ارشيف من : 2005-2008
محمد نجيب فضل الله في "صليل القوافي": شاعر القضايا الكبرى والمحورية
من مسيرته الإبداعية الريادية، تأسيساً على ذلك، مع نشر نماذج من أغراضٍ مختلفة من شعره المطبوع ببصمته الخاصة، والدال على فكره وشخصيته، في كتابٍ صادر حديثاً عن المنتدى بعنوان: "صليل القوافي"، هو بمثابة "إطلالة على هذه الشخصية في سياق إعادة إحياء التراث العاملي، لتبيان بعض ملامحها، والدور الذي أدّته على المدى الزمني لعطاءاتها"، كما جاء في المقدمة للنائب حسن فضل الله.
قال "هيبوليت تان" يوماً في تعريفه لماهية الشاعر الحقيقي والأصيل: "يعتبر الشاعر أثراً من آثار الجنس والبيئة والزمان"، وفي "صليل القوافي"، نقع على ما يدلّ دلالة صريحة على فحوى هذا القول، الذي نتمثله هنا، على ضوء الدور الريادي الذي أدّاه الشاعر السيد محمد نجيب فضل الله في التزامه الإبداعي المخلص لكافة القضايا الحياتية الكبرى والمصيرية لأهل مجتمعه في "حلّهم وترحالهم"، إذ أن أشعاره ذات المواضيع الاجتماعية والسياسية لم تكن سوى لسان حالهم، المعبّر عن واقعهم المعيش.
فبصمات هذا الالتزام تدفع تجربته الشعرية النهضوية التي حملت لواء التحرّر الوطني والقومي الجماهيري، اجتماعياً وسياسياً، هو الذي ساهم شعره، بتأثير من نشأته الدينية والعلمية في بلورة الوعي العاملي لأهل زمانه، نظراً للترابط العاطفي المحكم بين حياته وشعره، حيث تلازم هذا الشعر والحياة الاجتماعية لبيئته تلازماً عضوياً، ومن هنا كان لهذه التجربة مكانتها البارزة في حقل من حقول ثقافتنا الإبداعية التاريخية المحلية والعربية. إذ أن صاحبها كان له حضوره المؤثر وموهبته وتفرّده في ميدانه شاعراً وخطيباً منبرياً، وبالتالي، كان له موقعه ووقعه وإيقاعه في تراثنا الثقافي الحديث، والمجيد، الذي كان شاعرنا ـ وتعويلاً على المقدمة ـ أحد أعلامه البارزين، رائداً من رواد الشعر الاستنهاضي (الثوروي) في جبل عامل خاصة، ولبنان عامة، ومَعلماً بارزاً في التاريخ الأدبي والثقافي العاملي، إذ هو جزء من منظومة الأدب السياسي الذي عرفه الجنوب اللبناني على امتداد الحقبة الزمنية التي عاصرها، وهي الحقبة التي شهد فيها موطنه ومحيطه المحلي وامتداداته الإقليمية، التحولات الكبرى على المستويات السياسية والجغرافية والأمنية.
فالشاعر السيد محمد نجيب فضل الله (1908 ـ 1990م) هو ابن "قرية عيناثا، إحدى الحواضر العلمية في جبل عامل (الجنوب اللبناني)، وهو من آل فضل الله، العائلة العلمية ـ الأدبية، التي أحيت في تلك البلدة مناراتها العلمية".
لذا نرى في هذا الكيان تقاطع السيرة العلمية ـ الأدبية للشاعر مع السيرة العلمية ـ الأدبية، لبلدته التي تلقى في حوزتها العلمية التاريخية، علومه الدينية ـ الفقهية واللغوية والأدبية على يد أكبر فقهاء عصره، فنشأ السيد محمد نجيب متأثراً بشخصيتين فقهيتين وأدبيتين لامعتين: عمّه شقيق والده، وأستاذه المباشر.
الألوان الشعرية للشاعر السيد محمد نجيب فضل الله، هي كثيرة ومتنوعة منها المديح والرثاء والغزل، وأغراضه، منها الديني والوطني والقومي، مع ذلك فإن هذا الكتاب يكشف لنا عن الوجه السياسي لشعره ـ الذي لم يتوافر جمعه كاملاً حتى الآن ـ ولأن هذا الوجه الشعري شديد الاتصال والترابط ببيئته ومجتمعه في حقبة مهمة من حياة شاعرنا، وهي الحقبة التي ارتبط فيها اسمه ارتباطاً وثيقاً بالواقع السياسي والاجتماعي لبيئته وظروف تطوراتها السياسية والاجتماعية، لذا فإن هذا الكتاب يتمحور حول الدوافع الخلفية التي شكلت ـ بالضرورة ـ التكوين الذهني والنفسي والتركيبة الذاتية للشاعر، اضافة إلى ما يحويه شعره من مقتضيات حتمتها تلك المرحلة وطبعتها بطابعها المميّز، تبعاً للدوافع التي حرّكتها ورسمت توجهاتها.
قضايا محورية كثيرة نجدها هنا، تناولها الشاعر في شعره وأثارها على الملأ في قصائده القومية والوطنية، من أواخر الاحتلال التركي المستبد لجبل عامل، إلى الاستعمار الفرنسي لبلادنا، إلى احتلال فلسطين، إلى الاحتلال الصهيوني للجنوب، كل هذه الأحداث العاصفة عايشها الشاعر وعانى من لظاها، إلى جانب القضايا الاجتماعية الداخلية الملحّة، كالإهمال السلطوي للجنوب المحتل، وقضية الفساد وغيرها.
ومن قصائده في مخاطبة الاحتلال الصهيوني يبثّ في بني قومه روح الإقدام، ويستحثهم على المقاومة:
بقوله:
هبونا جناة حاكمونا أو اصرفوا
رعاتكم عنا فلسنا مواشيا
تباح حدود بالحديد وباللظى
وترجع أيام الغزاة كما هيا
وما الخوف بالمبقي عليك ومن يخف
لباس المنايا عاش في الناس عاريا
وما المجد بالأحلام يدرك والمنى
ولكن بجدٍ لا يهاب الضواريا
لقب السيد بـ"شيخ شعراء جبل عامل" لقوة شعره ودوره ومواقفه الجريئة، متمسكاً بالأصالة لغة وديناً". ومن تجليات ذلك تصويره لولادة الرسول الأكرم (ص) في استهلال قصيدة طويلة:
أطلّ ملء فم القرآن وارتفعا
صوت من الله.. هزّ المشرقين معا
أطلّ والفتنة الحمراء لاهبة
من الحجاز نبي أطفأ البدعا
ومن قصيدة له في فلسطين نظمها وأنشدها في العام 1946 هذه الأبيات التي تحاكي واقعنا الحالي في مفارقة لافتة:
قم سائلاً عن فلسطين وحالتها
يحكي لك الركب عنها عجب العجب
سماؤها بشواظ النار لاهبة
كأنها شهب ترمى على شهب
بنوة العرب جدي في الوغى وخذي
بالسيف حقك أو موتي على الحسب
ما قام مجدك إلا والوغى أجم
ولا استتب بغير السمر والقضب
هذه بعض باقاتٍ لمّاحة لشاعرٍ كان له شرف مواجهة التاريخ بهامةٍ مرفوعة وجبين عالٍ انطلاقاً من مسؤوليته النضالية المجردة من الأهواء، مسخراً كل مشاعره في خدمة الحق والحقيقة، هو الذي ردّ على من سأله التخفيف من حدة التحدي للعدو الصهيوني في شعره وخطبه، خوفاً من تعرضه للأذى، في بيت رائع وكأنه يختصر فيه كل مقومات شعره التحريكي اذ قال:
يأبى عليّ الشعر أن أستسلما
للحادثات وأن أكون المُلجما
أحمد ياسين
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007