ارشيف من : 2005-2008

مشيّد شريعة جده سيد المرسلين محمد(ص) : الإمام محمّد الباقر باقر علوم الأولين والآخرين

مشيّد شريعة جده سيد المرسلين محمد(ص) : الإمام محمّد الباقر باقر علوم الأولين والآخرين

الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام, الملقب والمعروف بالباقر, باقر علوم الأولين والآخرين, ومشيد شريعة جده سيد المرسلين محمد(ص), سَبَقَ الدنيا بعلمه, وامتلأت الكتب بحديثه.‏

وُلد بالمدينة المنورة يوم الجمعة من سنة 57هـ, وكان أول مولود اجتمع بنسبه الإمامان الحسن والحسين(ع), لأن أمه هي فاطمة بنت الحسن بن علي(ع).‏

أقام مع جده الحسين أربع سنين, وحضر واقعة كربلاء, كما عاش مع أبيه زين العابدين 35 سنة, وبعد أبيه 18 سنة, وهي مدة إمامته.‏

كان كثير الذكر, ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله, وكان لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلا الله, وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة, مشهور الكرم في الكافة, معروفاً بالتفضل والإحسان, وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه, وكان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني.‏

عاصر من الخلفاء الأمويين الوليد بن عبد الملك, وسليمان بن عبد الملك, وعمر بن عبد العزيز, ويزيد بن عبد الملك, وأخاه هشاماً. وفي عهدهم ضعفت سلطة بني أمية بفعل الثورات المتلاحقة وغيرها من الاسباب فآلت بشمسهم إلى المغيب. الأمر الذي وسم الظروف السياسية آنئذٍ ببعض الانفراج حيث وجد الإمام(ع) الفرصة سانحة للتوسع بنشر معارف القرآن الكريم وسنة جده رسول الله (ص) ومواكبة المستجدات واستنباط الحلول لها، لا سيما أنه وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الأفكار المنحرفة التي تغلغلت وسط المسلمين مع اتّساع رقعة الفتوحات، فضلاً عن شيوع الأحاديث المدسوسة التي كان لا بدّ من التصدي لها. فقام بحمل عبء الإمامة الدينية والزعامة العلمية في عصره, وانهال عليه الناس يستفتونه عن المعضلات ويستفتحونه أبواب المشكلات.‏

وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتى سمي باقراً، فقد جاء في لسان العرب أنه لقب به (أي بالباقر) لأنه بقر العلم، وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فيه. والتبقر التوسع.‏

وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة: سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف، وحقائق الأحكام والحكم، ولطائف ما لا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه.‏

وقال المفيد: "ولم يظهر عن أحد من أولاد الحسن والحسين عليهما السلام من العلوم ما ظهر منه من التفسير والكلام والفُتيا والأحكام والحلال والحرام".‏

ولم يكن اهتمامه منصباً على الفقه وعلوم القرآن فحسب, بل تعداهما إلى علوم أخرى; كالحكمة والتاريخ والكيمياء واللغات وغيرها ما اجتذب إلى مدرسته الصديق والمعاند, والمحب والمبغض, ووفد إليه كل طالب علم من كل قطر ومصر، واعترفوا جميعاً بفضله وعلمه. واستقى من منهله العذب كل متعطش لمعرفة الحقيقة, فهذا الدهري (الذي لا يؤمن بالمعاد) يسأله تارة, وهذا الخارجي (من الخوارج) يُجادله أخرى, وهؤلاء أئمة المذاهب يأخذون عنه ويعترفون بعلمه وفضله وزهده.‏

وقد قال عطاء وهو أحد كبار علماء العامة يصف الامام الباقر (ع): ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم في مجلس أبي جعفر الباقر. لقد رأيت الحكم بن عيينة وهو من كبار علماء عصره كأنه عصفور مغلوب لا يملك من أمره شيئاً.‏

وقال عبد الله بن عطاء المكي: "لقد رأيت الحكم بن عيينة مع جلالته وسِنِّه عنده, كأنه صبي بين يدي معلّم يتعلم منه".‏

وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين, من أهل الفضل والعلم ممن تربوا على يديه أمثال زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي وجابر بن يزيد الجعفي وأبان بن تغلب، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار وآخرين. وممن تتلمذوا عليه أمثال ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والطبري والبلاذري والسلامي والخطيب وغيرهم.‏

وقد روى عنه محمد بن مسلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث، أما جابر الجعفي فقد قال: حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً.‏

وكان في كل ما يروي، يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقواله من القرآن. هكذا يروي أبو الجارود قال: قال أبو جعفر (ع): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب اللـه... ثم قال: حتى أن اللـه نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال: فقالوا يا بن رسول اللـه وأين هذا من كتاب اللـه؟ فقال: إن اللـه عزّ وجلّ يقول في كتابه: «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ» (النساء/114) وقال : «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللـه لَكُمْ قِيَاماً» (النساء/5) وقال: «لاَ تَسْألُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (المائدة/101).‏

ومن نماذج هديه الرائد قوله(ع): "إيّاكَ والكسلَ والضّجرَ فانّهما مفتاحٌ لكلِّ شَرٍّ، إنّك إنْ كسلت لم تؤدِّ حقّاً وإنْ ضجرتَ لم تصبرْ على حقٍّ".‏

وقوله(ع) في وصيّته لعمر بن عبد العزيز الحاكم الاموي المعروف:‏

"أوصيكَ أنْ تَتَّخِذَ صغيرَ المسلمين ولداً، وأوسطَهُم أخاً، وأكبرَهُم أباً، فارْحَم وَلَدَكَ، وصِلْ أخاكَ، وبِرّ والدَكَ، وإذا صنعتَ معروفاً فرَبِّهِ".‏

توفي الإمام الباقر(ع) مسموماً بالمدينة يوم الاثنين السابع من ذي الحجة سنة 114هـ, وعمره 57 سنة, ودفن بالبقيع في المدينة المنورة مع أبيه علي بن الحسين وعمه الحسن بن علي(ع).‏

الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007‏

2007-12-19