ارشيف من : 2005-2008
لا نصـدّق
كثيرة تنذر بأوخم العواقب على المصير الوطني. بنهاية العام ينتهي العقد العادي لمجلس النواب، ولن يستأنف قبل منتصف آذار (مارس) .2008 خلال هذا الفاصل الزمني لا يُعدل الدستور من أجل انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية بمبادرة من النواب. ولا نستبعد عند ذاك أن يُصرف النظر عن التعديل، أي عن انتخاب قائد الجيش، ويسقط واقع التلاقي بين مختلف الأفرقاء السياسيين على مرشح توافقي متميز للرئاسة في شخص العماد ميشال سليمان، فتنصرف اهتمامات الساحة السياسية البائسة مجدداً إلى التوافق وإنما هذه المرة على من لا يتطلب انتخابه تعديلاً دستورياً. والعماد سليمان، المعروف بحرصه على كرامته، لن يرضى بنهاية العام الجاري بأن يبقى دمية على مسرح التجاذب السياسي العبثي والعقيم إلى ما لا نهاية. فيعود السجال إلى المربع الأول، أي إلى هذيان التوافق وخيار الانتخاب بأكثرية مطلقة أو بمن حضر والمناداة بحكومة تستأثر بها الأكثرية النيابية باسم الديمقراطية، وفي المقابل الإصرار على المشاركة من جانب المعارضة بنصيب من المقاعد الوزارية يستحيل التوافق عليه بين الطرفين.
لا نصدق أن لبنان سيبقى أسير دوامة قاتلة وليس فيه من يسأل عن المصير. لا رأي عام يدين أو يردع في غياب الديمقراطية الحقة، في ظل تبعثر الشعب قبائل تباعد بينها عصبيات فئوية، طائفية ومذهبية وعشائرية رخيصة، تغذيها قيادات هي أقرب إلى الوثنية في ولاءاتها منها إلى الوطنية.
لا نصدق أن قيادات هذا البلد الصغير لا تصغي إلى صوت الضمير فتنصاع إلى إرادات خارجية بصفاقة ما بعدها صفاقة، من دون اعتبار لمصير شعب أو مجتمع أو وطن أو دولة. هذا يصغي إلى أميركا ومن حيث لا يدري إلى إسرائيل، فلا فرق بين الصوت الأميركي والصوت الإسرائيلي في لبنان والمنطقة ولا حتى في التفاصيل. وذاك يصغي إلى سوريا وإيران. وفي حمأة الصراع بين المعسكرين يدفع الوطن الصغير الثمن، ومعه المواطن البريء. ما أفعل المتورطين مع جهات خارجية وما أكثر الأبرياء، وهم الضحايا، في هذا البلد.
لا نصدق أن الدولة العظمى توفد مندوبيها إلينا في غيرة علينا غير معهودة. ويا ليت تلك الغيرة، من جانب حليف لعدو غاشم، لم تكن. فمن الحب ما قتل. يتحفنا المندوبون الأكارم بالنصائح التي تستبطن أوامر، وبالرسائل التي تحفل بالتعليمات والإنذارات، كل ذلك مع ترداد الإصرار على عدم التدخل في شؤوننا الداخلية.
لا نصدق أن مصيرنا يقرر في الخارج على هذا الوجه المخزي. قلّ بين ساسة لبنان الميامين الأشاوس من بقي قراره في يده. وكلهم يتشدّقون بالحرص على المصلحة الوطنية ويزايدون في الالتزام الوطني، والوطنية منهم براء.
لا نصدق أن المصير الوطني يُهدر على مذبح التعنّت المتبادل، والتعنت في هذا المقام يعادل الرعونة الخرقاء.
لو كنت في مكان ما يسمى أكثرية نيابية لما تشبثتُ باسم معين لرئاسة الوزراء في أول حكومة تشكل في عهد جديد، ولسلمتُ، ولو لمرحلة انتقالية، بمبدأ المشاركة في الحكم عبر توزيع عادل للمقاعد الوزارية بين ما يسمى أكثرية وما يسمى معارضة. هكذا ننقذ البلد وشعبه إن شئنا.
ولو كنت في مكان ما يسمى معارضة لدعوت الوزراء المستقيلين جميعاً إلى المشاركة في جلسة مجلس الوزراء فيما لو انعقد لإقرار تعديل دستوري يجيز انتخاب المرشح التوافقي فوراً، ولهم، أي الوزراء المستقيلين، أن يعلنوا ما يشاؤون قبل دخولهم مجلس الوزراء وبعد خروجهم منه ولهم أن يؤكدوا أن حضورهم ليس اعترافاً بشرعية الحكومة البتراء وإنما ضمان لشرعية قرار التعديل المطلوب، وكذلك أن حضورهم تلك الجلسة اليتيمة لن يترتب عليه تسليم بجميع القرارات المتخذة في غيابهم. ولو كنت في مكان المعارضة لأعلنت أنني أمحض الرئيس التوافقي كامل ثقتي فأحجم عن طرح أية مطالب مسبقة، على أن أباحث الرئيس العتيد في هذه المطالب بعد انتخابه وأناقش الآخرين فيها عبره ثم مباشرة.
نعود فنذكّر مجدداً بأن حكومات الوحدة الوطنية هي الشذوذ وليست القاعدة في ظل ديمقراطية سليمة. فالقاعدة الديمقراطية تقوم على حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية. وبغير ذلك لا يستقيم مبدأ المساءلة والمحاسبة الذي يعتبر من صلب فلسفة الديمقراطية . فحكومة الوحدة الوطنية تجعل الحكومة نسخة مصغّرة عن مجلس النواب في بنيته، فتنتفي إمكانية المحاسبة للحكومة، إذ تغدو محاسبة الحكومة عملياً بمثابة محاسبة مجلس النواب لنفسه. ولكن الحاجة تبقى قائمة ، حتى في الديمقراطيات الفاعلة إلى حكومة ائتلاف وطني في زمن حرب خارجية أو أزمة داخلية، فيكون الغرض من الائتلاف توحيد الموقف الوطني في جبه الخطر على المصير ومن ثم طي صفحة مرحلة وفتح صفحة جديدة. من هنا الإلحاح على ضرورة إقامة حكومة وحدة وطنية، أي حكومة ائتلافية، في لبنان اليوم وفي مستهل عهد جديد. هذا من دون أن يفوتنا أنه مطلب مرحلي وليس قاعدة ديمقراطية.
إلى ذلك نتحدث عن الديمقراطية ولا ننسى أننا لا نملك من مقومات الديمقراطية سوى صندوقة اقتراع لا تعبر عن إرادة الشعب الحرّة في ظل نظام يطلق العنان للمال السياسي كما يبيح شتى ألوان التجاوزات والهيمنة على أجواء الإعلام والانسياق الأعمى وراء العصبيات المذهبية والطائفية والعشائرية.
الجميع، أكثرية ومعارضة، وقعوا في فخ إدارة الدولة العظمى التي سعت إلى استمرار الفراغ كي تشغله، ولا نقول تملأه، حكومة تحظى برضاها المشؤوم. وهذا ما ظهر جلياً من مهمة الموفدين الذين أقبلوا لا ليوفقوا بين اللبنانيين بل لينصروا فريقاً على فريق.
لا نصدق أن هذا واقعنا المرير ونحن لا نعيه، وإن كنا نعيه فإننا لا نُبدي حراكاً في العمل على معالجته، والمسؤول في بلدنا غير مسؤول. فليس من يسأل عن حال المواطن المعذب ومصيره.
ولا نصدق أخيراً أن لبنان يتعرض لما يتعرض له من أخطار والأشقاء العرب يقفون موقف المتفرّج، فلا مبادرة ولا مشروع حل أو تسوية ولا موقف صارما حازما في التصدي للتدخلات الخارجية الفاجرة في شؤون بلدنا الداخلية. سقى الله أيام الطائف. فالطائف لم يكن تدخلاً خارجياً هجيناً بل كان وساطة أخوية عربية مباركة.
ألم يدرك أشقاؤنا بعد أن المستهدف ليس لبنان وحده وإنما المنطقة جمعاء بمن فيها كل منهم بلا استثناء؟ هل كان من الصدفة أن يتزامن حال التوتر والانقسام في بؤر متعددة في لبنان وفلسطين والعراق والسودان في آن واحد، ناهيك بما يدور في الجوار القريب أو البعيد، ومنه أفغانستان والباكستان وما يدبّر لإيران وما تتعرض له سوريا من تهديدات؟ فأين هم الأشقاء الكبار في التصدي لهذا الواقع الخطير؟ وأين هي جامعة الدول العربية؟
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية