ارشيف من : 2005-2008
مؤتمر بالي حول الكارثة المناخية: كارثة!
قيل قديماً: "شر البلية ما يضحك". وما ينبغي قوله اليوم هو شيء من قبيل "خير البشائر ما يبعث على البكاء". مع الإشارة الى أن البشائر المقصودة هي من النوع الذي يطلع من جهة ذات شرعية مترنحة، إذا لم نقل بأنها فاقدة للشرعية. والجهة المقصودة هي، في هذا المقام، منظمة الأمم المتحدة التي بشرت، في مؤتمر المناخ العالمي الذي انعقد في جزيرة بالي الإندونيسية السياحية بين 3 و14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بشرت البلدان غير النامية بالتوصل إلى اتفاق من شأنه أن يسهل مستقبلاً نقل التكنولوجيا الخضراء إلى تلك البلدان. ولو تساءلنا، بعد أن نفترض بأن نقل تلك التكنولوجيا سيشكل فعلاً خشبة خلاص لتلك البلدان، حول فحوى ذلك الاتفاق، لوجدنا أنه لم يتكلم إلا عن "أواليات عديدة" وغامضة وعن تشكيل فريق خبراء مهمته "التفكير" بسبل نقل تلك التكنولوجيا إلى تلك البلدان خلال المرحلة الثانية من العمل ببروتوكولات كيوتو. لكن ما تكلم عنه يشي بأن الكارثة البيئية قد بدأت تتكشف، شأنها شأن "تربية الأمراض" و"اختراع الحروب" عن مجالات بالغة الخصوبة لتوظيف الأموال وجني الأرباح الخيالية في عالم معاصر بين أهم سماته أنه يتلوى كما يتلوى الملدوغ تحت القصف المركز الذي ينطلق من فوهات الرأسمالية المتوحشة التي تخفي وجهها البشع تحت أسماء الليبرالية الاقتصادية وحرية السوق.
والكلام عن الأواليات وعن الخبراء الذين سيفكرون مستقبلاً هو محاولة للتستر على المؤامرة التي بدأ تنفيذ فصولها فعلاً فوق أرض الواقع: هنالك كارثة بيئية تضرب العالم بسبب التكنولوجيا القبيحة (الاعتراف بقبحها، وإن جاء متأخراً، شهادة دامغة من أهلها بعد قرون من التزمير والتطبيل لعظمتها ولعظمة مبتدعيها). لذا ينبغي استبدالها بتكنولوجيا جميلة ونظيفة وخضراء إلى آخر السلسلة. وهذه التكنولوجيا بدأت تخطو خطواتها الأولى في البلدان الصناعية، أي التي تسببت بالكارثة الناجمة عن التكنولوجيا الوسخة؛ وهذه البلدان لا تعاني من أية مشكلة لأنها قادرة، بفضل تقدمها العلمي، على المضي قدماً، وحتى الشوط الأخير، في ابتكار تكنولوجيات نظيفة. لكن المشكلة خاصة بالبلدان غير المتقدمة. والحل بسيط: نقل التكنولوجيا النظيفة من البلدان المتقدمة إلى البلدان غير المتقدمة. مع ملاحظة بسيطة مفادها أن كلمة "نقل" المتداولة تأخذ معنى غير المعنى الذي يتبادر إلى الذهن. والمعنى الذي تأخذه يتحدد انطلاقاً من السياق. والسياق هو حرية السوق، أي حرية أرباب السوق. ووفقاً للسياق، يصبح "النقل" بمعنى "البيع". ووفقاً لحرية السوق، يكون البيع بالثمن الباهظ. وباليورو! لأن أوروبا أكثر تقدماً في تطبيقات التكنولوجيا النظيفة، لأن سطوتها التاريخية على سوق النفط لا ترقى إلى مستوى السطوة الأميركية.
الواضح أن هذه الترسيمة المنطقية في حل المشكلة الناجمة عن الكارثة المناخية تنطوي على مشروع جدي لإدخال العالم الثالث ـ طالما ان الحديث "قائم قاعد" عن "ما بعد الحداثة" ـ في عصر ما يمكن أن نسميه بالاستعمار ما بعد ـ الحداثي، بعد قرون الاستعمار بشكليه القديم والجديد والتي أنهكته بالصورة التي نشهدها اليوم.
تفصيل ذلك أن أصحاب المشروع يعلمون أن بعض بلدان العالم الثالث تمتلك رساميل مالية ضخمة وبعضها الآخر فقير، بعد عقود الإفقار المبرمج من قبل صندوق النقد والبنك الدولي وفساد الأنظمة، لكنه يمتلك ثروات طبيعية وبشرية جديرة بأن توضع الخطط للاستيلاء عليها. ولما كان هذه البعض الآخر من البلدان أفقر من أن يمتلك الرساميل اللازمة لشراء التكنولوجيا النظيفة، فإن صندوق البيئة الدولي التابع للأمم المتحدة جاهز، بعد صندوقي إعادة الهيكلة السيئة الذكر، لاستنفاد ما تبقى من ثروات العالم الثالث ولإغراقه بالمزيد من المديونيات. يكفي، بعد الاتفاق، أن تقرر البلدان المعنية ما تحتاج إليه من مرافق التكنولوجيا النظيفة وأن ترفع ذلك إلى الصندوق الذي يقوم من جهته بوضع استراتيجية للتنفيذ، على ما يقوله الأمين العام لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول المناخ، إيفو دو بوير. أما الاستراتيجية المذكورة، فإن أمرها متيسر لأن المؤسسات المالية الدولية قد سارعت إلى تقديم اقتراحات لتسهيل الحصول على القروض، وخصوصاً أن العديد من البلدان الفقيرة تبدو أكثر استعجالاً من الممولين والمستثمرين للدخول في اللعبة لأسباب معروفة: سياسات الترشيد التي تتقنها الأنظمة المطواعة...
هذا في ما يخص البشارة التي تبعث على البكاء والتي يمكن وصفها بأنها "النجاح" الوحيد الذي حققه مؤتمر بالي. فالمؤتمر الذي خصصت الأمم المتحدة أشهراً لتحضيره وأسبوعين كاملين لعقده، بمشاركة ما لا يقل عن عشرة آلاف مندوب من 190 بلداً، تعرض للتأجيل بعيد افتتاحه بسبب الخلافات التي نشبت فيه حول المسألة التي يقول قسم من المعنيين انها ذات أهمية قصوى. تلك المسألة هي المطلب الأوروبي، غير القابل للمساومة والقاضي ـ من أجل إبطاء تسارع سخونة الأجواء والحد من ارتفاع مستوى سطح البحار وتسارع الأعاصير وموجات الجفاف والتصحر وانقراض الأنواع الحية ـ بخفض انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري، في فترة كيوتو2 التي تبدأ عام 2012 وتنتهي عام 2020، بنسبة تتراوح بين 25 بالمئة و40 بالمئة قياساً لا إلى مستواها الحالي، بل إلى المستوى الذي كانت عليه عام 1990. والمعروف أن كيوتو1 التي ولدت عام 1997 وبدأ العمل بموجبها عام 2005، كانت قد نصبت لنفسها هدفا هو الحد من الانبعاث بنسبة 5 بالمئة في الفترة ما بين 2005 و2012. لكنها فشلت في تحقيق هذا الهدف "الشديد التواضع" بسبب الامتناع عن توقيعها من قبل الملوث العالمي الأول، الولايات المتحدة، لأسباب تتعلق بالمحافظة على الاقتصاد الأميركي ونمط العيش الأميركي، على ما يردده الرئيس بوش في العادة، ولو على جثة بقية بلدان العالم.
ويستند المطلب الأوروبي إلى معطيات تقرير من عشرات الألوف من الصفحات قامت بإعداده، خلال سنوات، مجموعة مكونة من آلاف الخبراء الحكوميين توصلوا إلى خلاصة مفادها أن التغيرات المناخية وما تتسبب به من كوارث ليست ظواهر طبيعية بل هي نتيجة للنشاط البشري. والنشاط البشري هو تحديداً ذاك الذي أنتج كامل البناء الحضاري القائم على استخدام الطاقة (الفحم والنفط والذرة وغيرها) في الصناعة وغيرها من الأنشطة اليومية كاستخدام الطائرات والسيارات والأجهزة المنزلية في مجالات التكييف والتبريد والتدفئة والإنارة عن طريق الكهرباء وغيرها. وبالتالي، يقول الأوروبيون إن على العالم اتخاذ إجراءات تهدف، في الفترة بين 2012 و2020، إلى الحد من الانبعاث بالنسبة المذكورة عبر إدخال تعديلات تقنية على التجهيزات المستخدمة، أو عبر استحداث تجهيزات جديدة تعمل بالطاقة النظيفة.
لكن الأميركيين، ومعهم كندا واليابان وأوستراليا، ليسوا من هذا الرأي. فكما رفضوا كيوتو1، يرفضون كيوتو2 لأسباب عديدة. منها معارضتهم لتحديد أية أرقام بخصوص خفض انبعاث الغازات. ومنها أن الرقم الأوروبي (نسبة 25 إلى 40) لا يرتكز إلى عدد كاف من الدراسات العلمية. ما هو العدد الكافي، إذا ما اعتبرنا أن تقرير مجموعة الخبراء الحكوميين المؤلف من عشرات الألوف من الصفحات غير كاف؟ يبدو أنهم يفضلون الاستغراق إلى ما لا نهاية في إجراء الدراسات على أمل الاستمرار إلى ما لا نهاية في تأبيد حالة التلويث الراهنة والضررية من أجل الاقتصاد ونمط العيش الأميركيين اللذين باتا معولمين كما هو معلوم. ومنها أن المفاوضات ما تزال في أولها ومن غير المعقول التوصل إلى اتفاق بسحر ساحر، على ما قاله في بالي جايمس كونوغتون، رئيس مجلس البيت الأبيض لشؤون المناخ، مشدداً على أن المفاوضات هي عبارة عن فتح طريق (لا السير عليه) وأن الولايات المتحدة ستواصل فتح الطريق. منطق مشابه لمنطق أنابوليس في فتح طريق المفاوضات بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية. فقط يوافق الأميركيون، على مفهوم للطاقة النظيفة يعتمد بشكل أساسي على الاستثمار في "بطاريات الهيدروجين" وسوق الكربون (شراء حقوق التلويث من بعض البلدان غير القادرة على التلويث بنسب عالية، ما يعني إبقاء التلويث على حاله). لكن الأوروبيين يعتبرون ذلك غير كاف ويلوحون بعدم المشاركة في المفاوضات التي سيعقدها كبار الملوثين العالميين بدعوة من الرئيس بوش في هاواي الشهر القادم. وهكذا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، لكن الأمل لا يزال كبيراً بإعادة فتحها ولا سيما أن المؤتمر الذي كان يفترض أن ينهي أعماله ظهر الجمعة، عاد ومدد فترة المفاوضات وخصوصاً أن في الوقت متسعا حتى العام 2009 للتوصل إلى اتفاق نهائي. ولعل شعور آل غور، نائب الرئيس الأميركي السابق الذي كرس نفسه للعمل من أجل المناخ ونال جائزة نوبل لهذا العام مناصفة مع مجموعة الخبراء الحكوميين، باستحالة التوصل إلى اتفاق، هو في أساس اقتراحه توقيع اتفاق دون مشاركة الولايات المتحدة، الأمر الذي لم يلق قبولاً حتى الآن. لكن عدم التوصل إلى اتفاق ليس أمراً كارثياً، لأن المؤتمر حقق تقدماً كبيراً، على ما قاله أيفو دو بوير. لا بد أن التقدم المذكور هو ذاك الذي حصل مع الاتفاق/ البشارة المتعلق بنقل التكنولوجيا النظيفة من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة. ولا بد أن الاتفاق الأميركي الأوروبي على فرض التزامات صارمة على البلدان النامية، بعكس ما كان عليه الأمر في كيوتو1، وعودة الأوروبيين إلى الحديث، كالأميركيين، عن أن المطلوب ليس التوصل إلى اتفاقات في العمق بل إطلاق أواليات وفتح قنوات تسمح مستقبلاً بالعمل في إطار نظام للحد من التلوث، قد أسهم في تهميش الخلاف على الأرقام، وخصوصاً أن المصلحة مشتركة في تصدير التكنولوجيا النظيفة وفي المحافظة أيضاً على القدر الأكبر من التكنولوجيا الوسخة التي يقوم عليها مجمل النظام الحضاري العالمي، وخصوصاً أن التخفيض حتى بالنسبة التي يطالب بها الأوروبيون لن يمنع الكارثة البيئية من إحراز المزيد من التفاقم. ومن هنا، فإن السؤال الجدير بأن يطرح هو ذاك الذي يستلزم قيام جهة حريصة فعلاً على حاضر الأرض ومستقبلها بإجراء دراسات جدية لمعرفة ما إذا كانت تلك الأرقام أو تلك التكنولوجيا التي بدأ العالم الثالث باستيرادها فعلاً، وإن بكميات ونوعيات بسيطة حتى الآن، هي نظيفة حقاً، أم أن نظافتها شبيهة بما لا يحصى بالنظافة التي يتم تأمينها عن طريق آلاف مواد التنظيف الشائعة والمسؤولة، بالقدر نفسه كالفحم والنفط والغاز والذرة، عن ثقب الأوزون، وانقراض الأنواع البرية والبحرية، والتصحر الزاحف بسرعة مئة كيلومتر سنوياً في العديد من مناطق العالم؟ وبما أن طرح الأسئلة قد يكون أكثر جدوى من تقديم الأجوبة قد ينبغي التساؤل عما إذا لم يكن هنالك مجال للبحث عن التغيير الجذري المطلوب من أجل إعادة إرساء العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والإنسان، على أسس الاحترام والعدل والتكامل؟
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1246 ـ 21 كانون الاول/ ديسمبر 2007