ارشيف من : 2005-2008
ماتت أنابوليس، عاشت صندوقة اقتراع بوش
ودمشق تجيب بأن الفهم العميق لهذه المسألة يقتضي العودة أولاً إلى التحول الجذري الذي طرأ على مفهوم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث 11 أيلول 2001.
قبل ذلك التاريخ، كان ثمة فصل شبه كامل بين ما يعرف بالمثلث الفدرالي في العاصمة الأميركية وتلة الكابيتول. أي فصل عملي وسلوكي بين ما تقوم به الإدارة الأميركية الموزّعة على البيت الأبيض ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي بكل فروع هذه المواقع، من جهة، ومحاسبة الكونغرس لها في مجال السياسة الخارجية للدولة العظمى. وكان نظام التفاعل بين الطرفين مقتصراً على معادلة الخدمات الداخلية والتنفيعات المتبادلة، وهو ما يعرف في واشنطن «بالنظام المهترئ»، أو «سبوبلد سيستم».
إلا أن زلزال 11 أيلول، نسف صيغة التعايش تلك بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
إذ تكوّن انطباع لدى المواطن الأميركي بأن سلامته الشخصية وأمنه ورفاهه وازدهاره وكل مصالحه الحيوية على أرضه، باتت مرتبطة للمرة الأولى منذ بيرل هاربور، بالسياسة الخارجية لدولته وإدارته. وسرعان ما تبلور هذا الانطباع الفردي رأياً عاماً أميركياً جامعاً، وهذا ما انعكس تدريجاً اهتماماً أكبر لدى أعضاء الكونغرس بالسياسة الخارجية، من زاوية التزامهم مصالح ناخبيهم.
هكذا صارت السياسة الخارجية لواشنطن شأناً داخلياً بامتياز، وصارت المسافة بين «فوغي بوتوم»، مركز وزارة الخارجية، وتلة الكابيتول أقصر بكثير من قدرة الإدارة على عزل تعاطيها الخارجي.
منذ ذلك التحول العميق، صار الأداء الدولي لواشنطن محكوماً بمعادلة واحدة: كيف ينعكس في الانتخابات المقبلة، أو كيف «يقرَّش» في صناديق الاقتراع.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم الخطاب الأميركي الراهن حيال لبنان خصوصاً والمنطقة عموماً. فالولايات المتحدة دخلت عملياً في سنتها الانتخابية، وسط انهيار جمهوري وتقدم ديموقراطي، وهو ما تجسّد طيلة أكثر من عام ضغوطاً من جانب حزب بوش عليه وعلى إدارته لتحسين الأداء والسلوك، حفاظاً على الرصيد الانتخابي للجمهوريين.
وفي هذا المجال، بات واضحاً أن ما يمكن تحقيقه في السياسة الخارجية، بطريقة تنعكس إيجاباً على الصعيد الانتخابي الداخلي، مقتصر على ساحتين اثنتين: العراق وفلسطين. في الساحة الأولى المردود الإيجابي فوري، لأن هناك مواطنين أميركيين في حال الخطر، وكل كيس للجثث يعود من بغداد يُنقص أصوات الجمهوريين كمية ملحوظة. أما في فلسطين، فالمردود الإيجابي يمر عبر اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، فكلما أدّت السياسة الأميركية في تلك الساحة إلى مراكمة المكاسب الإسرائيلية، تحرّك اللوبي المذكور لدعم أصحاب تلك السياسة في انتخاباتهم.
وبين العراق وفلسطين، ثمة قاسم مشترك في المقاربة الأميركية، اسمه سوريا. هكذا توجه الأميركيون نحو دمشق في إطار «عملية أنابوليس»، بخلفية الحصول من بشار الأسد على أمر من اثنين على الأقل: إما المساهمة في تحقيق مكسب أميركي في بغداد، وإما السماح بتحقيق إنجاز إسرائيلي بين غزة ورام الله.
وكانت الأجندة واضحة، كما تقول الأوساط المتابعة نفسها، في العراق المطلوب دعم خطة أميركية قدّمها بوش لانسحاب عسكري كبير خلال سنة 2008، في مقابل تركيبة عراقية قابلة للحياة، ومرتبطة مع واشنطن بمعاهدة أمنية وعسكرية واقتصادية شاملة. وفي فلسطين المطلوب الوصول سريعاً إلى تذليل عقبة «حماس»، واستتباب المشروع الفلسطيني المتجدد بعد أنابوليس.
وتؤكد هذه الأوساط أن المسألتين تعثّرتا سريعاً بعد اللقاء الذي استضافته عاصمة ميريلاند. فحضور دمشق في أنابوليس لم يترجم عملياً في أي من المكانين. وتكشف هذه الأوساط أن لقاءً عقد في العقبة في الأيام الماضية بين الأميركيين وأطراف من المعارضة والمقاومة العراقيتين، بينهم ممثلون للرئيس الراحل صدام حسين، لم تأت نتائجه مشجعة، وقيل إن السبب عدم التعاون المرضي سورياً. فيما على الجبهة الفلسطينية، تردد أن دمشق أعطت إشارات جديدة إلى إمكان انعقاد المؤتمر الفلسطيني المعارض على أرضها، الذي كانت قد ألغته قبل أنابوليس.
هكذا أصيبت إدارة بوش بصدمتين، قياساً إلى توقعاتها وافتراضاتها الكامنة ربما، أو المتبادلة بينها وبين السوريين. فعادت لغة الضغط والتهويل والتهديد حيال دمشق، في وقت يبدو فيه النظام السوري خارجاً من صحراء ما بعد اغتيال رفيق الحريري، وتبدو الإدارة الأميركية داخلة في نفق الهاجس الانتخابي للثلاثاء الأول من تشرين الثاني المقبل.
من يقرأ الحركتين بدقة؟ وليد جنبلاط واحد منهم، تقول الأوساط.
المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية