ارشيف من : 2005-2008
الجيش في الواجهة
بدلالته على هذا الصعيد ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية. لعل هذا يؤكد بداية أن هذه المؤسسة باتت تؤدي مهمات وطنية متعددة. الجيش الآن هو النواة الأساسية التي تتجسد فيها الوحدة الوطنية، وهي مرشحة الآن لتلعب دوراً أساسياً في إحياء مؤسسات الدولة الأخرى التي فقدت شرعيتها في الأزمة. كما أن الجيش يقوم بمواجهة تحديات أمنية مختلفة الوجوه، بينها أمن الحدود، والحفاظ على السلم الأهلي الداخلي، ومقاومة الإرهاب.
لم يكن ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية بتوافق إقليمي مجرّد اختيار لرجل يتمتع بميزات شخصية تجعله الأكثر قبولاً وحظوة لدى معظم القوى السياسية وتأييداً شعبياً واسعاً. لقد اختير لأنه على رأس المؤسسة الوحيدة الباقية خارج النزاع السياسي. وقد حافظت هذه المؤسسة على تماسكها واستقلاليتها في ظل تجاذبات سياسية وطائفية قوية، وبرزت كأداة للإنقاذ. إنها تعطي مثالاً حياً، لم يتوفر في غيرها، على أن اللبنانيين قادرون على العيش معاً في انضباط وانسجام إذا هم أعطوا إطاراً صحيحاً ونظاماً نظيفاً يرعى شؤونهم وينظم علاقاتهم. امتحنت السنوات الماضية هذه المؤسسة في منعطفات خطيرة وبالغة التعقيد والحساسية. اجتازت كل المطبات واستطاعت أن ترسم الحدود الواضحة كأداة للسلم الأهلي والنأي عن الانقسام السياسي ومحاولاته استتباع هذه المؤسسة والهيمنة عليها واستخدامها.
الجميع يعرف أنها لم تنجرف في قرارات سياسية كان يمكن لها أن تهدد وحدتها أو تدخلها في متاهات الانقسامات والمصالح السياسية. وكانت أبرز أدوارها تلك التي أدارت من خلالها أزمة الشارع وتمكنت من فرض احترامها وهي تحمي الحريات العامة وتدافع عن المؤسسات. لقد أدى استلهامها المصالح الوطنية العليا إلى تأكيد وتعزيز استقلالها وعمّق ووسّع الثقة والتأييد الشعبيين لقيادتها تحديداً، في الوقت الذي أخذت فيه المؤسسات الدستورية تتحوّل إلى مواقع مذهبية متناقضة.
لكن تصدي الجيش لحرب مخيم نهر البارد مع تنظيم عسكري متطرف هو «فتح الإسلام» وضع الجيش على تماس مباشر مع مهمة معقدة هي مقاومة «الإرهاب». فالإرهاب ليس عدواً سهلاً وهو لا يقدّم نفسه في هيئة جماعة معلنة الحدود والأهداف. بل هو عالم مغلق يترعرع في قعر المجتمع والزوايا المظلمة منه ويتشعب في المناخات السياسية والطائفية ويحتمي بها. بل لعله يتقاطع مع مصالح قوى كبرى ودول وأجهزة مخابرات يوظفها وتوظفه. ويعشش الإرهاب في البيئات المعزولة وأحزمة الفقر والبؤس ويختلط بأشكال أخرى من التظاهرات السياسية المقاومة لسلطة الدولة وللنظام العام.
لقد أدى انخراط الجيش في مهمة المواجهة مع الإرهاب إلى تقدمه في الواجهة على المؤسسات السياسية. بل ظهر وهو يخوض مواجهة «البارد» وكأنه ينتزع لنفسه دوراً لا تحميه الدولة المنشغلة بصراعاتها السلطوية وانقساماتها الفئوية. وكلما برز الجيش كهيئة للإنقاذ السياسي تتعاظم الأخطار في وجهه ويتحوّل إلى هدف أساسي في الصراع. ولن تحمي الجيش فقط يقظته الأمنية وتماسك صفوفه وإرادة قادته بل هو يحتاج إلى مجتمع يحضنه ودولة ترعاه وترعى شؤونه واحتياجاته.
لقد كبرت مهمات الجيش وصار الفراغ السياسي يثقل عليه ولن يكون وحده قادراً على حماية النظام السياسي والصيغة اللذين يتعرضان إلى امتحان عسير.
فإذا كان الجيش هو الرهان الآن للحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي وهو أيضاً النموذج المرتجى لعلاقات اللبنانيين، والحامي للمؤسسات إلا أنه لا يمكن أن يكون بديلاً من تلك المؤسسات التي يجب أن تستعيد أدوارها ووظائفها ومهماتها.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية