ارشيف من : 2005-2008
السياسة الأميركية في لبنان: إقرار بعجز الحلفاء.. ويأس من قهر "الأعداء"
في الروايات التي تتداولها الأوساط السياسية في بيروت أن النائب وليد جنبلاط عندما زار واشنطن أخيراً في الصيف الماضي سأل نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني عن إمكانية تغطية الإدارة الأميركية لخطوة انتخاب الرئيس اللبناني بنصاب النصف زائد واحد، التي ستخطوها قوى الموالاة في لبنان، فأجابه بأنه عليه مراجعة نائب وزير الخارجية الأميركية ديفيد والش بالموضوع لأن عنده الخبر اليقين.
وعندما فاتح جنبلاط الأخير بالأمر أجابه بأننا لا نجد لكم ولنا وللبنان مصلحة في الاقدام على مثل هذه الخطوة التي تنطوي على تداعيات يصعب حصرها والتكهن بها، ولكنها لن تكون اطلاقاً محمودة لكم.
وعندما عاد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي إلى بيروت قال لدائرة المقربين جداً منه إن خياراتنا ورهاناتنا قد تهافتت وسقطت، لأن واشنطن التي نعهدها قد غيّرت وبدّلت.
ومنذ ذلك الحين غاب عن تصريحات المسؤولين الأميركيين ومعهم السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان عبارات المديح والتأييد اليومية لحكومة فؤاد السنيورة ولقوى 14 آذار، وما كان يرافق ذلك من دعوات لهذه القوى لانتخاب رئيس من نسيجها، ومن رفض مطلق ومعلن لأي تقارب أو توافق يتم بين قوى الموالاة والمعارضة للتوافق على رئيس توافقي، وإدراج ذلك في بند المحرمات وخانة المحظورات.
وأكثر من ذلك كان السفير فيلتمان، يسر في أذن سفير عربي في لبنان بلهجة الغضب، ما مفاده أن خياراتنا وتوجهاتنا في لبنان قد تلقت ضربة قوية.
ولم يكن التحول الظاهر في الخطاب السياسي، هو علامة التغير الوحيدة في النهج الأميركي تجاه لبنان وبالذات تجاه أولئك الذين داروا في فلكه طوال أكثر من عامين، ونفذوا توجهاته ورؤاه بدقة متناهية، خصوصاً لجهة الهجوم على المقاومة وسلاحها.
فالمعلوم أن واشنطن منحت باريس تفويضاً محدوداً للسعي لمعالجة الملف الرئاسي في بيروت، تلافياً للأخطار التي يمكن أن تنجم عنه ودرءاً للتداعيات التي يمكن أن تصدر منه.
ومع أن ادارة الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي، لم تفلح في الساحة اللبنانية، انسجاماً مع توجهاتها في تحقيق انجاز ديبلوماسي خارجي يحقق لها حلمها بفتح الأبواب للعودة إلى المنطقة عبر البوابة اللبنانية، إلا أن الواضح والملموس أن الإدارة الأميركية باتت تتعاطى مع الملف اللبناني وتقاربه على نحو يختلف عن طريقة مقاربتها له خلال المرحلة الماضية.
فالبيّن أن ادارة جورج بوش لم تعد تفتح عينيها صباحاً لتتباهى بإنجازات حلفائها اللبنانيين وسعيهم الدؤوب لتحقيق الديموقراطية في بلادهم، ولم تعد تغفو مساءً وهي تكيل المديح للسنيورة و"فتوحاته" السياسية والاقتصادية، وتدرأ عن حكومته البتراء "الشبهات" وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور كل من تسول له نفسه وضع نفسه في موضع النقيض لها أو مواجهتها.
ومما لا شك فيه أن هذه التحولات التي وسمت السياسة الأميركية تجاه لبنان في الأسابيع القليلة الماضية والتي فيها الشيء الكثير من الشواهد على خذلان حلفائها أو على الأقل عدم المضي معهم إلى رهاناتهم القصوى، لم تكن وليدة فراغ أو نتيجة خطوات ارتجالية، بل هي محصلة جملة معطيات ووقائع فرضت نفسها في داخل لبنان وفي المنطقة عموماً، وبالتالي عززت نزعة "البراغماتية" لدى الإدارة الأميركية وجعلتها تجنح في النهاية إلى ما جنحت اليه اخيراً، ويأتي في مقدم هذه المعطيات والوقائع:
ـ إن المعارضة الوطنية في لبنان، نجحت في الفترة الأخيرة، في إيجاد "معادلة رعب" حقيقية في الداخل اللبناني جعلت الادارة الأميركية وخصوصاً حلفاءها في لبنان، يقلعون عن تنفيذ تهديداتهم ووعودهم السابقة باللجوء إلى خيار انتخاب الرئيس بنصاب النصف زائد واحد، برغم أنهم أشاعوا مناخات مفادها وفحواها أن ساعة هذا الأمر آتية لا ريب فيها، في نهاية المطاف.
ولم تخف قوى الموالاة في معرض تبريرها وتسويفها لعدم اللجوء إلى هذا الخيار المر (خيار النصف زائد واحد)، خشيتها الكبرى من رد الفعل الجاهز لقوى المعارضة على ركوبها لهذا المركب الخشن وسلوكها هذا المسلك الوعر.
ـ إن الإدارة الاميركية قد اشتكت مراراً وتكراراً من عجز حلفائها في لبنان وقصورهم عن تنفيذ ما طلبته هي منهم في اطار مواجهتها الشرسة للمعارضة وحربها المفتوحة عليها، فالذين قُيض لهم الاستماع إلى شكاوى المهتمين بالملف اللبناني في الإدارة الأميركية، سمعوا سيلاً من الكلام حول ضعف هؤلاء الحلفاء في لبنان برغم كل ما بلغهم من دعم على أنواعه، وانكفائهم إلى موقع الدفاع عن أنفسهم وقعودهم عن القيام بأي فعل لجبه خصومهم، فضلاً عن خلافاتهم وتناقضاتهم المستمرة التي توشك دوماً على فرط عقدهم وذهابهم مذاهب شتى.
ويبدو جلياً أن قناعة عجز فريق 14 آذار عن تنفيذ ما يُوحى اليه من الإدارة الأميركية، ترسخت لدى الإدارة الأميركية ليس فقط في الآونة الأخيرة، بل منذ العدوان الاسرائيلي في تموز من العام الماضي، وهو ما ظهر جلياً في فلتات لسان وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، عندما بادرت ممثلي هذا الفريق الذين التقتهم في اللقاء الشهير في مقر السفارة الاميركية في عوكر، بكيل المزيد من الاتهامات لهم بالعجز والتقصير عن استغلال لحظة العدوان الإسرائيلي، وما نجم عنه من تداعيات ونتائج كارثية للإجهاز على خصومهم وخصومها.
ـ إن الإدارة الاميركية، وحيال عجز حلفائها البين في الساحة اللبنانية من جهة، ونتيجة حسابات جديدة تتصل بالوضع الاقليمي ككل، ولا سيما ما يتعلق منها برغبة واشنطن الواضحة في خفض منسوب التوتر العالي في المناطق، والملفات الساخنة في المنطقة من جهة أخرى، لا تمانع في أن يبقى الملف اللبناني على حاله. لذا فهي لا تمانع اطلاقاً من بلوغ الرئاسة الأولى في لبنان مرحلة الفراغ والشغور، شرط أن يكون ذلك الفراغ مضبوطاً بضوابط أمنية وضمانات سياسية تحول دون الذهاب نحو الانفجار الأمني أو الاجتماعي، وخصوصاً أن مثل هذا الفراغ الرئاسي يتيح المجال لرجلها الأول غير المنازع في لبنان فؤاد السنيورة، أن يكون عبر حكومته البتراء واللاشرعية، ممسكاً بزمام الأمور ومقاليد القرار، ولو بالحد الأدنى في لينان.
ـ إن الإدارة الأميركية وخصوصاً سفيرها في بيروت فيلتمان، باركت في الآونة الأخيرة "التسوية" التي برزت فجأة، وسمحت لقوى الموالاة بتزكية قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشحاً توافقياً للرئاسة الأولى، إلا أنها لم تخف رهاناتها المضمرة، على أن تضمن هي وحلفاؤها في لبنان إمساك ما صار يعرف بالقاموس السياسي اللبناني بمرحلة ما بعد انتخاب العماد سليمان رئيساً، وهو ما يرتبط بالحكومة المقبلة شكلاً ومضموناً وحصصاً.
وفي القراءة الأميركية لهذه المرحلة، والتي تناهت الى مسامع السياسيين في بيروت، أن هذا الأمر سيتيح لحلفائها التقاط أنفاسهم المتهالكة ولملمة صفوفهم المتشرذمة، واستعادة معنويات قاعدتهم الشعبية بعدما نالها الإحباط واليأس في الآونة الأخيرة، وبالتالي استئناف هجومهم المضاد على المعارضة في المرحلة المقبلة.
ولكن الواضح إن الإدارة الأميركية فوجئت كما فوجئ حلفاؤها اللبنانيون، بثبات المعارضة وعدم "انخداعها" بلعبة الموالاة، وبالتالي تمسكها بمطلب التوافق على كل تفاصيل المرحلة المقبلة، ليكون الأمر بمثابة خطة طريق لاجتياز الأزمة الحالية، والحيلولة دون الوقوع في أزمة وطنية أكبر.
وفي كل الأحوال، فإن المعارضة وأولئك الضالعين بتفاصيل الشأن اللبناني يعلمون علم اليقين بأن الادارة الاميركية لم تسحب يدها تماماً من الملف اللبناني، ولم تتركه بعد لخصومها، وبالتالي فهي لا تريد لحلفائها اللبنانيين والذين عقدوا كل رهاناتهم عليها، وصدقوا رواية أن في مقدورها تغيير كل معالم المنطقة وإسقاط النظام في سوريا، أن يسقطوا دفعة واحدة وينفرط عقدهم، وما من شك في أن الإدارة الأميركية، عندما تحدثت صراحة وللمرة الأولى بلسان سفيرها في بيروت فيلتمان عبر استبعاد الحديث عن سلاح المقاومة في لبنان من دائرة التداول، أنها كانت تريد أن تبعث برسائل الى من يعنيهم الأمر وفي مقدمهم حلفاؤها، تحمل في طياتها العناوين العريضة لرؤيتها للمرحلة الماضية والمقبلة على حد سواء، ومفاد هذه الرسائل الإقرار بالعجز عن تحقيق فكرة المحاصرة الداخلية لهذا السلاح من جهة وضرورة رفع "الحظر" الذي كان قائماً في السابق عن التعامل مع حاملي هذا السلاح والمدافعين عنه ومتبني النهج المقاوم.
وفي كل الأحوال، فإن الواضح أن الإدارة الأميركية أقلعت عن الكثير من رهاناتها الماضية في لبنان وكفت عن الكثير من حساباتها، وفي مقدمها سقوط الرهان على أن يشكل حلفاؤها في لبنان حاضنة لوجودها الدائم والمؤثر فيه، وتهافت الحساب على امكانية قهر المقاومة ونهجها وجمهورها وتلزيم دفة الحكم لحلفائها ليستفردوا به.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد 1245 ـ 14 كانون الاول/ ديسمبر 2007