامكانيات الايرانية وخياراتها الاقليمية وقدرتها على التعامل مع أي مخاطر اميركية وغير اميركية، مع تسجيلها حتى الان تقدما في طريقة ادارة المفاوضات.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007