ارشيف من : 2005-2008
زيارتا غيتس وبراون المفاجئتان.. رسائل أميركية وبريطانية "غامضة" حول العراق
طائرة (أي.ام.سي 66162) الخاصة بوزير الحرب الأميركي روبرت غيتس في مطار الموصل الدولي، في زيارة خاطفة ومفاجئة كانت المحطة الأولى فيها الموصل وليس بغداد.
ليس بالضرورة أن يكون هناك ترابط في التوقيتات بين المباحثات التي أجراها السيد عبد العزيز الحكيم في واشنطن مع كبار صناع القرار السياسي ومنهم وزير الحرب غيتس، وبين زيارة الأخير إلى العراق، لكن بالتأكيد فإن ما تحدث به الحكيم من مسائل حول حقائق الواقع العراقي ساهم في رسم وصياغة الخطوط الرئيسية لبرنامج زيارة الوزير الأميركي التي جاءت بعد ثلاثة شهور من زيارته السابقة.
ومثلما كان اختيار رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون محافظة البصرة (590 كم جنوب بغداد) لتكون محطته الأولى والأخيرة في زيارة مفاجئة تزامنت تقريبا مع زيارة روبرت غيتس، محسوبا ويحمل دلالات وإشارات مهمة، فإن اختيار غيتس للموصل لتكون محطته الأولى قبل بغداد، كان هو الآخر محسوبا ويحمل دلالات وإشارات مهمة، لا تبتعد كثيرا عن إشارات ودلالات اختيار الرئيس الأميركي جورج بوش مع عدد من كبار مساعديه محافظة الانبار ليلتقي فيها كبار الساسة والمسؤولين العراقيين في الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
فبعد الضربات القاصمة التي تعرض لها تنظيم القاعدة في العراق في محافظات الأنبار وبغداد الرمادي، وتفكك تنظيماته وخلاياه واعتقال وقتل عدد كبير من قياداته وكوادره العليا، نقل هذا التنظيم معظم ما تبقى له من مجاميع وهياكل تنظيمية إلى منطقة الجزيرة التابعة لمحافظة الموصل والقريبة من الحدود العراقية السورية، ومن هناك، وبحسب تقارير الأجهزة الاستخباراتية العراقية والاميركية راح يعيد تنظيم صفوفه ويرتب اوضاعه، ولاحت مؤخرا مؤشرات على ذلك انعكست في مجملها من خلال عمليات تفجير واغتيال عديدة في محافظة الموصل ومناطق تابعة لها، استهدف بعضها مقرات وقيادات مجالس لتنظيمات الصحوة، واحزاب كردية من بينها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني.
وعلى ضوء ذلك انطلقت تحذيرات جدية من قبل جهات عراقية للولايات المتحدة الاميركية عبر قوات الاحتلال، مفادها بأنه اذا لم تؤخذ المتغيرات في وضع تنظيم القاعدة مأخذ الجد ويصار الى التعاطي مع قواعدها الجديدة في الموصل بحزم وحسم وسرعة فإن ذلك من شأنه أن يؤدي الى حدوث تداعيات خطيرة، ويأتي على ما تحقق من منجزات ومكاسب على الصعيد الامني خلال الشهور العشرة الماضية.
والارجح ان زيارة غيتس الاخيرة ونزوله في الموصل أولا، واجتماعاته المكثفة مع المسؤولين السياسيين والاداريين والقادة العسكريين وشيوخ ووجهاء العشائر هناك لا تخرج عن سياق توجه ادارة الرئيس جورج بوش لاتخاذ اجراءات سريعة للحؤول دون فتح جبهة مواجهة اخرى، قد تتسبب بإضعاف موقف الأخير أمام خصومه الديمقراطيين الذي بدا ان البعض منهم أخذ يتبنى مواقف تتسم بنوع من المرونة حيال اطلاق بعض التخصيصات المالية للقوات الاميركية العاملة في العراق من دون تحديد اطر زمنية للانسحاب.
وربما تعمد الوزير الاميركي ان يبحث اشكاليات الواقع مع القادة والزعماء المحليين في الموصل قبل بحثها مع الحكومة المركزية، وهي رسالة قد لا تبعث على ارتياح الاخيرة، ان لم تكن مدعاة للاستياء بالنسبة لها.
وفي كل الأحوال فإنه من الخطأ النظر الى زيارة الوزير الاميركي من هذه الزاوية فقط، لانها حملت رسائل فيها تهديد وترغيب الى ايران ودول الخليج الست، أفصح عنها بوضوح أكبر في المؤتمر الأمني الاقليمي الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في العاصمة البحرانية المنامة في الثامن من شهر كانون الاول/ ديسمبر الجاري حينما دعا دول الخليج الى الحذر مما أسماه الخطر الايراني، داعيا إياها الى التزود بمظلة دفاعية مضادة للصواريخ لمواجهة ذلك الخطر.
واذا كان في الموصل قد أطل تنظيم القاعدة برأسه بعد انحساره الواضح في الانبار وبغداد وديالى، ودفع روبرت غيتس الى الهبوط فيها اولا، فإن رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون اراد ان يبعث رسالة من نوع اخر مفادها ان القوات البريطانية نجحت في انجاز مهمتها في محافظة البصرة، وان الاوضاع مهيئة لكي تتسلم القوات العراقية الملف الامني هناك، وهو ما حصل بالفعل يوم الاحد الماضي، السادس عشر من شهر كانون الاول/ ديسمبر الجاري، في مراسم رسمية ضخمة رعاها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وحضرها عدد كبير من السياسيين والقادة العسكريين العراقيين والاجانب.
ومنذ تسلمه رئاسة الحكومة البريطانية في اواخر شهر حزيران/ يونيو الماضي خلفا لزميله توني بلير فإن زيارة براون الاخيرة تعد الرابعة الى العراق، وخلال زياراته الاربع كان ملف القوات البريطانية وامكانية انسحابها التدريجي من العراق على رأس الملفات المدرجة على جدول الاعمال.
وبما ان مسألة تسلم الملف الامني من قبل القوات العراقية قد حسمت، فإن الامور اخذت منحى اخر، مع الاخذ بعين الاعتبار بأن انجاز هذه الخطوة لا يعني بأي حال من الاحوال انهاء الوجود العسكري، واي وجود اخر للبريطانيين في محافظة البصرة، ولا سيما ان الخارطة السياسية في تلك المدينة والنزعات العشائرية والدينية والتنافس والصراع حول السلطة والثروة والنفوذ، وطبيعة موقعها الجغرافي الذي يجعلها على مرمى حجر من ايران، الخصم التقليدي لكل من واشنطن ولندن، يجعل من فكرة اقدام البريطانيين على رزم حقائبهم ومغادرة البصرة بالكامل بعيدة نوعا ما عن الواقع.
ويكفي ان الاتهامات لايران بدعم جماعات مسلحة، وبإثارة الفوضى والاضطراب في المدينة، والعمل على تقويض جهود ومساعي قوات الاحتلال "لاحلال الامن والاستقرار هناك"، يمكن ان تشكل ارضية ومبررا مناسبا ومقبولا من البعض لتسويق فكرة البقاء بأشكال وسياقات ومظاهر اخرى.
وتشير بعض المصادر الى ان براون تحدث في لقاءات خاصة مع سياسيين وعسكريين وشيوخ عشائر عن جانب كبير من تعقيدات الاوضاع في البصرة بسبب التدخلات الخارجية، ولم يجد حرجا في الاشارة صراحة الى ايران.
ولعل تصوير الامور بهذه الصورة، حتى وان كان صحيحا في جانب منه، ف
فإنه يراد منه التغطية على الكثير من جوانب القصور والخلل والفشل البريطاني في العراق، وفي البصرة تحديدا، التي تناولها تقرير للجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني صدر مطلع الشهر الجاري. حيث اشار التقرير الى ان الهدف الاساسي للقوات البريطانية في جنوب شرقي العراق كان ضمان الامن اللازم من اجل تطوير المؤسسات السياسية ذات الصفة التمثيلية واعادة تنمية الاقتصاد، ومع ان تقدما قد حصل لكن الهدف لم يكن مرضيا، وان العنف لم يتراجع في البصرة، وانه اذا كان هناك دور للقوات البريطانية في العراق فهو ضرورة ان تكون قادرة على القيام بأكثر من مجرد ضمان امنها الخاص في القاعدة الجوية في البصرة.
ومن خلال ذلك وغيره، يبدو ان واشنطن ولندن تسعيان جاهدتين الى رسم صورة ايجابية وجذابة للواقع تعكس "انجازاتهما" بعد أي انسحاب او اعادة ترتيب للاوراق والاولويات، بيد انهما في كل مرة يصطدمان بحقائق الواقع واشكالياته.
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007